ليس هزلياً ولا مباركاً.. ماهيّة الرد الإيراني ورسائله

حمزة المصطفى

بعد نحو عام من “انضباط لافت” استفز حتى المُحازبين والأنصار ضمن ما كان يسمى “محور المقاومة والممانعة”، ولنا في ذلك قول لاحق، جاء الرد الإيراني بما يقرب من مئتي صاروخ بالستي أمطرت سماء إسرائيل وأدخلت سكانها الملاجئ لأول مرة منذ وقت طويل. ليس ردا هزليا ولا شكليا ولا هامشيا كما يحلو لبعضهم القول، وليس “مقدسا” أو “مباركا” و “لا يَجُبُّ ما قبله” كما يبشرنا بعضهم الآخر.

في ضوء ذلك، يحتاج الرد الإيراني إلى قراءة واقعية في طبيعته، ورسائله، ونتائجه، واحتمالية تطوره نحو “الحرب الشاملة”، وهي مفردة صارت أشبه بتعويذة تُردَّد دبلوماسيا، وكأن ما يجري هو أعراضٌ أو “أضرار جانبية”.

يعدُّ الرد في ماهيّته الصاروخية للمرة الثانية خروجا على نهج إيراني استمر منذ أزمة الرهائن الأميركيين لجهة تجنُّب الدخول في صدام غير متكافئ طويل المدة مع قوى متفوقة عسكريا وتكنولوجيا تضعها طهران في خانة “الأعداء” مثل الولايات المتحدة وإسرائيل مقابل مثابرة واندفاع أكبر مع “أعداء الإقليم”.

لذلك، استفادت طهران ولعبت، حد التآمر، على إذكاء التناقضات والخلافات بين خصومها الإقليميين وأعدائها الدوليين لتتنفس الصعداء بعد احتلال أفغانستان عام 2001 مع دخول واشنطن في المعركة ضد الإرهاب، الذي صُنّف “سنّيا” هذه المرة، وذرائع أخرى من قبيل “أسلحة الدمار الشامل” أسقطت نظام صدام حسين الديكتاتوري في العراق والذي شكّل حاجزا أمام الرغبة الجامحة لإيران في التغلغل غربا تحت عباءة وفكرة “تصدير الثورة الإسلامية”.

استفادت طهران ولعبت، حد التآمر، على إذكاء التناقضات والخلافات بين خصومها الإقليميين وأعدائها الدوليين لتتنفس الصعداء بعد احتلال أفغانستان عام 2001

في ضوء ذلك، اجترحت إيران سياسة جديدة اصطلح على تسميتها بـ”بالدفاع المتقدم” بحيث تبادر عبر وكلاء للاشتباك المنضبط مع خصومها الدوليين خارج أراضيها بما يُسهم في إشغالهم الدائم وإبعادهم عن التفكير في أي هجوم عسكري مباشر ضدها، ويتيح في الوقت ذاته تحقيقَ هدفين يختصران العقيدة الاستراتيجية الإيرانية.

يتمثّل الأول في الوصول إلى سواحل البحر الأبيض عبر حدّ جيوسياسي متصل أطلقت عليه تسميات مختلفة مثل “الهلال الشيعي” أو “محور المقاومة” بما يجعلها “قوة إقليمية” فاعلة وليست دولة مهمة فقط، ويتعلق الثاني بتطوير برنامج نووي يؤهلها لدخول النادي النووي الدولي.

ولاستكمال هذه العقيدة، ابتعدت إيران عن شن أي هجوم من أراضيها ضد أهداف داخل الولايات المتحدة أو إسرائيل حتى في محطات تاريخية حرجة كاغتيال قاسم سليماني قبل أن يتغير الحال بعد قصف سفارتها في دمشق.

وعليه، يكون هجوم الأول من أكتوبر هو الأكبر من نوعه، ويؤسس لسابقة سعت إيران بكل ما في وسعها إلى تجنّبها. الأمر الذي يطرح أسئلة جوهرية عن الأسباب التي دعت طهران لهذا الرد وقدرتها على ” تجرُّع كأس سمّ”، والاستعارة هنا من مصطلح الخميني الشهير، وتحمل التداعيات الناجمة عنه.

يمثل الرد الإيراني أقلَّ “الخيارات السيئة” لطهران بعد التطورات الأخيرة المتسارعة، فهجوم السابع من أكتوبر الذي بدأته حماس مثَّلَ خَلطا للأوراق خارج الرزنامة الفارسية، وفتحَ معركة أرادها نتنياهو صفريّة لا مكان فيها لتسويات أو صفقات على المدى المنظور. وبالتدريج، بدأت الحكومة اليمينية تصفية حسابات مؤجلة خارجيا مُستغلةً تراجع القدرات العسكرية لحماس بعد عام من صمود أسطوري وانشغال أميركي وانخفاض الضغط الداخلي بشأن إبرام الصفقة اللازمة لإعادة الرهائن.

يمثل الرد الإيراني أقلَّ “الخيارات السيئة” لطهران بعد التطورات الأخيرة المتسارعة، فهجوم السابع من أكتوبر الذي بدأته حماس مثَّلَ خَلطا للأوراق خارج الرزنامة الفارسية، وفتحَ معركة أرادها نتنياهو صفريّة

بخلاف رغباتها، لم تكن جميع ساحات المحور نشطة؛ لقد حيَّد النظام السوري نفسه مبكرا وتراجع التأثير العسكري للفصائل الولائية في العراق سريعا بعد سلسلة من الضربات الأميركية العنيفة عليها ردا على الهجوم في النقطة الحدودية الأردنية مطلع شباط/ فبراير 2023. بعدها، انشغلت طهران بانتخاباتها الرئاسية بعد سقوط مروحية رئيسها السابق إبراهيم رئيسي وما تلاه من صعود نخبة جديدة تختلف، خطابيا على الأقل، عن المحافظين القدامى.

أضف إلى ذلك، أن جبهة الحوثي لم تستطع، ورغم فعاليتها، الاستمرارَ في لعب دورٍ متقدم بعد النشاط الأميركي- البريطاني في تثبيطها عبر القصف الجوي أو تأمين خطوط الملاحة. ضمن هذا السياق، بقي حزب الله وحيدا في معادلة الردع والاشتباك مع إسرائيل حيث نجح، حتى وقت قريب، بفرض قواعد اشتباك متبادلة و”محسوبة” من كلا الطرفين قبل أن تنفلت الأمور.

بكلمات أخرى، مهَّد السلوك الحذر لإيران وحلفائها تُجاه إسرائيل وتفضيلهم الحفاظ على مكتسبات النفوذ الإقليمي على ما عداه من المسائل، الطريقَ لنتنياهو، لفرض معادلة جديدة في المنطقة تقوم على “الرعب والرعب وحده” في التعامل مع الجميع من خلال إطلاق العنان إلى حدٍّ إجرامي في استخدام القوة لتصل، كمّا ونوعا وأهدافا، إلى مستويات غير مسبوقة وغير متوقعة.

مهَّد السلوك الحذر لإيران وحلفائها تُجاه إسرائيل وتفضيلهم الحفاظ على مكتسبات النفوذ الإقليمي على ما عداه من المسائل، الطريقَ لنتنياهو، لفرض معادلة جديدة في المنطقة

وهذا ما حصل في الأسبوع الأول لحربه على لبنان عبر استهداف كامل المنظومة القيادية لحزب الله وعدد كبير من مقاتليه وأنصاره من خلال أجهزة الاتصال مع ضغط كبير على قاعدته الاجتماعية لدفعها نحو الانهيار أو التصادم الداخلي.

وأمام هذا الواقع الذي تعطّل فيه “محور المقاومة” وتحللت قواه كان على إيران أن تعيد قراءة المشهد بطريقة مختلفة، فهذه المرة لن تجازف بخسارة النفوذ الإقليمي، بل قد تكون هي “الهدف التالي”.

من هنا جاء ردُّها قويا لتحذير إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية من ورائها للتوقف عن “حشرها في الزاوية” والابتعاد عن الدخول معها في معادلة صفرية أثبتت فيها، فِعلا لا قولا، امتلاكها القدرة على إيذاء إسرائيل. بمعنى آخر، كانت الرسالة واضحة بأن إيران تمتلك القدرة لكنها ليست راغبة في أي مواجهة ستؤدي إلى إضعاف الطرفين لصالح أطراف أو دول أخرى تراهن على هذه المواجهة.

من جهة أخرى، أسهم الرد الإيراني في تأخير اجتياح بري في الجنوب اللبناني أرادته إسرائيل مباغتا ومنحَ فرصة لحزب الله لالتقاط الأنفاس وترتيب صفوفه على مستوى القيادة والسيطرة للتصدي للعمليات البرية الإسرائيلية وإلحاق خسائر مباشرة بالوحدات المتوغلة عدةً وعتادا، بما يسمح بمدّ زمن الحرب ويدفع القوى الدولية إلى طرح “الصفقة” على طاولة المفاوضات بعد أن وُضعت في أدراج الوسطاء. وقد تحقق هذا الهدف جزئيا، إذ منح هذا الرد حلفاء إيران جرعة معنوية أعادت التذكير بوجود محور متماسك على الأقل كمصطلح إعلامي وسياسي.

أسهم الرد الإيراني في تأخير اجتياح بري في الجنوب اللبناني أرادته إسرائيل مباغتا ومنحَ فرصة لحزب الله لالتقاط الأنفاس وترتيب صفوفه على مستوى القيادة والسيطرة

خارج رسائل الميدان، حسمت إيران عبر الصور القادمة لصواريخها أي مفاوضات قادمة بشأن برنامجها الصاروخي وربطه بالصفقة النووية التي أعيدت كتابة مسوَّدتها من جديد قبل 7 أكتوبر. لقد سعت العديد من القوى الدولية إلى الربط بين الأمرين نتيجةً لقناعة راسخة أن إيران وبعد سنوات من تجارب التخصيب باتت قادرة على الوصول إلى القنبلة النووية متى ما قررتْ ذلك، لكن امتلاك القنبلة وحده ليس كفيلا بجعلها قوة نووية. فالأخيرة تحتاج إلى وسائل لإيصالها “Means of delivery” كانت مفقودة سابقا لدى طهران نتيجة للتخلف التقني والتكنولوجي الناجم عن العقوبات بالدرجة الأولى.

صحيح أن الصواريخ البالستية المستخدمة لا تعد متطورة، فهي تسمى “تكتيكية” بحسب التسمية العسكرية وذات مدى متوسط بين 1000-3000 كم (MRBM: Medium Range Ballistic Missile) ولا تستطيع أن تحمل رؤوسا نووية، لكن يمكن تطويرها لتصل إلى مستويات ومَدَيات أبعد.

من المبكّر لأوانه الجزمُ بسيناريوهات مستقبلية بعد الرد الإيراني قد ترجّح التصعيد والحرب الشاملة أو تنحو نحو تسويات أو صفقات. ما يمكن الجزم به أن قادمات الأيام لن تحمل سوى مزيدٍ من الأيام الكالحة للعرب دولا وشعوبا، إنْ ظلوا غائبين عن أداء أي دور فاعل يجب أن يؤدّوه في لحظة تاريخية حاسمة

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى