تتصاعد في العراق معركة طاحنة لفرض الإرادات بين المعارضين لتعديلات قانون الأحوال المدنية وبين قادة الإطار التنسيقي «الشيعي» الذين يصرون على فرض تعديلات مثيرة للجدل، ما أثار أجواء من التوتر والتحذيرات من خطورة فرض قانون يعمق الانقسام ويترك نتائج وخيمة على حياة المجتمع بأكمله.
ومع تواصل حملة الغضب والاستنكار للتعديلات المقترحة على قانون الأحوال المدنية، وبالرغم من الرفض الشعبي والديني، دعا الإطار التنسيقي الذي يمثل الأحزاب والفصائل الشيعية، مجلس النواب إلى المضي بتمرير تعديلات قانون الأحوال الشخصية. وذكر بيان للإطار التنسيقي الحاكم، أنه عقد اجتماعا في مكتب قائد حزب الدعوة نوري المالكي، ودعا مجلس النواب إلى المضي بالقراءة الأولى لقانون الأحوال الشخصية. واعتبر الإطار التنسيقي «التعديل المزمع لقانون الأحوال الشخصية هو انسجام مع الدستور» وهو ما عده المراقبون بأنه إصرار على ترسيخ الطائفية في المجتمع العراقي وخلق أزمات جديدة له.
وكان مجلس النواب قد خضع لحملة الضغوط التي شنتها منظمات مجتمع مدني وأحزاب وناشطون حقوقيون، خلال الأيام القليلة الماضية للدفع باتجاه رفض التعديلات، التي تقضي بتعديل قانون الأحوال الشخصية وبما يسمح للمواطنين اللجوء إلى رجال الدين الشيعة والسنة للتقاضي في شؤون الزواج والطلاق والميراث، ويضعف دور القضاء والدولة المدنية في هذا المجال.
أبرز المعارضين لتعديلات القانون
وردا على محاولات فرض التعديلات الجديدة على القانون، اتسعت مساحة المعترضين من القوى الدينية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب والحركات، لإفشال هذه التعديلات ذات التأثير المدمر على المجتمع.
وجاءت أبرز ردود الأفعال المعارضة للتعديلات المقترحة على قانون الأحوال المدنية، من خلال رفض المرجعية الدينية السنية لتلك التعديلات، حيث هاجم خطيب جامع أبي حنيفة النعمان، عبد الستار عبد الجبار، في خطبة الجمعة، قانون الأحوال المدنية الجديد، واصفا إياه بأنه «صيغ بطريقة طائفية بغيضة».
وقال عبد الجبار، العضو في المجمع العلمي الفقهي (السني) إن «جلسة البرلمان الأخيرة تناولت موضوعين رئيسيين، العفو العام وتعديل لائحة قانون الأحوال الشخصية لتكون لائحتين، واحدة للسنة وأخرى للشيعة، في سابقة فريدة».
واستغرب قول بعض البرلمانيين إنه «لن نقوم بالتصويت على قانون العفو العام حتى يتم التصويت على لوائح وثيقة الأحوال المدنية الشيعية والسنية» لافتا إلى أنه «ليس من العدل أن يعارض البرلماني الذي وظيفته تحقيق العدالة لأنها لا تحقق مآربه».
وبين أن «قانون الأحوال المدنية الجديد صيغ بطريقة طائفية بغيضة» مضيفا: «يرفضون النظر إلى مكوننا نظرة المساواة، فيقولون إن العقد الذي يبرم على المذهب الشيعي يحال إلى المرجعية في النجف، بينما العقد على المذهب السني يحال إلى لجنة إفتاء في المجلس العلمي بديوان الوقف السني وليس إلى مرجعية سنية».
ونوه خطيب جامع أبي حنيفة إلى أن «المجمع الفقهي شكل ليكون نواة لمرجعية شرعية لأهل السنة والجماعة، ويضم 25 شخصية كلهم علماء في درجة الاجتهاد أو قريب منها». وتساءل: «لماذا لا يحال الطلب إليهم ولا يعترف القانون بهم؟ أليست هذه هي الطائفية المقيتة؟». واكد أن «قانون الأحوال الحالي قانون قديم استمد من الشريعة الإسلامية وأخذ من المذاهب السنية والمذهب الجعفري، محققًا توازنا وعدالة ورضا كبيرين، وهذا ما شهد به القضاة من السنة والشيعة».
التحرك النسوي سياسيا
وضمن التحرك النسوي سياسيا لرفض القانون فقد تم إعلان تشكيل «الكتلة النسوية» خلال مؤتمر صحافي عقدته النائبات المعترضات على التعديلات المثيرة للجدل، حيث أكدن على «أهمية الحفاظ على الأسرة العراقية ورفض أي تعديل يمس بنسيجها الاجتماعي» معتبرات أن «هذا المشروع يتعارض مع القيم والمبادئ العراقية، ويؤثر سلباً على حقوق المرأة والطفل». كما أعلنت الكتلة بدء اتصالاتها مع قادة الكتل السياسية لإبلاغهم بالرفض القاطع لمشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية، موضحة أنها «ستعمل جاهدة لمنع تمرير هذا التعديل، معتبرةً أنه «يشكل تهديداً مباشراً لاستقرار الأسرة».
وفي حراك آخر أعلنت المنظمات النسوية وحركات سياسية، عن تشكيل «تحالف 188» لرفض تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959. وحذرت المحامية زينب جواد، عضوة التحالف، من أن «تمرير تعديل قانون الأحوال الشخصية سيضع العراق في موقف حرج على الساحة الدولية، وذلك بسبب تعارضه مع المعاهدات الدولية لحماية حقوق الطفل والمرأة التي وقع عليها العراق».
أحزاب معارضة للقانون
وبالنسبة للأحزاب والحركات التي عارضت التعديلات، فقد دعت حركة «نازل آخذ حقي» التشرينية، القوى الوطنية للتصدي للتعديلات المقترحة بكافة الوسائل الدستورية والقانونية.
وذكر بيان الحركة «في الوقت الذي يعاني فيه العراق من حالة اللااستقرار بسبب ازدياد حالات الطلاق والعنف الأسري من دون وجود حلول ومعالجات واقعية لهذه المشاكل، نستغرب من اقتراح اللجنة القانونية في البرلمان تعديل قانون الأحوال الشخصية من خلال تبني التوجه المذهبي والطائفي في معاملات الزواج ما يفتح الباب أمام زواج القاصرات واليافعين». وأضاف أن هذا الاقتراح يشكل سابقة خطيرة تهدد الوضع المجتمعي الذي يعاني كثيرا، حيث سيؤدي إلى ازدياد حالات الطلاق والتفكك الأسري، كما ستخضع البنية المدنية الحديثة للأسرة العراقية للاجتهادات الفقهية، وتحد التعديلات من قدرة قانون الدولة على حماية حقوق وحريات مواطنيها ويضعف مفهوم الوطنية لصالح الجماعة والفئة».
وبدوره أكد المتحدث باسم الحركة خالد وليد، لـ«القدس العربي»: «أن سبب طرح هذه التعديلات على القانون في هذه المرحلة هو للتغطية على مشاكل المجتمع الكثيرة وللتغطية على إخفاق البرنامج الحكومي في تلبية احتياجات المجتمع، ولإفشال مناقشة بعض القوانين في البرلمان مثل قانون العفو العام، إضافة إلى أن بعض النواب الذين طرحوا التعديلات يسعون إلى تأجيج الشد الطائفي واستغلال عواطف الناس انتخابيا، بدون الإدراك بأنهم يأخذون المجتمع إلى المزيد من التفكك الأسري والانقسام». وأعرب المتحدث باسم الحركة عن اعتقاده بأن «محاولات إعادة طرح التعديلات على القانون مستقبلا، ستواجه بالمعارضة السياسية والدينية التي ستمنع تمريره في البرلمان».
وفي السياق ذاته، أعلن الحزب الشيوعي العراقي، «رفضه إدراج مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية على جدول أعمال جلسة البرلمان» عادا إياه مكرساً للطائفية والمذهبية. وقال الحزب في بيان صحافي، إن «مسودة التعديل المقدمة تتضمن مواد تتعارض مع الدستور، وبالأخص المادة 14 التي تضمن مساواة العراقيين أمام القانون دون تمييز».
وشاركت رئيسة كتلة الجيل الجديد النيابية سروة عبد الواحد في نقد تعديل قانون الأحوال الشخصية، محذرة من انه يدعو إلى تقسيم العراق. وذكرت عبد الواحد في تدوينة على منصة «اكس» أن «رئاسة مجلس النواب حذرت من أن نتحدث عن البرلمان، ونحن نقول فعلاً إن البرلمان مؤسسة عريقة ولا أحد يستطيع المساس بها، لكن حينما تضع الرئاسة على جدول أعمالها وبناءً على طلب نائب واحد تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي يمس كل العراقيين فكيف نرد عليكم؟». وأضافت عبد الواحد أن «تمرير هذا التعديل يقسم العراق» مشيرة إلى أن من «يتحدث باسم المرجعية ويقول إن المرجع الأعلى دعا إلى هذا التعديل لتقسيم العراق فعليه أن يعطينا دليلاً واضحاً وصريحاً على هذا الكلام» وتابعت «نرفض التعديلات ولن نقف مكتوفي الأيدي».
وعلق النائب السابق مشعان الجبوري، في منشور على منصة «اكس» أن «بيان الإطار التنسيقي الذي يطالب بتعديل قانون الأحوال الشخصية بما يتيح زواج القاصرات ويحولهن إلى سلع شهوانية للأنفس المريضة يشكل خيبة أمل وتحديا لمشاعر أغلبية الشعب». وأضاف الجبوري، أن «تعديل القانون يضع العراق ضمن تصنيف الدول غير المتحضرة التي سترى في القانون إباحة الاعتداء الجنسي على الأطفال».
تظاهرات وتجمعات غضب
أما «المرصد العراقي لحقوق الإنسان» فقد دعا مجلس النواب العراقي إلى «إعادة النظر في هذه التعديلات المقترحة لضمان حماية حقوق جميع المواطنين العراقيين بغض النظر عن مذاهبهم أو معتقداتهم، وتعزيز المساواة والعدالة في المجتمع العراقي» مؤكداً ضرورة «الالتزام بالدستور العراقي والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان لضمان تطبيق قانون الأحوال الشخصية بشكل عادل ومنصف».
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تفاعل آلاف الناشطين العراقيين مع حملة مناهضة التعديل، واستخدموا وسم «# لا_لتعديل_قانون_الأحوال_الشخصية» لشرح مخاطر التعديلات على المجتمع.
وإضافة إلى المواقف السياسية شهدت العاصمة العراقية وبعض المدن تظاهرات وتجمعات غضب واستنكار لطرح التعديلات على قانون الأحوال المدنية نظمتها منظمات المجتمع المدني والأحزاب. واعتبر المتظاهرون «ان التعديلات تساهم في تقييد الحريات وتكريس الطائفية في العراق». ورفعوا لافتات من بينها: «عصر الجواري ولى».
المؤيدون لتعديلات القانون
ومن الجانب الآخر، فقد اقتصر مؤيدو التعديلات على بعض الأحزاب والشخصيات الشيعية في البرلمان. حيث إدعى رائد المالكي، عضو اللجنة القانونية النيابية، الذي قدم مشروع التعديلات، وجود مزايا لتعديل قانون الأحوال الشخصية، وأن هذا التعديل يمثل تطبيقا لأحكام الدستور، وتلبية لحاجة المجتمع ورغبة المرجعيات الدينية. وزعم المالكي في بيان، أن «مقترح القانون موافق ومطابق للدستور وتنفيذا لأحكام المادة 41 من الدستور التي تنص على أن العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون» مبينا أن «المقترح يعطي الحرية للعراقي بأن يختار تطبيق أحكام قانون الأحوال الشخصية النافذ عليه (قانون 188 لسنة 1959) أو يختار أحكام (المدونة الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية) التي سيتم وضعها والموافقة عليها من مجلس النواب».
ومن جانبه أكد النائب عن ميليشيا العصائب، حسن سالم، إصرار القوى الشيعية على المضي بتشريع قانون تعديل الأحوال الشخصية، بحجة أن الموجود حاليا يخالف الشريعة الإسلامية. واتهم سالم في تدوينة على منصة «اكس» المعارضين بتلقي الأوامر من سفارة الشذوذ الجنسي الأمريكية.
ويذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تطرح فيها الأحزاب الشيعية مشروع إجراء تعديلات على قانون الأحوال الشخصية أو إلغائه، ففي عام 2014 أثار مشروع «قانون الأحوال الشخصية الجعفري» جدلا واسعا وسخطا من منظمات المجتمع المدني والأحزاب، لأنه يحدد قواعد الميراث والزواج والطلاق والنفقة، وفق المذهب الجعفري. وفي عام 2017 اقترح نواب شيعة تعديل قانون الأحوال الشخصية العراقي ضمن نفس توجهات التعديلات الأخيرة.
وفي كل مرة تمكنت منظمات المجتمع المدني والقوى الدينية والسياسية الوطنية، من إفشال تمرير تلك القوانين والأفكار الطائفية التقسيمية، من خلال تنظيم حملات معارضة شعبية، إلا أن الأحزاب الشيعية تستغل الأكثرية العددية التي تتمتع بها في البرلمان حاليا، لتمرير القوانين المثيرة للجدل بدون الاهتمام لاعتراضات المكونات الأخرى، كما حصل مع قانون عيد الغدير وقانون الحشد الشعبي وغيرهما.
ويرى قانونيون وسياسيون ومنظمات المجتمع المدني، أن التعديلات المقترحة لقانون الأحوال المدنية هي خطوة إلى الوراء ويعتبرونها انتهاكا لحقوق المرأة والطفل ويعدونها بابا لتدمير العائلة العراقية مع القلق من أن يزيد الاحتقان الطائفي في بلاد تشهد توترات متواصلة، كما يرون ان تكرار طرحه من القوى الشيعية يندرج ضمن محاولاتها لترسيخ الجانب الطائفي في المعاملات والقضايا الاجتماعية على حساب المواطنة. فيما يرى آخرون أن أحد أهداف طرح القانون هو إلهاء الشعب بصراعات وقضايا طائفية عن مشاكلهم وأزماتهم الحقيقية التي لا تعد ولا تحصى، والتي تعكس فشل العملية السياسية في حل مشاكل الشعب.
المصدر: «القدس العربي»