محمد بن يوسف كرزون، كاتبٌ وروائيٌّ سوريّ، له الكثيرُ من الكتاباتِ التّربويّةِ والأدبيّةِ، وهٰذا أوّلُ عملٍ أقرأُهُ له. السُّهافُ؛ روايةٌ تعتمدُ في كتابتِها لغةَ المتكلّمِ، حيثُ يتناوبُ علىٰ منصّةِ السّردِ الشّخصياتُ الأساسيُة في الرّوايةِ. ولفظة (السُّهاف) تعني في القاموسِ العربيّ: أشدُّ أنواعِ العطشِ.
تبدأُ الرّوايةُ من واقعِ أسرةٍ نموذجيّةٍ في بلادٍ غيرِ محدَّدةٍ؛ لٰكنّهُ يُفْهَمُ بشكلٍ غيرِ مباشرٍ أنّها سوريةُ، وأنّ هٰذهِ الأسرةَ مؤلّفةٌ من أبٍ وأمٍّ وأولادٍ؛ ثلاثةِ ذكورِ وأنثىٰ، العائلةُ الّتي كبرَ أولادُها تزوّجَ الأولادُ الكبارُ والفتاةُ، وبقيَ الابنُ الأصغرُ مع والدِهِ في بيتِ العائلةِ، أمّا الأمّ فقد أُصيبَتْ بمرضٍ وتوفّيَتْ.
يعيشُ الأبُ الّذي كانَ قد نامَ لمدّةِ عشرةِ أيّامٍ متواصلةٍ، وعادَ ليقصَّ علىٰ ابنِهِ حُلُما طويلًا عاشَهُ. والابنُ الأصغرُ الّذي أتمَّ دراستَهُ في الهندسةِ الزراعيّةِ، كما أنّه حصلَ علىٰ شهادةِ الدكتوراه عن دراسةٍ مهمّةٍ وضروريّةٍ عَنِ الرّيِّ بالتنقيطِ. هٰذهِ الدّراسةُ الّتي عَنَتْ بالنّسبةِ للابنِ أهمَّ موضوعٍ أعطاهُ عقلَهُ وجهدَهُ، إنّهُ الحفاظُ علىٰ الثروةِ المائيّةِ الناضبةِ، واستثمارِها بأحسنِ حالٍ، وبمردوديّةٍ عاليةٍ تفيدُ البلادَ والنّاسَ. عملَ الأبُ والابنُ علىٰ توصيلِ الدّراسةِ إلىٰ أعلىٰ المسؤولينَ في الدولةِ، وكانَتِ الاستجابةُ مفاجئةً للأبِ والابنِ، فقد اهتمَّ كلُّ المسؤولينَ بها، وحتّىٰ زعيمُ البلادِ، واستُقْبِلَ من الكلِّ بحفاوةٍ، وأعطيَ شهادةَ تقديرٍ من الدّولةِ، وأعطيَ وظيفةَ مستشارٍ في وزارةِ الفلاحةِ. وسرعانَ ما أدركَ الأبُ والابنُ أنّ ذٰلكَ كلَّهُ استعراضٌ إعلاميٌّ، وتجميدٌ حقيقيٌّ للمشروعِ وعدمُ التقدّمِ بأيِّ خطوةٍ نحوَ التّنفيذِ. وحصلَ الأسوأُ مع الابنِ المستشارِ الّذي لا عملَ له، لقد اتُّهِمَ بالتّحرّشِ بالسّكرتيرةِ، وتمَّ إبعادُهُ عن مناصبِهِ الكبيرةِ، وَعُيِّنَ حارسًا لحديقةٍ في إحدىٰ الدوائرِ الرّسميّةِ الصغيرةِ. لقد شكّلَ ذٰلكَ عندَ الأبِ والابنِ نكسةً نفسيّةً ومعنويّةً، فقد أُهْمِلَ مشروعُ الابنِ، وتمّتْ معاقبتُهُ عليهِ، لٰكنَّ الأبَ والابنَ لم ييأسا من المشروعِ، فعرضاهُ علىٰ بعضِ المزارعين في بلدتِهم، واستجابوا لهم، وبدؤوا التنفيذَ، وظهرَتِ النّتائجُ الجيّدةُ للمشروعِ، لقد ساهمَ في المشروعِ الفلاحونَ بأرضِهم وجهدِهم، ومعهم عائلةُ الأبِ أولادُهُ بالمالِ علىٰ تواضعِهِ، وبدأَتْ تظهرُ نتائجُ المشروعِ جيّدةً علىٰ الأرضِ وفي التّطبيقِ، الّذي بدأَ يتوسّعُ، وتستفيدُ منهُ دائرةٌ تتوسّعُ من الفلّاحينِ.
تغطّي الرّوايةُ موضوعاتٍ فرعيّةٍ موازيةٍ للموضوعِ الأساسيِّ، منها: تربيةُ الأولادِ، تجربةُ حبِّ الابنِ الأكبرِ الّذي لم يلتزمْ بالمعاييرِ الاجتماعيّةِ وأدّىٰ إلىٰ الفشلِ، الإخوةُ المتكافلون المتضامنون الّذينَ كانوا أكبرَ مساعدٍ للأِب والابنِ والمشروعِ، ممّا أدّى إلىٰ نجاحِهِ عندَ التّنفيذِ مع الفلاحينَ. القيمُ الأخلاقيّةُ والسلوكيّةُ والأدبُ والاحترامُ العائليُّ الّذي يجعلُ الحياةَ سويّةً وسعيدةً وناجحةً… إلخ.
في ختامِ الرّوايةِ سيعودُ الأبُ إلى نومِهِ الّذي كانَ قد نامَهُ لعشرةِ أيّامٍ وعادَ ليقصَّ حُلُمَهُ على ابنِهِ الّذي تحوّلَ إلىٰ حقيقةٍ، وصنعَ الابنُ مشروعَهُ ونجحَ به. عندَها أسلمَ الأبُ نفسَهُ لنومٍ جديدٍ يموتُ بعدَهُ وقد ارتاحَ ضميرُهُ بأنّهُ أدّىٰ رسالتَهُ مَعَ ابنِهِ وعائلتِهِ في الحياةِ بنجاحٍ.
وفي تحليلِ الرّوايةِ نقولُ:
- نحنُ أمامَ روايةٍ تربويّةٍ توجيهيّةٍ بامتيازٍ؛ سواءٌ من حيثُ الحديثِ عَنِ العائلةِ النّموذجيّةِ: الحبُّ التّفاهمُ التّفاعلُ والتّوادُدُ والتّضامنُ، دورُ الأبِ والأمِّ والأولادِ وتكاملُهُمْ. والحديثُ عن الدّورِ الإيجابيِّ للابنِ، والمقصودُ الجيلُ الجديدُ في مواجهةِ مشاكلِ المجتمعِ، وهي في الرّوايةِ مشكلةُ نقصِ المياهِ وهدرِها، وكيفيّةِ استخدامِها والاستفادةِ منها في أحسنِ حالٍ عبرَ مشروعِ الرّيِّ بالتّنقيطِ.
- يمرُّ الكاتبُ علىٰ مشكلةِ الأنظمةِ الحاكمةِ المستبدّةِ في بلادِنا، دونَ الغوصِ فيها بالعمقِ، واكتفىٰ بالتّحدّثِ عن استعراضيّتِها وادّعاءاتِها الإعلاميّةِ، لٰكنّها تُبقي المشاكلَ دونَ حلٍّ وتتركُ واقعَ حياةِ النّاسِ ينتقلُ من سيّءِ إلىٰ أسوأ.
- يتحدّثُ الكاتبُ عن أصالةِ النّاسِ والمجتمعِ، واستعدادِهِ أنْ يشاركَ بحبِّ ومساعدةِ كلِّ ما يراهُ مفيدًا وبإمكانيّاتِهِ المتواضعةِ، وهٰذا أدّىٰ إلىٰ نجاحِ المشروعِ جزئيًّا وتوسّعِ العملِ بالمشروعِ، الّذي أهملَتْهُ الدّولةُ رغمَ إمكانيّاتِها الكبيرةِ، وهٰذِهِ إشارةٌ ضمنيّةٌ عن كونِ أنظمتِنا تتصرّفُ ضدَّ مصالحِ الشّعوبِ.
- أمّا موضوعُ الرّيِّ بالتنقيطِ فلي تجربةٌ شخصيّةٌ فيه سأوردُها هنا لأنّها علىٰ علاقةٍ بموضوعِ الرّوايةِ وهدفِها.
وُلِدْتُ في أحدِ أريافِ سوريةَ ضمنَ أسرةٍ من الفلّاحينَ يعملُ أغلبُ أهلِها في الزّراعةِ، سواءٌ بأراضيهم الصّغيرةِ أو مُزارعةً في أراضي الإقطاعيّينَ الكبيرةِ. كانَ والدي يعملُ في أرضِنا الصّغيرةِ، يزرعُ الحبوبَ عمومًا، وكانَ لدينا أراضٍ صغيرةٌ تُروىٰ من نبعِ البلدةِ. كانَ والدي من جيلٍ يؤمنُ بالعلمِ، لذٰلكَ أكملْتُ دراستي الجامعيّةِ في فرعٍ علميٍّ، ولأنَّ أغلبَ الشّبابِ لا يجدونَ عملًا في الدّولةِ بعدَ تخرّجِهم من الجامعةِ، فقد عُدْتُ محمّلًا بالشّهادةِ لأعملَ مع والدي بالزّراعةِ، كانَ ذٰلكَ في أواسطِ ثمانينيّاتِ القرنِ الماضي، وكانَ توجّهُ النّظامِ في سوريةَ إلىٰ تشجيعِ الزّراعةِ ضمنَ خطّةِ الاكتفاءِ الذّاتيِّ الّتي طرحَها في ذٰلكَ الوقتِ. صارَ يُعطي بعضَ القروضِ الميسّرةِ ويشجّعُ علىٰ زراعةِ الأشجارِ المثمرةِ وخاصّةً الزّيتونُ. توجّهْتُ إلى أصدقائي في مشاتلِ الزّيتونِ الّتي ترعاها الدّولةُ، واشتريتُ شتولًا لزراعةِ أرضٍ كبيرةٍ كانَ اشتراها والدي من الإقطاعيّينَ الّذينَ بدؤوا ببيعِ أراضيهم برخصٍ خوفًا مِنَ الإصلاحِ الزّراعيِّ، الّذي كانَ يأخذُ أراضيهم منهم. الأرضُ كانَتْ حوالي الستّينَ دونمًا، والمياهُ كانَتْ تأتيها من نبعِ البلدةِ، بمعدّلِ يومٍ واحدٍ في الأسبوعِ كحقٍّ متعارَفٍ عليهِ، زرعْتُ معَ الوالدِ الأرضَ بآلافِ أشجارِ الزّيتونِ، وبدأْنا بسقايتِها من مياهِ النّبعِ، لٰكنَّ النّبعَ خفَّ مع الزّمنِ وأصبحَتِ الأشجارُ بحاجةٍ للمياهِ أكثرَ، ممّا جعلَنا نحفرُ بئرًا ننضحُ منهُ الماءَ لسقايةِ الأشجارِ الّتي بدأَتْ تكبرُ وتنمو، لٰكنَ ماءَ النّبعِ انخفضَ، ووصلَ إلى مرحلةٍ انقطعَ مطلقًا، وأصبحَ كلُّ الوادي الّذي يعيشُ علىٰ مياهِ النّبعِ جافًا، ويبسَ أغلبُ الأشجارِ، وكانَ ذٰلكَ كارثةً علىٰ الفلّاحينَ، ونحنُ منهم، وحتّىٰ البئرُ الّذي حفرناهُ في الأرضِ انخفضَ ماؤه من ٤ إنش إلىٰ أقلَّ من نصفِ إنش، ثمّ جفَّ ولم تعدْ فيهِ مياهٌ، وبعدَ ذٰلكَ حفرْنا آبارًا عدّةً وفي كلِّ مرّةٍ ننزلُ لأعماقٍ أكبرَ، فأوّلُ بئرٍ كانَ حوالي الخمسينَ مترًا، والأخيرُ الّذي رقمُهُ السّابعُ بتسلسلٍ زمني في عشرينَ عامًا كانَ ١٥٠ مترًا ولا يعطي إلّا إنش من الماءِ، حيثُ وصلْنا إلىٰ الطّبقةِ الثّالثةِ الحاملةِ للماءِ في منطقتِنا، لذٰلكَ جفَّ النبعُ الأساسيُّ في البلدةِ، وجفَّ كثيرٌ من الآبارِ السّطحيّةِ، وفي مرحلةٍ مِنَ المشروعِ اعتمدْنا علىٰ تمديدِ شبكةِ تنقيطٍ للأرضِ كلِّها، لٰكنَّ اضمحلالَ المياهِ في المنطقةِ كلِّها جعلَ الأرضَ تبدأُ باليباسِ، ويفشلُ المشروعُ بعدَ مضيِّ أكثرَ من ثلاثةِ عقودٍ، وخسارةِ الكثيرِ من الأموالِ. إنّ المشكلةَ كانَتْ تكمنُ في الحفرِ العشوائيِّ للآبارِ والسّقايةِ غيرِ المدروسةِ، أدّتْ لنضحِ المياهِ المخزّنةِ في الأرضِ عبرَ ملايينِ السّنينِ، والإمدادُ المائيُّ من الأمطارِ والثّلوجِ كانَ أقلَّ من النضحِ علىٰ مستوىٰ أغلبِ الأراضي الزّراعيّةِ في سوريةَ، أدّىٰ إلىٰ تسابقِ النّاسِ علىٰ حفرِ الآبارِ والنّضحِ منها، إلىٰ درجةٍ لم يعدْ هُناك مخزونٌ في الأرضِ، وانتقالُ البعضِ للحفرِ بأعماقٍ أكبرَ، وكلُّ ذٰلك مكلفٌ.
لقد أصبحَتْ سوريةُ في واقعٍ مؤلمٍ زراعيًّا، فهناك أراضٍ واسعةٌ متروكةٌ مشاريعُها وأشجارُها لليباسِ والموتِ… لقد ماتَتِ الزّراعةُ في أغلبِ البلادِ حتّىٰ الآنَ تقريبًا.
أمّا مشروعُنا فقد كانَ يعيشُ موتًا بطيئًا، تمّ إعلانُ وفاتِهِ يومَ تركْنا بلادَنا حفاظًا علىٰ الحياةِ. بعدَ الثّورةِ الّتي قرّرَ النّظامُ ردًّا عليها، أنْ يقتلَ الشّعبَ الثّائرَ، ويدمّرَ البلادَ، ولا يتنازلَ عن أيِّ مكتسبٍ له. فماتَتِ البلادُ وأراضيها، وبقيَتْ للغربانِ والأعداءِ من كلِّ صنفٍ ولونٍ…
- أخيرًا: نحنُ نحتاجُ إلىٰ هٰذا النّمطِ من الرّواياتِ وخاصّةً للنّشءِ الجديدِ الّذي يحتاجُ التنويرَ والتّوعيةَ وزرعَ القيمِ الخيّرةِ في عقولِهم وأنفسِهم، ويحضّهم على التآلفِ الاجتماعيِّ، والسّعيِ إلى العلمِ وتطبيقِهِ.