للحوار، رغم مدلوله الإيجابي، معنى سلبي في العاميّة المصرية، ويعني النقاش الطويل بين طرفَين بغرض استهلاك الوقت، من دون الوصول إلى غايات مُحدّدة. ويبدو أنّ ذلك عين ما تفعله الحكومة المصرية بدعوة “مجلس أمناء الحوار الوطني” إلى جلسات متخصّصة أخيراً لمناقشة قضية الحبس الاحتياطي، وما يرتبط بها من مسائل، باعتبارها، حسب الدعوة، جزءاً أصيلاً من الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وهي الاستراتيجية التي ترِد بشأنها عدة ملاحظات بخصوص توافقها مع المعايير الدولية.
رغم أهمية الموضوع، وبُعدِه الحقوقي، وتأثيره الكبير في الآف المحبوسين، إلّا أنّ الدعوة تبدو مُتأخّرة إلى حدّ كبير، خاصّة أنّها تأتي بعد صدور تلك الاستراتيجية بثلاث سنوات تقريباً. وهناك علامات استفهام مُتعدّدة تتعلّق بمدى نجاح الحوار المرّة هذه في إحداث اختراقٍ لحلّ معضلةِ الحبس الاحتياطي المطوّل، الذي يتناقض مع قرينة البراءة وضمانات المحاكمة العادلة، ويسمح بحبس الناشطين في المجال العام سنواتٍ من دون إحالة على القضاء. ويرى كثيرون أنّ هذه الجلسات قد تكون نسخة أخرى من الانعقادَين السابقَين، اللذَيْن لم يستجيبا لمطالب الحركة المدنية ومنظّمات حقوق الإنسان. وممّا يلفت النظر هو حرص صفحة مجلس الحوار الوطني في “فيسبوك” على تسويق نفسها بنشر صور تفصيلية للمشاركين، منذ دخولهم باب القاعة، ثمّ جالسين معاً، فترى بعض رجال السياسة القادمين من عصور سابقة، ومنهم مُقرّر اللجنة السياسية، والقيادي السابق في لجنة السياسات، التي تشكلت زمن حسني مبارك لتكون مَعبراً للتوريث، علي الدين هلال. يحضر في بعض المشاهد أيضاً أقلّية من حقوقيين مُخلصين لقضيتهم، إلى جانب آخرين مُزيّفين لم يُضبَطوا متلبّسين بكلمة واحدة ضدّ انتهاكات حقوق الإنسان منذ سنوات.
في جانب آخر، تُظهِر الصورُ المُلتقَطةُ تبادل الابتسامات والضحكات بين أطراف الحوار، ومنهم المنسّق السابق لحملة عبد الفتاح السيسي، محمود فوزي، الذي ترأّس الأمانة الفنّية لجلسات الحوار، ثمّ أصبح وزير الشؤون النيابية والتواصل السياسي في التشكيل الوزاري أخيراً. ويعتقد بعضهم أنّه طالما يسود هذا الجو من البهجة والسعادة بين الأطراف كلّها، فقد تكون ثمّة احتمالات كبيرة للتوافق وإقرار توصيات حقيقية لإخلاء سبيل الآلاف أوقفوا لمُجرّد آراء عبّروا عنها في صفحات التواصل الاجتماعي، ومنهم طلاب ومواطنون وصحافيون ومحامون وناشطون في العمل العام. ولربما سمع المشاركون عن وفاة بعض أهالي المحبوسين في أثناء زيارتهم لهم في السجون، وأنصتوا لوجود محاولات انتحار لبعض المحبوسين، يأسوا من إخلاء سبيلهم بعد سنوات طوال. إلّا أنّ ذلك التصوّر يتجاهل وقائع الأمور، والتوازنات القائمة، وهي كلّها ترجع لغياب الإرادة السياسية لمؤسّسة الرئاسة، وللأجهزة الأمنية الحاكمة.
بالطبع، تدعو مطالبنا إلى إقرار تعديلاتٍ تخصّ نظام الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية، ومنها تقليل المُدد، واللجوء إليه أداةً استثنائية، وتطبيق نظام قاضي الحبس، والفصل بين سلطتي النيابة العامة في التحقيق والاتهام. وعشرات المطالب التي سبق أن طالبت بها منظّمات حقوق الإنسان، مع الوضع في الاعتبار أنّ الحوار السابق لم ينتج شيئاً ذا قيمة، سواء في المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الحقوقي، بشهادة أعضاء في مجلس الأمناء ذاته، وتجاهلت ما يخص ملفّ الحريات كلّه. ربّما باستثناء توصية يتيمة بإنشاء مفوّضية لمناهضة التمييز. وتشبه هذه الدعوة ما سبق أن قام به الرئيس عبد الفتاح السيسي حين أنشأ ما يسمّى “لجنة العفو الرئاسي”، في تجاهل للقيام بإصلاحات قانونية حقيقية للقوانين المُقيِّدة للحرّيات الشخصية، وحرّيتَي الرأي والتعبير.
ومن غير المعروف أيضاً إذا ما كان الحوار سيناقش تعديل مواد قانون العقوبات سيئة السمعة، التي تُوجَّه إلى كلّ من يتبنّى وجهة نظر مختلفة، على غرار نشر أخبار كاذبة، وإساءة استخدام التواصل الاجتماعي، والانضمام إلى تنظيم إرهابي، وغيرها. ويتناقض مع هذه الدعوة استمرار حبس مئات في جرائم تتعلّق بحرّيتَي الرأي والتعبير، وجديدهم أخيراً رسّام الكاريكاتير، أشرف عمر، والصحافي خالد ممدوح، وعشرات في ذمة الدعوة إلى التظاهر في 12 يوليو/ تموز الحالي، وقبلهم أعضاء حملة المُرشّح الرئاسي أحمد الطنطاوي.
وممّا يُثير الانتباه تجاهل الحكومة استخدام أدوات قانونية أخرى نصّ عليها الدستور لإقرار هذه التعديلات، ولا تحتاج سوى إرادة سياسية لتنفيذها بإقرارها من مجلس النواب، ويمكن تنظيم جلستي استماع أو أكثر لممثّلي هذه المنظّمات وللمجلس القومي لحقوق الإنسان، لعرض رؤاهم. بالإضافة إلى ذلك، هناك مشاريع قوانين نُوقِشت داخل مجلسَي النواب والشيوخ بخصوص نفس الموضوع، وتمّ تجاهل النظر فيها حتّى الآن.
وهناك مخاوف من سيناريوهَين وراء هذه الخطوة. يأتي الأول بتمرير تعديلات هامشية محدودة بديلاً من إجراء تغيير كامل لملفّ الحبس الاحتياطي، بغرض الالتفاف على المطالب الداخلية والدولية المستمرّة، خاصّة أنّ هناك مراجعة دورية للملفّ الحقوقي المصري في نهاية العام. وسيكون من العبث استمرار هذا الحوار في ظلّ الإبقاء على ما يسمى “تدوير المتّهمين” في قضايا مختلفة بالاتهامات ذاتها، وغياب إجراءات قانونية وسياسية لحلّ مشكلة آلاف المحبوسين احتياطياً، ومدى وجود هذا الإجراء ضمن هذا الحوار من الأصل من عدمه. والاكتفاء بإخلاء سبيل أعداد محدودة كلّ فترة من الوقت. والأسوأ إعادة القبض على من أُخلي سبيله في مرحلة سابقة، وهو ما حدث مع عشرات من الناشطين.
في النهاية، لا يتحمّل الأمر إصلاحات هامشية وجزئية مع بقاء المناخ نفسه المُقيِّد للحريات، وبقاء ترسانة القوانين الأخرى ومنها على سبيل المثال قوانين الإرهاب والمنع من السفر والتظاهر، بالإضافة إلى الانتقاص من استقلال القضاء والنيابة العامّة، بالتوازي مع استمرار قضاء أمن الدولة. تغيير ذلك لا يتمّ أيضاً بمعزل عن الالتزام بالمعايير الخاصّة بضمانات الحقّ في محاكمة عادلة، التي تضمنها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ونصوص الدستور المصري.
المصدر: العربي الجديد
الأنظمة الديكتاتورية المستبدة تمارس البروباغندا الإعلامية بحوار وطني ,مشاركة الجميع بقرارات الدولة وزتحديد مسار المستقبل، وسجونها تمتلئ بمعتقلي الرأي وتمارس الرؤية التي تحقق أجندتها، أكبر الأمثلة على ذلك، نظام السيسي بمصر ، وقيس سعيد بتونس ، والأسد بدمشق.