عقب الفوز الساحق، الذي حقّقه حزب التجمّع الوطني (العنصري) في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو/ أيار الماضي، قرّر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان)، وعقد انتخابات مُبكّرة، بدعوى رغبته في “توضيح” الوضع، لكنّه بذلك زاد الوضع تعقيداً، وأربك المشهد السياسي، بعد أن أفرزت الانتخابات ثلاث كتل متنافرة يتصدّرها تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري، الذي لم يُفلح بعد في الاتّفاق على تعيين مُرشّحه لمنصب رئيس وزراء الحكومة الجديدة. وبينما تتعارك أجنحة اليسار، ويحاول حزب مارين لوبان (التجمّع الوطني) لعب دور المعارضة المُضطهدة، نجح حزب الائتلاف الرئاسي في إنشاء تحالف مع الجمهوريين للاستمرار في الحكم، رغم سلسلة خسارات انتخابية، وانحطاط شعبية الرئيس، الذي يُوَجِّه إليه اليسار تهمة الانقلاب على نتائج الانتخابات.
بحسب القواعد الديمقراطية، وعُرف الجمهورية الخامسة، في سياق انتخابات تشريعية حرّة ونزيهة، كان يُفترض أن يعترف ماكرون بالوضع الجديد الذي فرضته نتيجة صناديق الاقتراع، بحلول تحالف اليسار في المرتبة الأولى بحوالي 190 مقعداً أمام تكتّلات الأحزاب الأخرى. مساء إعلان فوز تحالف الجبهة اليسارية (في 7 يوليو/ تمّوز 2024)، كان يُتوقّع أن يتصرّف ماكرون، باعتباره رئيسَ جمهوريةٍ ديمقراطيةٍ تتمتّع بالفصل بين السلطات الثلاث، ويُعلن قبوله التعايش مع حكومة تحالف اليسار، بغضّ النظر عن رأيه فيه وعدم فوزه بأغلبية مطلقة. لو تحقّق هذا السيناريو الديمقراطي لوَضَع ماكرون تحالف اليسار أمام مُهمّة شبه مستحيلة، نظراً إلى بعده الكبير عن الأغلبية المطلقة المُتمثّلة في 289 مقعداً، وانقساماته الداخلية العميقة، ورفض جلّ الأحزاب والكتل الأخرى التحالف معه. لو كانت ردّة فعل ماكرون ديمقراطية، لانتهت تجربة رابع تعايش في تاريخ الجمهورية الخامسة، حتّى قبل أن تبدأ، بحجب الثقة عن تحالف اليسار، بما يتيح للرئيس فرصة الانتقال إلى خيارات أخرى، بما في ذلك إنشاء حكومة ائتلاف وطني أو الدعوة إلى تحالف القوى الجمهورية أو تشكيل حكومة تكنوقراطية. لكنّ سلطوية ماكرون تمنعه من قبول التعايش مع المُعارَضة، ومن الانتقال من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، ولو لبضعة أشهر أو أيّام.
بعد صمت ثلاثة أيّام، نُشِرت رسالة لماكرون يدّعي فيها أنّ “أحداً لم يفز” في الانتخابات التشريعية، طالما أنّه لم تفز أيٌّ من القوى السياسية بما أسماها “أغلبية كافية”، مُقحماً بذلك مفهوماً جديداً غير وارد في دستور البلاد، الذي يشير فقط إلى “الأغلبية المُطلقة”، وذل في موقف دفع فرنسيين عديدين إلى تذكيره بأنّ نتيجة الانتخابات التشريعية لعام 2022 كانت مشابهة إلى حدّ ما للوضع الحالي، إذ حصل تحالفه الرئاسي المتكوّن آنذاك من ثلاثة أحزاب (النهضة، وموديم، وأوريزون)، على 250 مقعداً فقط، لكنّ ذلك لم يمنع الرئيس من إعلان فوز التحالف الرئاسي. يبدو، بحسب هذا المنطق، أنّ الأغلبية النسبية مُريحة وكافية للحكم حين تخدم مصالح ماكرون، وتصبح “أقليّة” وغير كافية حين يفوز تحالف اليسار بقيادة حزب فرنسا الأبيّة.
بناءً على رفضه نتيجة الانتخابات، دعا ماكرون القوى السياسية إلى تكتّل جمهوري من أجل بناء “أغلبية صلبة”، وهذا مفهوم جديد يضيفه إلى أغلبيته الكافية المُبهَمة. وختم الرسالة جازماً أنّه، وفقاً لهذه المبادئ، سيُقرّر تعيين رئيس الوزراء الجديد. لم يفت الفرنسيين أنّ الرئيس المهزوم يحاول تكوين كتلة يمينية جديدة تضم ثلاثة أحزاب (النهضة، وموديم، وأوريزون) ستسعى إلى التحالف مع “اليمين الجمهوري”؛ الاسم الجديد للحزب الجمهوري؛ كتلة قد يبلغ عدد نوّابها 220 في أحسن تقدير، ما يجعلها بعيدة البعد كلّه عن الأغلبية المطلقة. يبدو أنّ الرئيس لا يأبه بالخسارة الثلاثية التي مُني بها حزبه وحلفاؤه خلال دورتي الانتخابات التشريعية والانتخابات الأوروبية، ما جعل الائتلاف الرئاسي يخسر 85 نائباً في أقلّ من شهر جرّاء قرار ماكرون حلّ الجمعية الوطنية.
منذ السابع من شهر يوليو/ تموز الحالي، تتهم الجبهة الشعبية الجديدة ماكرون بمحاولة الانقلاب على نتيجة الانتخابات للحيلولة دون صعود حكومة يسارية إلى سدّة الحكم. وتترسّخ التهمة في ظلّ آخر مناورة سياسية نجح من خلالها تحالف معسكر “معاً”، الذي يقوده حزب الرئيس (النهضة) مع حزب اليمين الجمهوري، في إعادة انتخاب يائيل برون بيفيه في رأس الجمعية الوطنية الفرنسية، بمجموع 220 صوتاً بعد ثلاث جولات من التصويت مثيرة للجدل، نظراً إلى مشاركة 17 وزيراً – برلمانياً أعضاءً في حكومة تصريف أعمال مستقيلة حديثاً؛ في حين احتلّ مُرشّح تحالف اليسار، الشيوعي أندريه شاساني، المركز الأول في الجولة الأولى من الانتخابات بمجموع 200 صوت، وحصل على 207 أصوات في الجولة الثالثة. اعترضت الجبهة الشعبية على هذه النتائج، وقدّمت التماساً إلى المجلس الدستوري لإلغائها نظراً إلى مشاركة 17 وزيراً – برلمانياً، مُتّهمة حكومة ماكرون بانتهاك المادة 23 من الدستور، التي تحظر “الجمع بين عضوية الحكومة وتولي أيّ ولاية برلمانية أو أيّ منصب تمثيلي مهني في المستوى الوطني أو أيّ وظيفة عامة أو نشاط مهني”.
لا غرابة في أن يلتحق القانون والديمقراطية بضحايا الماكرونية. ففي أشهَر زلّات لسانه، في خطاب ألقاه يوم 16 سبتمبر/أيلول 2017 أمام الجالية الفرنسية في نيويورك، تعهّد ماكرون بإخراج فرنسا من سيادة القانون بحلول شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، قبل أن يتدارك الموقف، مضيفاً أنّه يقصد الخروج من حالة الطوارئ المستمرّة منذ هجمات 2015. يوماً بعد يوم، يتّضح أنّ الرئيس الفرنسي خارج عن القانون ويتلاعب بالشعب يمنة وشمالاً، فعند حلّه الجمعية العامة ادّعى أنّه يرغب في “إعطاء الكلمة للفرنسيين”، وحين قال الفرنسيون كلمتهم عبر صناديق الاقتراع تجاهل خسارة حزبه، ومضى يناور من أجل الاستفراد بحكم رئاسي غير قابل للتعايش مع المُعارَضة.
إنكار سيادة الشعب التي أقرّتها الثورة الفرنسية، ودستور الجمهورية الخامسة الذي يقوم على مبدأ “حكومة الشعب، من الشعب ومن أجل الشعب”، جعل رئيسة الكتلة النيابية لحزب فرنسا الأبيّة، ماتيلد بانو، تتساءل إن كان ماكرون سيحلّ الشعب بعد أن حلّ البرلمان، مُستحضِرةً المقولةَ الساخرة للكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت: “بما أنّ الشعب يصوّت ضدّ الحكومة ينبغي حلّ الشعب”.
المصدر: العربي الجديد