حراكان سوريان متوازيان لا يلتقيان

حسام جزماتي

يحق للسوريين أن يتوجسوا من أي تفاؤل بعد ما مر عليهم من خيبات، ولا سيما جمهور الثورة منهم. غير أنه من العادل والموضوعي ألا تدفع موجة نفض اليد السائدة إلى إغفال معالم الانضباط التي يبديها حراكان شعبيان مستمران في جنوبي البلاد وشماليها؛ في السويداء ضد النظام وفي إدلب ضد قيادة «هيئة تحرير الشام». فخلال أحد عشر شهراً من عمر الأول، وما يقرب من نصفها في عمر الثاني، أكد الحراكان على مطالبهما بالحرية والكرامة وعلى تمسكهما بالسلمية خياراً لتحقيق الأهداف، وإن في سياقين مختلفين جدياً سنتحدث عنهما تالياً.

على كل حال، حمل الأسبوع الفائت توتراً غير عادي في المنطقتين. ففي يوم الاثنين، الخامس عشر من تموز، وهو موعد إجراء انتخابات «مجلس الشعب» في المناطق التي يوجد فيها النظام؛ عطّل المحتجون إجراء هذه التمثيلية الديمقراطية في أجزاء من مدينة السويداء وبعض البلدات والقرى في ريفها. وبعد يومين استفاقت المحافظة على خبر مقتل مرهج الجرماني، قائد أحد الفصائل المعارضة، ما رأى فيه كثيرون بداية سلسلة من الإجراءات ذات الطابع الأمني التي ربما تشكّل خطة المحافظ الجديد أكرم محمد، القادم من خدمة طويلة في إدارة المخابرات العامة، لإضعاف الحراك تمهيداً لوأده. وكان محمد قد ظهر لأول مرة في اليوم التالي للانتخابات، في تسجيل مصور من مجلس المحافظة، داعياً الجميع إلى العمل مثل «خلية نحل» لرفع مستوى الخدمات المتردي، متأسفاً لأنه لا يحمل «عصا سحرية» لفعل ذلك، رغم الاشتباه بأن مسدساً، غير سحري، من طرفه هو ما لسع الجرماني.

في اليوم الذي كانت فيه السويداء تتعرف إلى محافظها الأمني كانت بعض النسوة، من أهالي مدينة بنّش بريف إدلب، قد نظّمن وقفة احتجاجية للمطالبة برجالهن المعتقلين لدى «إدارة الأمن العام» التابعة لسلطة أبي محمد الجولاني زعيم «الهيئة»، عندما قاد أحد المحسوبين على هذه الأخيرة سيارة مسرعة دعست ابنة أحد المعتقلين، في حادثة غير مميتة لكنها أججت تمرداً شعبياً واسع النطاق في المدينة المحاصرة والمقطّعة، لعشرة أيام خلت، بالحواجز الأمنية والعسكرية.

وقبل أن يفلت الأمر من يدها، لا سيما مع انتقال الغضب إلى مناطق أخرى، تداركت «الهيئة» الموقف بالإفراج عن السجناء وتوقيع اتفاق مع الوجهاء، أفلح في تهدئة الموقف حتى حين.

لا يملك الجولاني عصا سحرية هو الآخر، لكن جنوده يحملون أنواعاً مختلفة من العصيّ؛ المطاطية والخشبية وتلك المزودة بمسننات حديدية. وهو يطلب، مثلما فعل اللواء المتقاعد في السويداء، تكاتف الجهود معه لرفع أداء الخدمات، وتناسي «المطالب الصفرية» التي يرفعها الحراك والعياذ بالله؛ كالإطاحة بسلطته وتفكيك جهازه الأمني وتبييض سجونه السياسية والتحول إلى قيادة جماعية!

من جهتهم، لا ينادي المتظاهرون في المحافظة الجنوبية بأقل مما هدفت إليه الثورة السورية في عام 2011. يهتفون «سوريا لينا وما هي لبيت الأسد»، وفي تشييع الجرماني صاحوا «اللي بيقتل شعبه خاين»، والعياذ بالله مرة أخرى قادمة من العاصمة دمشق.

ورغم تعرضهما للاستفزاز أكثر من مرة يصرّ الحراكان على السلمية. وبقدر ما يدل هذا على تطور في الوعي فإنه يحيل، بدرجة لا تقل من التأثير، إلى حسابات عاقلة وحذرة لتوازن القوى. ففي إدلب يبدو هذا الفارق هائلاً بين أشتات من المحتجين وبين جهاز أمني مجهز ويمكن دعمه بقوات من الجناح العسكري عند اللزوم. وفي السويداء يشعر الناس أن الفصائل المحلية لن تستطيع صد هجوم وحشي للنظام إن تم كما حدث في مناطق عديدة، مهما أبدت من فداء، وأن ثمن ذلك سيكون خراب الجبل مكاناً ومجتمعاً. وهي نقطة أخرى تجمع بين الحراكين اللذين تبدي مجتمعاتهما تفهماً لوجودهما من دون تأييد تام أو إجماع متماسك.

ففي السويداء أصدرت مشيخة العقل التابعة للشيخ يوسف جربوع، في الشهر الماضي، بياناً أظهرت فيه دعمها للحكم وجيشه و«مؤسسات الدولة». وبينما كان معارضون يغلقون نقاط الاقتراع لعضوية «مجلس الشعب» فتح شيخ إحدى القرى مركزاً انتخابياً داخل المقام الديني باسطاً عليه حمايته. كما توجه العديد من أبناء المحافظة إلى المراكز المتاحة وشاركوا في العملية. في حين يستظل المعارضون بعباءة شيخ العقل حكمت الهجري كما هو معروف.

وقل مثل ذلك وأكثر عن إدلب التي يتحدر أكثر المتنفذين فيها، عسكرياً وإدارياً وشرعياً، من مدنها وبلداتها وقراها. فالشاب الذي دعس الفتاة هو ابن بنّش التي رعى وجهاؤها ومشايخها اتفاقاً رفضه الحراك الثوري لكنه حافظ، من وجهة نظر موقعيه، على السلم الأهلي وحال دون الدماء.

على المقلب الآخر يختلف الحراكان في مسائل فكرية جذرية. إذ ينطلق اعتراض السويداء من رؤية مدنية علمانية لسوريا المنشودة، وتشارك فيه النساء بحضور لافت لا يقل عن أثر الرجال. أما الحراك في إدلب فينبعث من أسس شرعية إسلامية واضحة، ويتصدره عدد وافر من المشايخ السلفيين أو الجهاديين أو السلفيين الجهاديين الذين انشق بعضهم عن «الهيئة» منتقداً تراخيها في أمور «الحسبة» وشيوع «المنكرات»، إضافة إلى أسباب أخرى أهم. وحين تشارك النساء فإنما يفعلن ذلك باحتجاجات منفصلة غالباً، متحسرات على اضطرارهن إلى النزول إلى الشارع نتيجة لتلكؤ الرجال. ونتيجة لهذا الجوّ العام اضطر أصحاب التوجهات المدنية إلى الانسحاب أو إلى السير مع التيار حفاظاً على الوحدة.

لم يكن الشعب السوري واحداً كما قال الشعار الرغبوي الشهير. لكن جلوس أبنائه إلى طاولة للنقاش عن مستقبل البلد كان يجب أن يحدث قبل وقت طويل، لا بعد أن تشعبت المسارات إلى هذه الدرجة التي تشبه العيش في بلدان مختلفة ضمن جغرافيا موحدة نظرياً ولا يعلم أحد مدى قدرتها على الاستمرار.

 

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى