مَثُلَ أخيراً عالم الإسلاميات والدراسات السياسية الفرنسي، فرانسوا بورغا، أمام السلطات الأمنية في بلاده، للتحقيق معه في تهمة “تمجيد الإرهاب”، بدعوة من مديرية شرطة آكس دو بروفانس (جنوب). ربّما يثير ذلك كثيراً من السخرية والاستنكار، وربّما لا يُؤخذ مأخذَ الجدّ، ولكن علينا أن نتذكّر أنّه يجري في فرنسا بالذات، وهي التي حوّلت مناخها الفكري منذ عقود إلى “كانتونات” لا يمكن الاقتراب من جُلّها باعتبارها مُحرّمة. حُوكِم مُفكّرون وفنانون عديدون وشُهِّر بهم، وسُحلوا إعلامياً في وسائل التواصل الاجتماعي، لمُجرّد أنّهم نسفوا رواياتٍ بشأن النازيّة أو بشأن اليهود. تُصنّف دوائر في فرنسا هؤلاء أخلاقياً وأدبياً ضمن فئة الإنكاريين (Négationnistes) ومعادي الساميّة، ولو كانوا على قناعة تامّة بوقوع المحرقة، وبالمساواة التامّة بين الأعراق والاجناس كلّها. ومع ذلك، يحترس المُفكّرون والنخب الثقافية والسياسة في فرنسا من الاقتراب من تلك الدوائر، ويظلّ مثال الفيلسوف روجيه غارودي حيّاً في ذاكرة هؤلاء جميعاً.
لم يقترب فرانسوا بورغا من هذه الدوائر، ومع ذلك جرّته أكبر الجمعيات اليهودية نفوذاً في أوروبا (المنظّمة اليهودية الأوروبية) إلى مراكز الأمن لمقاضاته بسبب “تمجيد الإرهاب”. وهو الذي لم يكتب عن تنظيم القاعدة ولا عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولا عن أيّ تنظيم إرهابي آخر، إنّما كتب، في حساباته في وسائل التواصل، تدوينات مُتعلّقة بما يحدُث في غزّة، ناقلاً أحياناً وجهة نظر المقاومة الفلسطينية من دون إضافة أو نقصان. وربّما ما سبّبت له هذه البلايا مقارنته، في إحدى تدويناته، (في حوار مع أحد متابعيه) بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، من باب الإقرار بأنّ حركات التحرّر قد تدفعها السياقات إلى أن ترتكب تجاوزات، مثل ما حدث خلال نضال الجبهة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، ليستنتج أنّ المقاومة الفلسطينية (و”حماس” تحديداً) قد تكون ارتكبت تجاوزات، لكنّ هذا لا يُسقط عنها صفة المقاومة التي تظلّ مشروعةً، إذ تعترف منظّمة الأمم المتّحدة ذاتها بحقّ مقاومة الاستعمار. فرنسا ذاتها قاومت مُستعمِرها الألماني بكلّ ضراوة، وقد تكون ارتكبت جرائم مكتوماً عنها. وتشير حوارات بين المُؤرّخين بمناسبة ذكرى إنزال النورماندي (6 يونيو/ حزيران 1944) إلى هذا الملفّ، ويرى بعضُهم ضرورة فتحه.
باعتقال بورغا، ربّما وجدت فرنسا الرسمية نفسها أمام فرصة سانحة حتّى تستعرض مرّة أخرى قدراتها اللامتناهية في الضبط والمراقبة، وحتّى لا تترك أيّ إمكانيةٍ للتطاول على سننها التي أرستها قواعدَ يخضع لها الجميع، حتّى لو كانوا في أرقى مراتب الإنتلجنسيا، خصوصاً أنّ القانون يمنحها صلاحياتٍ واسعة في هذا الباب، فـ”حماس” تُصنّف، وفق القانون الفرنسي (وقوانين الاتحاد الأوروبي)، منظّمةً إرهابية، خصوصاً أنّ الأمر يتعلق بفرانسوا بورغا بالذات. وها هو يتجرّأ على المحظور؛ تذكير فرنسا بالذات بماضيها الاستعماري الأليم الذي ارتكبت فيه أبشع الجرائم، سيّما في مواجهتها جبهة التحرير الجزائرية. وما زالت فرنسا ترفض الاعتذار عن هذه الفترة المُظلمة من تاريخها الاستعماري، وتراه مسألةً تتعلّق بالكرامة الوطنية، ما أحدث توتّراً دائماً في علاقاتها بـ”مستعمراتها القديمة”، والجزائر تحديداً. وعندما يفعل بورغا هذا، فإنه يُقدّم شبكة قراءة لما يجري في غزّة منذ أشهر عديدة، ما يعطي شرعيةً ومشروعيةً للمقاومة، رغم إقراره بما يمكن أن يحدُث من تجاوزات هي من باب ضرورات المواجهة.
لا يمكن فهم هذا الموقف المُتشدّد من فرانسوا بورغا، الذي شذّ عن القاعدة، إلا إذا عُدنا إلى مساره الفكري المُتميّز، وهو الذي اجترح لنفسه خلال مساره العلمي والبحثي المُتميّز مسلكاً خاصاً، إذ ارتقى إلى منصب مدير متميّز بالمركز الوطني للبحث في فرنسا (CNRS) منذ 2016، فضلاً عن إدارته وتأسيسه عدة مراكز بحث فرنسية مرموقة خاصّة بالعالمين العربي والإسلامي، ومختلف دينامياتهما الاجتماعية والسياسية عموماً. يشكّل مع جيل كيبل وأوليفييه روا ثالوث الدراسات الإسلامية والسياسية الخاصّة بالعالم الإسلامي، الذي هيمن أخيراً على هذا الحقل العلمي. وتظلّ أعمال فرانسوا بورغا أكثر متانة وعمقاً، وهو الذي تميّز عن نظرائه بإتقانه اللغة العربية التي تعلّمها في أكثر من بلد عربي (سورية، مصر،…)، وقد فتحت له الطريق مباشرة للتعامل مع أكثر النصوص المُؤسّسة للحضارة الإسلامية أهمّية، كذلك فإنّه حاذقٌ بمعرفة لهجات بلدان عربية عديدة، فضلاً عن لغات أجنبية أخرى.
تمتاز مقاربة بورغا، مقارنةً بغيره أيضاً، بحرصه على محايثة الميدان والاقتراب قدر الإمكان من مجتمعات بحثه التي أقام فيها مطوّلاً (الجزائر، مصر، سورية، اليمن، السعودية، عُمان، إريتريا،…). لا يطمئن بوقارٍ إلى مقاربات بيروقراطية تجري بين جدران المكاتب. والصلات الوثيقة التي أقامها مع المجتمعات الإسلامية التي بحثها جعلت كتاباته أكثر عمقاً ومتانة من بعض ما كَتَبَ غيرُه من الفرنسيين، الذين يُعيد بعضهم، في هيئة “عالم”، رسم صور نمطية سطحية عن عالم إسلامي يحتاج معرفة مغايرة به خارج تلك القوالب الجاهزة، التي صنعها تيارٌ استشراقيٌّ في فرنسا لا يزال مُتنفّذاً في إنتاج المعرفة الخاصّة بالعالم الإسلامي.
لم يهتزّ فرانسوا بورغا في محنته الراهنة لأنّه على قناعةٍ تامّةٍ بأنّه كان وفيّاً لضميره الأخلاقي ومعرفته. البقيّة تفاصيل صغيرة أمام علو الهمّة.
المصدر: العربي الجديد