الانقسامات الداخليّة بين القوى السّياسيّة اللّبنانيّة المتوالفة والمتناحرة، تختلف في أنواعها، لكن مسألة “اليوم التالي لما بعد الحرب”، تُشكّل نقطة التلاقي بين هذه القوى. في مناخٍ سياسيّ يتذبذب بين الهواجس اللّبنانيّة من حربٍ شاملة مهدت لها 11 شهرًا من المواجهات العسكريّة، والمساعيّ الدبلوماسيّة الدؤوبة الدافعة نحو اتمام تسويّة وتجنيب لبنان مغبة صراعٍ شامل.
في تقريرها الأوّل تحت عنوان “الاستراتيجية الدفاعية في “اليوم التالي”: مصير المقاومة والجيش“، طرحت “المدن” عددًا من الأسئلة حول إمكانيّة تبني استراتيجيّة دفاعيّة حاليًّا كمدخلٍ لليوم التالي لما بعد الحرب على غزّة –وطرديًّا في لبنان – ناهيك بموقف القوى السّياسيّة في هذه اللحظة تجاه هذا النوع من الرؤى “الإنقاذيّة”.
في هذا التقرير، تحاول “المدن” الإجابة على الأسئلة الّتي طرحتها في تقريرها الأوّل، عبر تعداد أبرز العقبات السّياسيّة واللوجيستيّة الّتي تُعرقل المساعي الراميّة لتأسيس استراتيجيّة وطنيّة للدفاع، وقراءة الخيارات المتاحة، كما وتشريح المواقف السّياسيّة لأبرز القوى الّتي تواصلت معها “المدن”.
العقبات السّياسيّة واللوجيستيّة
بدايةً، وللإجابة على هذه الأسئلة، يجب الانطلاق من القواعد العامّة الّتي تحدّد ماهية الاستراتيجيّة الدفاعيّة بوصفها “العلم والفنّ الذي بمقتضاه توضع خطّة استعمال الإمكانات المتوفرة لتحقيق الأهداف المعتمدة”. وفي المجال الدفاعيّ يرى المراقبون أن الاستراتيجيّة يجب أن تكون خطة استعمال الدولة لقدراتها بغية تأمين حمايتها ضدّ الأخطار الّتي تُهددها. ويُصنف من يعطل مصلحة أو ينتهك حقًّا وطنيًّا كعدو للوطن، وبالتالي يكون العدو وخطره هو المنطلق في تحديد استراتيجيّة الدفاع.
وفي هذا السّياق يشرح المدير السّابق لمعهد العلوم السّياسيّة في جامعة القديس يوسف ببيروت والخبير في العلاقات الدوليّة والشرق الأوسط، كريم بيطار، لـ”المدن”، أن التحديات الحاليّة الّتي تحول دون بناء استراتيجيّة دفاعيّة شاملة وفعّالة في لبنان، تكمن في ” غياب المكونات الرئيسيّة الّتي يمكن أن تُشكل استراتيجيّة فعّالة. فأولًا هناك غياب للوحدة الوطنيّة والاستقرار السّياسي.. بل وهناك انقسام حول التوصيف الفعليّ للخطر (انقسام بين الأقطاب السّياسيّة)”. أما عن تقييمه لرؤى القوى السّياسيّة الحاكمة للبنان لموضوع الاستراتيجيّة وأولويتها في المشهد اللّبنانيّ فيُشير بيطار “الاقتراحات الّتي قدمتها القوى السّياسيّة بموضوع الاستراتيجيّة الدفاعيّة حتّى اللحظة لم تكن إلا شعاراتٍ فضفاضة، ولم نرَ رؤية حقيقية لمثل هذه الاستراتيجيّة، والّتي يجب أن تكون شاملة ومتعددة الأبعاد، ومصممة خصوصًا لتوائم التحديات الجيوسياسيّة والمحليّة الفريدة التّي يواجهها لبنان”.
وقد تكون أولى العقبات اللوجيستيّة الّتي تحول دون تأسيس استراتيجيّة عسكريّة للدفاع، حقيقية وفعّالة في اللحظة الراهنة، هي إمكانيات الجيش الّلبنانيّ تجاه خطر الاعتداء الإسرائيليّ (المتوفر حاليًّا). إذ عند مقارنة أجهزة الجيشين الإسرائيليّ والّلبنانيّ، تتوضح العقبات اللوجستيّة الحاليّة، إذ يُقدّر عدد أفراد الجيش اللّبنانيّ بحوالى 84,000 فرد (في تضاؤلٍ تدريجيّ)، بينما تتألف القوات العسكرية الإسرائيليّة من 169,500 فردًا نشطًا في الجيش والبحريّة والقوات شبه العسكريّة. بالإضافة إلى ذلك، تتكون قوات الاحتياط من 465,000 فرد، مع وجود 8,000 آخرين في القطاع شبه العسكريّ. وفق آخر الإحصاءات.. وبينما يرى مراقبون أن الجيش اللّبنانيّ مجهز للتصدي لهجمات دفاعيّة ضدّ إسرائيل، إلا أنّه بالمقابل ليس مستعدًا لخوض حربٍ شاملة، نظرًا للقوّة العسكريّة الهائلة لإسرائيل، بما في ذلك قدرتها النوويّة. أضف إلى ذلك أن الجيش الّلبنانيّ يبقى ملتزمًا بقرار الأمم المتحدة 1701، الذي يمنعه من نشر معداته الدفاعيّة في الجنوب. وأي سيناريو ينتهك فيه لبنان القرار 1701 ويواجه ردّ فعل إسرائيليّ سيكشف نقاط الضعف في نظام الدفاع الجوي للجيش اللّبنانيّ.
تشريح المواقف السّياسيّة
ولفهم مواقف الكتل السّياسيّة من مسألة الاستراتيجيّة الدفاعيّة، اتصلت “المدن” بمجموعة متنوعة (من حيث الكُتل والانتماءات) من أعضاء المجلس النيابيّ، والقوى السّياسيّة اللّبنانيّة (شخصيات سياسيّة وأعضاء لجان)، لتشريح مواقفهم من هذه المسألة وعن ورؤاهم والاقتراحات من قبلهم. مع تساؤلات حول فاعلية الحديث عن الاستراتيجيّة الدفاعيّة كمرحلة تأسيسيّة لليوم التالي ما بعد الحرب، في وقتٍ تبرز فيه هواجس من كون الجانب الإسرائيليّ لن يرتضي وحتّى في سيناريو وقف إطلاق النار، العودة إلى الستاتيكو الذي كان مكرّسًا قبل السّابع من تشرين الأوّل.
وطرحت “المدن”، الأسئلة نفسها من دون أي تعديل. فكيف تشكلت مواقف القوى السّياسيّة؟
النائب إبراهيم منيمنة:
يشرح منيمنة لـ”المدن” أن الاستراتجيّة الدفاعيّة هي “مفهومٌ يُستعمل لترجمة نوع الحماية الذي يجب أن يتمّ تأمينه ضمن المصلحة الوطنية الّتي بدورها تقتضي حماية كامل الأراضي اللّبنانيّة بالمقدرات اللّبنانيّة حصرًا. أما الاستراتيجيّة الدفاعيّة ليست فقط ببعدها العسكريّ بل لها أيضًا أبعاد أخرى لا يمكن لحزب الله تأمينها بل الدولة وحدها يمكنها ذلك، مثل تأمين الغطاء الديبلوماسيّ والبعد الاقتصاديّ والوحدة الوطنيّة الّتي تزاوج بين السّيادة والحماية”.
ويُضيف منميمة: “هذا المطلب لا علاقة له باليوم التالي. لكن اليوم من بعد المشاهد الّتي رأيناها في الجنوب وعدم قدرة جبهة الإسناد على تأمين الحماية للجنوب هناك أسئلة مشروعة حول فاعلية مقاربة حزب الله العسكريّة، واستثناء الأبعاد الاخرى من عملية الحماية. لذلك ندعو جميع اللّبنانيين لقراءة نقديّة لكل التجارب الّتي خضناها تاريخيًّا في حماية الأراضي، كمرحلة تجاهل الخطر أو مرحلة التشكيلات المسلّحة خارج إطار الدولة ومنتمية إلى محاورٍ إقليميّة”.
أما عن الخيارات فيجيب منيمنة: “الخيارات هي ليست بالموضوع العسكريّ بل تكمن في الاستفادة من كامل عناصر القوّة للبنان من ضمنهم سلاح حزب الله والخبرات المكتسبة وتكون تحت سقف الدولة.. وأن يكون خيار السلم والحرب محتكر من قبل الدولة. ومن هناك يُمكن تأمين السّيادة والحمايّة، بل ننطلق لتفصيل الاستراتيجيّة الدفاعيّة بحسب المصلحة الوطنيّة”.
مستشار رئيس حزب “القوات اللّبنانيّة” العميد المتقاعد وهبي قاطيشة:
يرى قاطيشة، أن “الموضوع طُرح لأول مرّة في عهد الرئيس ميشال سليمان لأن الفريق الذي كان يحمل السّلاح كان يقول أن سلاحه للدفاع عن لبنان خلافًا لما نصّ عليه اتفاق الطائف، أي أن كل الأسلحة والميلشيات يجب أن تُحلّ سواءً كانت داخليّة أو خارجيّة ضمن القرار 1559.. لذلك عقد الرئيس السّابق ميشال سليمان طاولة حوار سياسيّة للبحث في هذه الاستراتيجيّة.. وعندما تعذر الاتفاق دفعوا لتحويلها لجلسة عسكريين من كل فريق. وبالفعل انعقدت جلسة اولى يتيمة لعسكريين يمثلوا جميع الأفرقاء في قصر بعبدا باستثناء حزب الله للتعبير عن رفضه النقاش في الاستراتيجيّة الدفاعيّة، وبالتالي إصراره على اختصارها بنفسه”.
ويُضيف قطيشة: “هذا النوع من البحث لا يُمكن أن يتمّ إلا بتوافق جميع المكونات على تبني استراتيجيّة دفاعيّة وسياسة موّحدة للبنان على أساس “أي لبنان نريد بعد هذه الحرب؟” وتكون هذه الرؤية منطلقاً لكافة سياسات لبنان”. وأكدّ أن حزب القوات لم يتوان قط عن طرح مثل هذا المطلب، إلّا أن “العريس لم يأتِ” (كما يقول المثل الشعبيّ)، والمدماك المؤسس لتحقيق مثل هذا المطلب هو قيام دولة، يكون الجميع تحت سقفها.
القياديّ في الحزب التقدميّ الاشتراكيّ، والأستاذ المحاضر في الجامعة اللّبنانيّة، د. وليد صافي:
من جهته استعرض صافي، وهو من المشاركين الفعّالين في صياغة تصور للاستراتيجيّة الدفاعيّة (نصّ الورقة) الّتي تبناها الحزب التقدمي الاشتراكيّ في العام 2006 (وهو أوّل تصور لبناني لاستراتيجيّة دفاعيّة)، أولى العقبات التاريخيّة الّتي حالت دون تبني لبنان لاستراتيجيّة دفاعيّة. معرجًا على اتفاق الطائف وانتفاء الثقة بين الأطراف السّياسيّة، مرورًا بالحرب السّوريّة وصولًا لجوّ التنشج والانقسام السّياسيّ في البلد، ومؤكدًا على المبادئ الّتي طرحها تصور الحزب كمدخلٍ لتأسيس استراتيجيّة دفاعيّة.
ويعتقد صافي “أن الاستراتيجيّة الدفاعيّة تُشكل المدخل لليوم التالي ما بعد الحرب، لكن ذلك لا يتمّ إلّا بالإجابة على السؤال الأساسيّ وهو “ما مطلب لبنان؟” والإجابة هي تطبيق القرار 1701، إلّا أن شروط تطبيقه لا تتعلق بلبنان وحده بل باسرائيل، بيّد أن اسرائيل دومًا كانت تخرق 1701 (من الطيران الإسرائيليّ الذي اعتاد خرق الأجواء اللّبنانيّة، مرورًا بتمسكها بعدم حلّ النقاط 13 الخلافيّة على الخطّ الأزرق وصولًا لاحتلال مزارع شبعا اللّبنانيّة)”.
مضيفًا: “البحث بالاستراتيجيّة يُشكل مدخلًا أساسيًّا لتطبيق القرار 1701، فعندما تصبح المقاومة وسلاحها وقرار الحرب والسلم بيدّ الحكومة اللّبنانيّة، بذلك ننزع ذرائع إسرائيل بوجود “سلاح غير شرعيّ” في الجنوب. بينما الحكومة تعتبر أن هذا السّلاح ذو شرعيّة سياسيّة ولبنان لديه الحقّ في المقاومة”.
أما عن الخيارات المتاحة فيُشير صافي: “تصور الاستراتيجيّة الدفاعيّة وُضع في العام 2006، ويجب الأخذ بالاعتبار كل التحولات الّتي جرت في لبنان والإقليم وخصوصًا الحرب في غزّة والتحديات الّتي تواجه اللّبنانين اليوم. وهناك تحديات لا أقول أنها جديدة لكنها ظهرت بشكلٍ أوضح أمام العالم كلّه.. يجب على لبنان إعادة تقييم المخاطر الإسرائيليّة المباشرة وغير المباشرة، ويرسم الاستراتيجيّة الدفاعيّة في ضوء هذه المخاطر، فضلًا عن المخاطر الّتي ظهرت في الشهور الـ11 الأخيرة”.
مستطردًا بالقول: “انجازات حزب الله في تحييد لبنان عن حربٍ شاملة طوال 11 شهرًا، مشكورٌ عليها، لكن السؤال الذي سيُطرح في المرحلة المقبلة هو من سيدير قرار الحرب والسلم في لبنان، وكيفية تأمين شروط الاستقرار وتطبيق القرار 1701. ولا نرى بديلًا سوى رسم سياسيّة دفاعيّة لتمكين الجيش من بناء استراتيجيّة دفاعيّة تلبي شروط الاستقرار والدفاع بوجه التحديات الحاليّة”.
مصادرة مقرّبة من حزب الله:
من جهتها تُشير مصادر مقرّبة من الحزب، أن الحديث عن الاستراتيجيّة الدفاعيّة في الوقت الحالي غير مُجدٍ بتاتًا، واستغربت طرحه بالمرتبة الأولى. مشيرةً إلى أن الحديث بما يُسمى بـ”اليوم التالي” منوط بوقف الحرب بغزّة ومن ثمّ وقف إطلاق النار في الجنوب. وتُضيف المصادر: اليوم كل ما تحاول الوفود الدبلوماسيّة فعله هو إلزام لبنان بالـ1701 وهذا لا يتمّ سوى بوضع حدّ للاعتداءات الإسرائيليّة. واعتقدت المصادر أن الحزب مستعد لمناقشة الاستراتيجيّة الدفاعيّة، لكن بظروفها. والأولويّة اليوم لوقف الحرب وانتخاب رئيس للجمهورية. وختمت المصادر بالقول، المعادلة المكرسة حاليًّا هي “جيش شعب مقاومة”، متسائلةً “ما هي أفضل استراتيجيّة من هذه المعادلة؟”..
أما سائر الكتل والأحزاب النافذة في لبنان، وضمنًا حركة أمل، فقد تواصلت معهم “المدن” بالفعل ، إلّا أنهم اعتبروا أن المسألة غير آنيّة ولا تستحق الحديث عنها في هذه اللحظة. هذا في وقتٍ ترى فيه قوى معارضة تواصلت معها “المدن” وفضلت عدم التصريح باسمها، أن المناخ السّياسيّ المفترض أن يكون حاضرًا عند بداية عملية التخطيط، يكمن في محاولة تحييد لبنان عن حرب المحاور أكان بالدبلوماسيّة أو بتطبيق فعليّ لسياسة النأي بالنفس، نظرًا لإمكانيات لبنان شبه المنعدمة حاليًّا. أما معنى التحييد فيكمن في تخليص لبنان من لعنة “دولة الحاجز” (وهي دولة واقعة في وسط منطقة مواجهات استراتيجيّة بين قوى إقليميّة أو دوليّة، وهذه الدولة الحاجز تتميز بوجود سلطة “هشة” أو متزعزعة..).
والحال، أن المؤكد اليوم، فهو أن مسألة الاستراتيجيّة الدفاعيّة بالنسبة للقوى المعارضة هي مسألة أساسيّة سيتمّ طرحها بعد انتهاء الحرب، أو حصول طاولة حوار في المرحلة المقبلة، أو على الأقلّ حصول أي تسويّة سياسيّة. ذلك على الرغم من كون الطرف الآخر المتمثل بثنائي حزب الله وحركة أمل يعتبر أنّه من المبكر الحديث عن هذا الموضوع واستبعاده، كما حصل في كل المحاولات التاريخيّة لطرحه..
المصدر: المدن
هل يمكن للقوى السّياسيّة اللّبنانيّة المتوالفة والمتناحرة مع الانقسامات الداخليّة فيما بينها، تستطيع الإتفاق على اليوم التالي لما بعد الحرب -إن تمت- ؟ من حربٍ شاملة مهدت لها 11 شهرًا من المواجهات المسرحية ا؟لعسكريّة، والمساعيّ الدبلوماسيّة الدؤوبة الدافعة نحو اتمام تسويّة وتجنيب لبنان مغبة صراعٍ شامل.