لم يؤكّد الفوز غير المسبوق للإخوان المسلمين في الانتخابات النيابية الأردنية تفاعل الأردنيين مع الشعب الفلسطيني وتأييده المقاومة فحسب، بل جاء أيضاً رسالة استياء من مهادنة الدولة الأردنية السياسات الأميركية وغياب رؤية مواجهة الخطر الإسرائيلي على الأردن. وليس هذا الحديث عن قاعدة الإسلاميين التقليدية، لأن نتيجة الانتخابات أفادت بأن فوز الجماعة خارج أماكن وجود الأردنيين من أصل فلسطيني من مخيمات اللاجئين، بل امتدّت إلى العشائر، أي إن التصويت لم يكن إسلامياً بالضرورة، بل دعماً للمقاومة، وتعبيراً عن الغضب من استمرار حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزّة والهجمة الاستيطاتية في الضفة الغربية المحتلة، فلا مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية التي حاولت هندسة الحياة السياسية في الأردن، ولا تشكيل أحزاب “دولة” أو مدعومة من جهات مختلفة في الدولة، نجحت في تقليص تمثيل جبهة العمل الإسلامي، بل جاءت النتيحة معاكسة تماماً.
حاولت أكثر من جهة في الدولة بين محافظة وليبرالية أو مصلحية بحتة توظيف قانون الأحزاب الجديد وأسّست أحزاباً، لتضع قدمها أو تثبتها في التمثيل السياسي وتوزيع الحصص، بدون اعتبار للتأثير العميق لحرب غزّة وخوف الأردنيين من الخطر الإسرائيلي على الأردن. لأن مخرجات لجنة التحديث السياسي هدفت إلى تقويض نفوذ الإسلاميين والمعارضة، بدلاً من وضع أسس لنظام تعدّدية حزبية حقيقية، فلا يمكن أن تكون هناك حياة حزبية حرّة وفقاً لمسطرة الدولة وأجهزتها.
حين تكون الأولوية تقويض نفوذ الإخوان المسلمين باسم “التنوير” على حساب تجاهل تقويض الحرّيات والعدالة الاقتصادية والقبول بخيار التطبيع، يربح “الإخوان“
الغريب أن لا حاجة إلى ذلك كله، فلا خطر داخلياً حقيقياً على الدولة إلا إذا تفاقم انتشار الفقر والجوع، فبدلاً من التركيز على مظلومية الفئات المكافحة وإشاعة الحريات رافق إصدار القوانين الناظمة للأحزاب قوننة القمع من خلال قانون الجرائم الإلكترونية وكبح الحرّيات السياسية ولجم الإعلام. ولكن حرب غزّة وتفاعل الشعب الأردني، الذي ألهمته المقاومة الفلسطينية معزّزة رفضه الخنوع، وهو شعورٌ انفجر في روح ابن قبيلة الحويطات القوية، ماهر الجازي، فأطلق النار على ثلاثة إسرائيليين عشية الانتخابات، مضحّياً بنفسه، وسط ابتهاج أردنيين كثيرين وأولهم قبيلته، فقد أعاد الشعور بفخر من يرفض الخضوع لإسرائيل، مذكّراً بتاريخ مقاومة لأبناء العشائر الأردنيين وقبيلة الحويطات، ومنهم مشهور حديثة الجازي، الذي قاد مقاومة الجيش الأردني جنباً إلى جنب مع الزعيم الراحل ياسر عرفات وحركة فتح والفصائل الفلسطينية في معركة الكرامة عام 1968. أي إن هناك دلالات في موقف فئات واسعة مؤيدة للمقاومة التي ترى فيها حماية للأردن، وليس فقط لفلسطين. ولكن الدولة اختارت الاعتقالات وتخويف أحزاب المعارضة والنشطاء بدلاً من توظيف الغضب في الشارع الأردني لتحصين الدولة من الضغوط الأميركية الإسرائيلية.
فاتت تداعيات حصار القضية الفلسطينية والمؤامرات المعلنة لتصفيتها القوى المتنفذة، ومن يقف خلفها، داخل لجنة التحديث السياسي، وانتظمت فئاتٌ منها ومن خارجها في حزب ليبرالي، قد تكون نيات كثيرين من أعضائه تتحدّث عن التعددية في الأردن، ولكن حين تكون الأولوية تقويض نفوذ الإخوان المسلمين باسم “التنوير” على حساب تجاهل تقويض الحريات والعدالة الاقتصادية والقبول بخيار التطبيع، يربح “الإخوان”، فبغض النظر عن حقيقة أهداف “الإخوان”، فالناس تتطلع إلى من يوجّه صرخة ويحشد الجماهير انتصاراً لفلسطين وحماية الأردن من عدو واضح هو إسرائيل، وهذه من أهم عبر نتائج الانتخابات لمن يريد أن يتّعظ ويفهم.
اتخذ القصر في الأردن قراراً بمنع أي تدخل في العملية الانتخابية، بعد أن استنتج أن “الإخوان المسلمون” قادمون، وقرّر متأخراً استخدام هذا ورقة لمواجهة الضغوط الأميركية
اللافت أن الحزب الديمقراطي الاجتماعي الأردني (ليبرالي التوجّه) خسر في ساحته، أي الدائرة الثانية في عمان، حيث تتركّز الشرائح العليا والمهنية والمثقفة، إذ جاءت أقلّ نسب التصويت (11% من الناخبين فيها) في رسالة غياب الثقة، ولأنه حتى الشرائح الطبقية العليا تخشى تجاهل صانعي القرار تداعيات الحرب على غزّة والتوحش الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس المحتلتين على الأردن، فمسؤولون سابقون في الدولة أضحوا يجدون في المقاومة سدّاً يحمي الأردن من إسرائيل، وتنتابهم مشاعر إحباط من أن صانعي القرار لا يرون أبعاد خطر التوسع الإسرائيلي المقبل، أو يتحرّكون لتخفيف الحنق في الشارع الأردني.
أما خسارة اليسار وعدم حصول أحزابه حتى على مقعد نيابي، خصوصاً أن هذه الأحزاب التاريخية لم تتخلّ يوماً عن القضية الفلسطينية، فصحيح أن جهات في الدولة تحاول إنهاءها، ومارست، أخيراً، تضييقاً عليها وتهديداتٍ ضدّها، إلا أن خطأها الأكبر كان فشلها في تشكيل ائتلاف واسع مع الأحزاب القومية وأحزاب صغيرة يقودها شبابٌ يتفقون معهم في الشعارات ورفض الاعتقالات، والدعوة إلى رفع كل القيود على الحرّيات، على الرغم من تغنّيها بتجربة ائتلاف الأحزاب الفرنسية على أساس الحد الأدنى من التفاهم في الانتخابات الفرنسية. ولكن كل المحاولات فشلت بإصرار بعض الأحزاب على مطالبها الفئوية، كما أن محاربة الدولة مرشح الأحزاب اليسارية المقترح، حيدر الزبن، ساهم في تعميق الخلافات بينها، فخسر، لأن الدولة لا تريده، ولفشل اليسار في توحيد صفوفه.
لم تخسر الأحزاب الموالية، إذ إنها في مجموعها، وهي أحزاب جديدة، امتداد لتكتلات تقليدية وعشائرية، كانت تخوض الانتخابات سابقاً في قوائم انتخابية أو ترشيحات فردية، واجتمعت بوصفها”أحزاباً” في مجلس النواب الجديد. لكن هذا فوز مفرغ من محتواه، إذا اعتُبِر نصراً بالأصل، إذ إنه لا يغير ما في العقول والقلوب، وإنما هو دليل فشل لوهم “التحديث السياسي” الذي جرى تسويقه مؤسّساً لتعدّدية حزبية حرّة وحقيقية.
المطلوب الاعتراف بأن “هندسة الأحزاب” فكرة غير حكيمة، فالأساس في إقامة خيار تعدّدية سياسية هو الحريات والتوقف عن ملاحقة النشطاء وتخويفهم من الانضمام إلى أحزاب معارضة
قد لا يكون فوز الإسلاميين في 32 مقعداً دليلاً على انتصار كبير للمعارضة، فإذا صحّ ما يُتداول في الأوساط المقرّبة من الدولة أن القصر اتخذ قراراً بمنع أي تدخل في العملية الانتخابية، بعد أن استنتج أن “الإخوان المسلمون” قادمون، وقرّر متأخراً استخدام هذا ورقة لمواجهة الضغوط الأميركية، فقد يكون هناك تحوّلات مهمة، وإن قد تكون تكتيكياً. وإذا أخذنا بتصريح النائبة عن الإسلاميين، ديمة طهبوب، بأنهم لن يكونوا “الثلث المعطّل” في مجلس النواب، فقد يكون هناك تفاهم مع الدولة سبق الانتخابات بفترة قصيرة، المهم أنه إذا كان القصر جادّاً في توظيف موجة غضب الشعب الأردني ضد إسرائيل، فمن الضروري أن لا يكون ذلك وقتياً وشكلياً.
المطلوب الاعتراف بأن “هندسة الأحزاب” فكرة غير حكيمة، فالأساس في إقامة خيار تعدّدية سياسية هو الحريات والتوقف عن ملاحقة النشطاء وتخويفهم من الانضمام إلى أحزاب معارضة، لكن الخطوة الأهم بعد فقدان صدقية هندسة الأحزاب، هي الإفراج الفوري عن الكاتب الموهوب والساخر أحمد حسن الزعبي وجميع معتقلي الرأي، فهؤلاء ليسوا الأعداء… فلا مصداقية لبرلمان وحياة سياسية بدون ضمان حرّية التعبير والحرّيات السياسية.
المصدر: العربي الجديد