لا يستطيع الجولاني أن يصبح ديكتاتوراً

حسام جزماتي

أسبوعاً وراء آخر تزداد معالم القمع في مناطق سيطرة «هيئة تحرير الشام» في الشمال السوري. وبقدر ما يظهر أن الحراك الثوري هناك في طور المراوحة أو ربما التراجع، تتراكم علامات تكريس زعيم هذه الجماعة، أبي محمد الجولاني، طاغية محلياً. غير أن مسيرته هذه محفوفة بصعوبات كثيرة لن تمكّنها من الاكتمال أو الاستقرار على الأرجح.

إذ قام الحكم في إدلب، منذ الإعلان عن نسخة «الهيئة» في مطلع عام 2017 وتأسيس «حكومة الإنقاذ السورية» في أواخره، على مزيج من الشرعية والحيلة اللتين أضيف إليهما لاحقاً قدر محسوب من الهيبة وإيقاظ الخوف. وقد تكفلت بالدعامة الأولى؛ الشرعية، مرجعية إسلامية تحظى بشبه إجماع في الحاضنة، واندفاعة ثورية تريد أن تبني كيانها البديل. وتولى الجولاني أمر الحيلة بمناورات لم تغب حتى أثناء تفكيكه الفصائل في حروب موضعية الواحدة تلو الأخرى، ما مكّنه من تجنيد بعض فلولها في جماعته أو التحالف مع بقاياها كشركاء صوريين بقصد استثمار طاقاتهم والادعاء بوجود تعدد. أما العامل الثالث؛ الخوف، فقد سرّبه بالتدريج «جهاز الأمن العام» الذي أخذ يتمأسس ويتفرع ويتوسع عدداً وعدة ومقراتٍ، ويزداد فظاظة.

ظلت تلك الخلطة ناجحة لسنوات، حتى تغيرت الأوضاع بشكل شبه مفاجئ في الأشهر الأخيرة. وقد بدأ الأمر بانكشاف اليد الطولى التي حازها «الأمن العام»، مما شكّل صدمة/ صحوة مجتمعية سرعان ما ارتدّت تشكيكاً في الشرعية التي لا يمكن لها أن تغطّي سلوكاً ممنهجاً كهذا. وحين قام الجولاني إلى ميدانه الأثير، الحوار والتفاوض واللجان والوعود، وجد أن عدداً وافراً من ضحايا ألاعيبه السابقة، أو شهودها، أغلقوا باب الحوار قبل إزاحته شخصياً وحل «جهاز الأمن العام» ومطالب أخرى.

لم يكن هذا ممكناً بالنسبة إليه لأنه يعني فتح باب المساءلة عن مرحلة ماضية لا يستطيع وضعها أمام الضوء. ولذلك انتقل إلى التهديد بالقمع ثم ممارسته بعيارات متغيرة تهدف إلى إخماد الحراك المعارض بكل السبل الممكنة التي كان منها اعتقال رموزه، دون التنكيل بهم في هذه المرحلة المكشوفة إعلامياً، وعدم الإفراج عنهم إلا بعد توقيعهم على تعهدات بعدم المشاركة في التظاهرات. بالإضافة إلى التلويح بالعصا الغليظة لبعض القوى الفصائلية التي يشتبه في أنها تدعم الاحتجاجات. وقطع الطرق لمنع تجمّع تظاهرات مركزية تقلب وجه مدينة إدلب، التي شهدت فضاً وحشياً للاعتصام الوحيد الذي استطاع أن يستمر ليومين. ناهيك عن حملة إعلامية وإدارية واجتماعية لا تهدأ لتشويه صورة المحتجين أو للتشويش على مطالبهم.

في هذا كله يصرف الجولاني من رصيد الشرعية ليغذي ماكينة القمع. وهو أمر لا يمكن الاطمئنان إلى نتائجه إطلاقاً في تركيبة هشة مثل حال سلطته. فهو، من ناحية أولى، لا يستند إلى أي عصبة محلية من شأنها أن تكون عمدته المكينة أو حصنه الأخير. إذ لا ينتمي إلى المنطقة التي يحكمها، ويعدّه أكثر سكانها «مجهول النسب» في وقتٍ استفحل فيهم الاعتداد المناطقي أو العشائري أو العائلي والتضامن المسلح على أحد هذه الأسس.

ومن ناحية ثانية لا تبدو «الهيئة» جسماً صلباً يمكن الركون إليه تماماً. فقد أثمرت مسيرتها المتقلبة، منذ «جبهة النصرة»، عن طبقات جيولوجية عدة، فضلاً عن اختراقها عمودياً وفق الانتماءات الفئوية، وتوزعها بين السوريين وبين المهاجرين القلائل الذين ما زالوا يتمتعون بنفوذ وبأيديولوجية عالية، مما يفتح الباب على تباين في درجات التشدد والانفتاح الذي كانت قيادة «الهيئة» تسير فيها بحذر يخالطه التدليس. ويحتاج كل ذلك إلى جهد يومي من الارتجال والترقيع.

خارج بيت «الهيئة» يبدو المشهد أقل خطورة لكنه أصعب. إذا لا توجد آلية السمع والطاعة المستندة إلى الشرعية (البيعة)، طالما أن الجولاني لم يحصل على لقب «قائد المحرر» إلا عبر إعلامه الرسمي والرديف، ولم تسعفه السنوات الماضية بفرضه على «المؤسسات» القائمة بطريقة مقوننة تشرّع له حيازة صلاحيات محددة. ولذلك فهو يستخدم شبكة من مسؤولي «المتابعة» في الوزارات والإدارات، ومزيجاً من الترغيب والترهيب مع القوى والجماعات والأفراد. ولكن هؤلاء، في كثير من الأحيان، قادمون من بيئة من الاعتراض أصلاً. وهم يلحظون، بعد لأي أو مكابرة، أن مشاهد العام 2011 تتكرر أمام أنظارهم، على أيدي من يوالونهم أو يصمتون عنهم.

في ظل المساحة الضيقة لما يسمّيه منظرو الجولاني «الكيان السنّي»، والتداخل الأهلي العضوي بين المعارضين الجدد والموالين الجدد، يبدو خيار القوة بمدة صلاحية محدودة تفرض على مستخدمه مسابقة الزمن قبل أن تنقل وسائل التواصل الشخصية وفرة مقاطع فيديو للانتهاكات والتعدّي، أو تنحسر الدعاية الكثيفة التي يحشو بها الإعلام الرديف عقول المنتسبين صغار السن إلى الجهاز الأمني أو الجناح العسكري للجماعة، أو أن يثمر كل ذلك عن حرب الأهل بمعنى الكلمة.

لا يستطيع الجولاني أن يواجه المجتمع المحيط به بالقوة العارية في حال رغب في ذلك، وهو الميّال إلى المصانعة والحيلة. ولا يمكن حكم إدلب الحالية دون رصيد معقول من الشرعية التي باتت تستنزف يومياً أمام الحواجز والمصفحات والجنود الملثمين. هذا قمعٌ عالي الثمن ولو كبت المظاهرات، موقتاً، هنا أو هناك.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى