الثقافة والاندماج الوطني: المثال المصري التاريخي

نبيل عبد الفتاح

أحد الأدوار التاريخية للثقافة، ولازالت إنها أحد محفزات التقدم فى جمع المجالات التقنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية فى التجارب الأوروبية الحداثية، والتحديثية، وما بعدها، وحتى اللحظة التاريخية الراهنة، ومحمولات التحول نحو عالم الأناسة الربوتية، والثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعى.

فى عصر الحداثة، وما بعدها، والمابعديات ارتبطت الثقافة بالسياسة، والتعليم، والعقل النقدى، وثقافة الأسئلة، لا ثقافة الإجابات الجاهزة، بل وأثرت على العقل الدينى النقلى، من خلال تجديد الفكر الدينى الغربى البروتستانتى، والكاثوليكي مع المجمع الفاتيكاني الثاني، وقلة قليلة من لاهوتيي الأرثوذكسية الشرقية. فى مصر، أثرت الثقافة على نحو ما فى بعض مسارات التجديد فى عقل بعض النبهاء من مشايخ الأزهر الشريف من محمد عبده إلى الشيخ محمود شلتوت، وعبدالمتعال الصعيدى، ومحمد عبد الله دراز، والأستاذ الأمام أحمد الطيب وآخرين. كان انفتاح بعض الأزهريين على الحياة الثقافية، وأسئلة عصرهم، محفزا لهم على تجديد الفكر الدينى المصرى، ومن داخل بنيات، وسرديات الإسلام التاريخية، والفقهية والتفسيرية والتأويلية!

كانت التجربة التاريخية المصرية، تمثل معمل تجارب المشروعات المصرية والعربية للتقدم، منذ منتصف القرن الثامن عشر، وبناء الدولة الحديثة على عهدى محمد على باشا، وإسماعيل باشا، هذا المعمل التاريخى والسياسى المصرى، شكل التجارب الملهمة لعالمنا العربى، منذ الحملة الفرنسية، حتى نهاية المرحلة شبه الليبرالية، وبعدها دولة نظام يوليو 1952 فى مرحلته الناصرية، ودورها القيادى فى حركة التحرر الوطنى العربية، والعالم ثالثية.

 كان التعليم المدني الحديث، وحركة البعثات إلى أوروبا، واستعارة منظومات القوانين الأوروبية -الإيطالية والفرنسية والبلجيكية علي أيدي مانوري المحامي السكندري الإيطالي – المدخل الرئيس لبناء أنظمة الدولة الحديثة، وتكوين نخب جديدة وحديثة لإدارة مؤسسات الدولة، وبناء جيش وطنى مع إبراهيم باشا.

كانت الثقافة المدنية الحديثة صنّو التعليم الحديث ومحركة له، ولمناهجه وتطويرها، وأيضا أدت إلى التخطيط العمراني النسبى، للمدن الكبرى، كالقاهرة والإسكندرية والمنصورة..الخ، التى تحولت بحكم الانفتاح الثقافى على أوروبا، والتعدد الثقافى الداخلي إلى مدن كوزموبوليتانية ، تمثل مراكز للتفاعلات الثقافية والاجتماعية ، التى ساهمت فى دعم مفاهيم الحرية، والاستقلال الوطنى، ودولة الدستور والقانون والحق.

الأهم أن الثقافة الحديثة، وشبه الحداثية والتعليم المدنى ساهما فى تشكيل الحركة القومية الحاملة لمطالب الاستقلال والدستور والحريات العامة، والشخصية والمساواة بين المصريين جميعا. من هنا كانت الثقافة شبه الحداثية، وراء الحركة الجماهيرية العظمى عام 1919 التى شكلت علامة على الاندماج القومى المصرى، وصعود بعض أبناء “الطبقة الوسطى”، وخاصة من المحامين، وغيرهم الذين قادوا وشاركوا بفعالية فى هذا الحدث التاريخى المركزى فى مسارات التغير السياسى والاجتماعى، وكان من نتائجها دستور ١٩٢٣، والأهم بناء النموذج شبه الليبرالى، الذي ساهم فى تطوير العمل السياسى والحزبي، وخاصة مع حزب الوفد الذى قاد الحركة الوطنية، وأيضا حزب الأحرار الدستوريين، الذى كان معقلاً لبعض المفكرين المصريين.

كان إنشاء الجامعة المصرية، والبعثات إلى أوروبا -ومن الأزهر أيضًا- نتاج للثقافة شبه الحداثية فى المدن الكوزموبوليتانية، وهى محركات للسياسة، ونتاج لثقافة الحرية والمساواة، والقومية المصرية.

من هنا كانت الثقافة شبه الحداثية، مرجعًا للنخبة المصرية المثقفة، والسياسية فى الإطلاع على بعض من الإنتاج المعرفى السياسى، والفلسفى، والأدبى الأوروبى – الفرنسى والبريطانى- على نحو ادركت النخبة السياسية، والثقافية أن الثقافة العالمة هى المحرك الاساس للسياسة ومؤسساتها، وأحزابها، وأيضا للمجتمع وفئاته الاجتماعية المختلفة عبر بعض المثقفين والصحافة ، من خلال تحريكها للتعليم وسياساته ومناهجه.

لم تكن الثقافة العالمة ومنتجي افكارها وتنظيراتها من المفكرين المصريين –وعبر الآليات المختلفة- محضُ تابع للسياسة، وإنما كانت ذات استقلالية، وقدرات تحفيزية، ودينامية للسياسة، والعقل السياسى والدينى والتعليمى فى البلاد. كانت الثقافة ولا تزال فى تجارب الدول فائقة التطور فى شمال عالمنا هى أساس إنماء وتطوير الوعى الاجتماعى، والسياسى، والعلمى، وهى التى تشكل السلوك السياسى والاجتماعى والعلمى، لأنها هى حاملة الحريات الفردية والعامة، وهى مراكز انذار مبكر للمخاطر على هذه الحريات، وعلى مستقبل هذه الدول والمجتمعات، على نحو حفز فى الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة، إلى استشعار الخطر من نتائج الجولة الأولى للانتخابات، وتقدم اليمين المتطرف، وأثره على أنماط الحياة الفرنسية، وتقاليدها وموروثها التاريخى، والمستمر.

من الشيق ملاحظة أن هذا الوعى الذى شكلته ثقافة الحريات الفرنسية، هو الذى ادي إلي استشعار الجماعة الناخبة مخاطر وصول اليمين المتطرف إلى موقع الأغلبية فى البرلمان، والحكومة. من هنا تداعت الجماعة الناخبة الفرنسية للذهاب إلى صناديق الاقتراع، للحيلولة دون وصول اليمين المتطرف إلى سدة السلطة التشريعية والحكومة، حتي لا يؤدى ذلك إلى تفاقم مشاكل سياسة الاندماج الداخلى، وأزمات أخرى سياسية مع أوروبا، والعالم المضطرب!

هذا الإدراك والوعى شبه الجمعى، بالثقافة دورها المستقل فى ترسيخ قيم الحرية والمساواة والإخاء الانسانى فى التقاليد التاريخية للثورة الفرنسية، وتطورات الجمهورية الفرنسية من الأولي إلى الجمهورية الخامسة وتطوراتها ، كان وراءه ثقافة الحرية ذات الاستقلالية ، والمحركة للسياسة، والسلوك السياسى، والثقافة السياسية الفرنسية.

لا شك أن وعى غالبُ النخب المصرية بالدور المستقل للثقافة الحداثية، والتحديثية، كان المحرك للسياسة، والأحزاب، وسلطات الدولة والتمايز الوظيفى بينها، والرقابات المتبادلة، وحولها ومعها رقابة الصحافة الحرة المستقلة، والرآى العام فى البلاد، وأن الثقافة والحرية محركان للحركة القومية المصرية ومعها الدستور، طريقا للاستقلال الوطنى من الكولونيالية البريطانية الغشوم.

كانت القومية المصرية أحد ثمار الثقافة شبه الحداثية ومراجعها الأوروبية -الفلسفية والتاريخية والأدبية والعلمية- وارتباط الثقافة العلمية، بالعلوم الإنسانية، ومن ثم كان بعض كبار أساتذة العلوم الطبيعية والعلمية مثقفين، وذلك لتأثير الثقافة الحداثية على تكوين النخب المصرية السياسية، وغيرها.

الأهم أن الثقافة التى حركت الروح القومية المصرية -مع التحولات شبه الرأسمالية- كانت أحد أبرز علامات ومحركات الاندماج القومى المصرى، وأدت من خلال التفاعلات الاجتماعية إلى دمج المتمصرين من الأجانب، وأبناء الشام فى التكوين الاجتماعى المصرى، وثقافته، وخصوصياته، وذلك للدور الذي قام به الشوام فى الحياة الثقافية والاجتماعية، والاقتصادية المصرية.

كانت الثقافة شبه الحداثية واستقلاليتها وراء الإرث السياسى والقيمى لمفاهيم الحرية والمساواة، والتعايش والاندماج القومى فى المعمل السياسى والثقافى والاجتماعى التاريخى المصرى، فى المنطقة.

   (وللحديث بقية)

المصدر: الأهرام

زر الذهاب إلى الأعلى