تسير الحكومة التركية بخطى متسارعة في مسار التقارب مع النظام السوري، في الوقت الذي تعلن فيه الولايات المتحدة الأمريكية إصرارها على رفض التطبيع مع الأسد دون التوصل إلى حل سياسي، ما أثار التساؤلات حول احتمالات تحرك واشنطن لعرقلة مسار التقارب بين دمشق وأنقرة، وما المقابل الذي ستقدمه أمريكا لتركيا لإيقاف هذا المسار.
حملت الأيام الماضية جرعة عالية من التصريحات التركية حول مسار التقارب مع النظام، بعد تراجع سابق في الخطاب التركي، دفع روسيا التي رعته، لإعلان فشله.
في 28 من حزيران الماضي، قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إنه سيجري العمل على تطوير العلاقات مع سوريا بنفس الطريقة “التي عملنا بها في الماضي”، مضيفًا، “كما حافظنا على علاقاتنا مع سوريا حيّة للغاية، فقد عقدنا هذه الاجتماعات مع السيد الأسد في الماضي، بما في ذلك اجتماعات عائلية”.
وتابع أردوغان، “من المستحيل تمامًا أن نقول إن ذلك لن يحدث غدًا، بل سيحدث مرة أخرى”، مؤكدًا في الوقت نفسه عدم وجود اهتمام أو هدف للتدخل في شؤون سوريا الداخلية، وفق ما نقلته وسائل إعلام تركية رسمية منها “TRT HABER”.
تصريحات أردوغان حول مسار التقارب مع الأسد أخذت منحى تصاعديًا وصل لدرجة إعلانه بأنه قد يوجه دعوة لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، لزيارة تركيا، مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، معتبرًا أن ذلك “قد يكون بداية لعملية جديدة”، وفق وكالة “الأناضول” التركية.
برود أمريكي
أردوغان تحدث عن معارضة التطبيع مع دمشق من قبل منظمات مثل حزب “العمال الكردستاني” وحزب “الاتحاد الديمقراطي” و”وحدات حماية الشعب” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، وفق قوله، لكن ماذا عن الموقف الأمريكي من التقارب بين أنقرة ودمشق، وهل سيشهد معارضة من واشنطن؟
وزارة الخارجية الأمريكية علقت على تصريحات أردوغان، مؤكدة أن واشنطن أبلغت حليفتها أنقرة بموقفها من إقامة محادثات مع النظام السوري، مؤكدة “ضرورة اتخاذ خطوات لتحسين وضع حقوق الإنسان والوضع الأمني لجميع السوريين”.
وقال نائب المتحدث الرئيس للوزارة، فيدانت باتيل، في 2 من تموز الحالي، إن موقف الولايات المتحدة واضح، ولن تطبع العلاقات مع الأسد في غياب تقدم حقيقي نحو حل سياسي لـ”الصراع الأساسي”.
عنب بلدي تواصلت مع الخارجية الأمريكية، لمعرفة موقفها بشكل واضح من التطبيع بين الأسد وأنقرة، لكنها لم تتلقَ أي رد حتى لحظة كتابة هذا التقرير.
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، استبعد أن تتحرك واشنطن للحد من مسار التقارب بين النظام السوري وتركيا، ويعود ذلك لوجود حالة من البرود الأمريكي في التعامل مع مسارات التطبيع مع الأسد، والدليل على ذلك أن واشنطن قامت بنوع من الاعتراض اللفظي فقط على التطبيع العربي مع الأسد، واكتفت بفرض عقوبات على النظام السوري، والتصريح أنها لا تشجّع هذا التطبيع.
وأضاف العبد الله لعنب بلدي، “حتى داخليًا، الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لم يكن متحمسًا لقانون مناهضة التطبيع مع الأسد، حيث ضغط على الكونجرس لإزالة هذا القانون من موازنة وزارة الدفاع”.
وكان “التحالف الأمريكي لأجل سوريا”، وهو مظلة انضوت تحتها عشر منظمات أمريكية مختصة بالشأن السوري، قدّم مشروع قانون مناهضة التطبيع مع الأسد إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، وتم تمريره بأغلبية ساحقة، لكن الرئيس بايدن عرقله في نهاية نيسان الماضي.
بدوره، شدد الخبير التركي في السياسات الخارجية والأمنية عمر أوزكيزيلجيك، على أن برود السياسة الأمريكية تجاه سوريا، شجع تركيا على السعي للتطبيع مع الأسد، وقال، إن أنقرة كانت لديها توقعات أن واشنطن بعد هزيمة تنظيم “الدولة”، أو خلال مناقشة الانسحاب الأمريكي من سوريا، ستُغيّر سياستها وتتخلى عن دعم “وحدات حماية الشعب”، لكن أمريكا لم تفعل ذلك.
وأضاف أوزكيزيلجيك لعنب بلدي، أن الولايات المتحدة لم تقدم أي محفز أو خارطة طريق أو خيار سياسي أو تعاون مشترك مع تركيا لتسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، أو وقف دعمها لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، لذا سارت أنقرة نحو التعاون مع روسيا، التي تقول للجانب التركي إن التطبيع مع الأسد سيمهد الطريق لعودة اللاجئين، رغم أن التجربة الأردنية واللبنانية أثبتتا عكس ذلك، والتطبيع مع الأسد لم يساعد في عودة اللاجئين.
ومنذ عام 2014، اعتمدت واشنطن على “وحدات حماية الشعب”، وهي الجماعة الرئيسة ضمن “قسد”، لمحاربة تنظيم “الدولة”، إلا أن أنقرة اعترضت على هذه الشراكة منذ البداية، كون “قسد” هي أحد فروع حزب “العمال الكردستاني” الذي تصنفه بـ”الإرهابي”، ما أثّر على طبيعة العلاقات الأمريكية- التركية.
ورغم المطالبات التركية المتكررة لواشنطن بوقف دعمها لـ “قسد”، فإن الولايات المتحدة استمرت بدعم “الوحدات الكردية”، ما جعل أنقرة تتجه نحو مسار التطبيع مع الأسد، إذ أعلنت أن أحد أسباب مضيها في هذا التقارب، هو التعاون مع دمشق للقضاء على الإرهاب داخل سوريا، في إشارة إلى “قسد”.
الولايات المتحدة “متضررة”
الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية متضررة من مشروع التطبيع التركي- السوري، لأنه سيكون على حساب حليفتها “وحدات حماية الشعب” (الكردية)، وسيعني مزيدًا من الانخراط التركي إلى جانب النظام وحليفتيه روسيا وإيران، في الضغط على الوجود العسكري الأمريكي في سوريا.
وأضاف علوش لعنب بلدي، أن “الضرر الذي قد يلحقه التقارب التركي- السوري بمصالح واشنطن، سيجعل الأخيرة تسعى لعرقلة هذا التطبيع، لكن الواضح أن الولايات المتحدة لا تمتلك أدوات الضغط الكافية على تركيا لثنيها عن المضي قدمًا في هذا المسار، إلا إذا اقتنعت بالحاجة لتقديم بعض الإغراءات لتركيا في ملف الوحدات الكردية مقابل دفعها نحو التخلي عن التطبيع مع الأسد”.
وأشار علوش إلى أن “قسد” لم تعد أداة ضغط قوية بيد أمريكا على تركيا، لأن الأخيرة ليست بحاجة لمسار التطبيع مع الأسد فقط من أجل ملف “الوحدات الكردية”، بل هناك قناعة تركية متزايدة بأن الصراع في سوريا أصبح يشكل عبئًا كبيرًا على تركيا، خاصة بالنسبة لملف اللاجئين.
وتابع، “هناك قناعة تركية أيضًا بأن واشنطن لم تعد قادرة على الاحتفاظ بوجودها العسكري في سوريا لفترة طويلة، فهناك انتخابات رئاسية أمريكية بعد ثلاثة أشهر، وعودة محتملة لترامب قد تؤدي إلى تسريع الانسحاب الأمريكي من سوريا، وبالتالي كل تلك الاعتبارات تجعل تركيا تسلك مسار التطبيع مع الأسد، وتحاول تعميق انخراطها إلى جانب روسيا وإيران بعملية إنهاء الصراع في سوريا”.
وفي الوقت الذي تجد فيه أمريكا نفسها بلا أوراق ضغط قوية على تركيا لثنيها عن مسار التقارب مع الأسد، فإن أنقرة تعتبر أن نفوذها القوي في حلف “الناتو” يمنحها ورقة ضغط قوية على أمريكا، لمنع الأخيرة من التدخل في مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة.
وتعليقًا على ذلك، يرى محمد العبد الله أن الولايات المتحدة بحاجة إلى تركيا لخلق بعض التوازنات داخل حلف “الناتو” في إطار تعاطيه مع حرب أوكرانيا، لذا يمكن ملاحظة أنه خلال العام والنصف الماضي، حرصت الولايات المتحدة على عدم إزعاج تركيا، التي كان لها دور أساسي بدخول فنلندا والسويد لحلف شمال الأطلسي، “لذلك لا أعتقد أن واشنطن ستخسر أوراقًا سياسية مع أنقرة، من أجل الحد من التقارب مع الأسد”.
ماذا ستفعل واشنطن
التصريحات التركية تشير إلى وجود خطوات حقيقية من قبل أنقرة لتطبيع العلاقات مع دمشق، ما يثير التساؤلات حول المقابل الذي قد تقدمه الولايات المتحدة لتركيا، مقابل إيقاف الأخيرة مسار التطبيع مع الأسد.
وفي هذا السياق قال محمد العبد الله، إن إدارة بايدن الحالية ليس لديها ما تقدمه لأردوغان، لثنيه عن التقارب مع بشار الأسد، وأقصى ما قد يحصل أن الولايات المتحدة ستزيد العقوبات أكثر على النظام السوري، في حال حصل تقارب فعلي بينه وبين أردوغان.
ولفت العبد الله إلى أن دونالد ترامب خلال فترة رئاسته لأمريكا، سمح للقوات التركية بالقيام بعملية برية ضد “قسد” في سوريا، لتبديد مخاوفها التي لها علاقة بالأمن القومي التركي، وبالتالي في حال فوز ترامب بالرئاسة في تشرين الأول المقبل، قد يلجأ لتقديم بعض الإغراءات لتركيا لوقف مسار التطبيع مع الأسد، بينما يجد بايدن الآن أن أي خطوة جدية قد يتخذها تجاه تركيا أو الأسد، ربما تؤثر على حظوظه بالفوز بالرئاسة مجددًا.
خارج الأولويات الأمريكية
التعاطي الأمريكي مع الملف السوري تراجع خلال السنوات الماضية، وفق وصف مركز “جسور” للدراسات، مشيرًا إلى أنه رغم تأكيدات واشنطن الإعلامية على دعمها القرار الأممي “2254”، ودعم التغيير السلمي في سوريا، فإن موقفها فعليًا متأثر وبشكل كبير بالتغيّرات الإقليمية والدولية المتسارعة خلال الأعوام القليلة الماضية، التي أفرزت أولويات لواشنطن ليست في مقدمتها القضية السورية.
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، ذكر أن الملف السوري ليس بأولوية لدى بايدن، الذي شارفت ولايته على الانتهاء، ولم يعين مبعوثًا خاصًا بالملف السوري حتى اليوم.
وأشار العبد الله إلى أنه ربما من الأفضل للولايات المتحدة أن تسير بعض الدول الإقليمية بمسار التقارب مع الأسد، حتى لا تشعر واشنطن أو الدول الغربية بالحرج لاحقًا، في حال حذت حذو باقي الدول التي دخلت في مسار التطبيع.
تراجع الاهتمام الأمريكي بالملف السوري، يعود لاهتمامها أيضًا بقضايا أخرى حول العالم، وعلى رأسها حرب أوكرانيا التي كلّفت أمريكا الكثير ماليًا من أجل تقديم الدعم العسكري والإغاثي، إلى جانب ملفات أخرى كاستضافة المهاجرين الأفغان الذين اتجهوا نحو أمريكا وأوروبا، وحدوث موجة هجرة من معظم الدول التي فيها نزاعات إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
كما أن حرب غزة أصبحت إحدى القضايا البارزة التي طغت على سلم الأولويات بالنسبة لبايدن، الذي يركز منذ أشهر على إنجاز مقترحه لوقف إطلاق النار في غزة، ويضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للقبول بهذا المقترح.
بدأ مسار التقارب بين تركيا والنظام السوري بشكل رسمي معلَن في 28 من كانون الأول 2023، في محاولة لاستعادة العلاقات السياسية بين الطرفين، إثر قطعها منذ 2011، على خلفية التعاطي الأمني للنظام السوري مع الثورة الشعبية عام 2011، ودعم تركيا للاحتجاجات ثم دعمها لفصائل المعارضة وانتشارها في الشمال السوري إلى جانب تشكيلات عسكرية مدعومة منها.
وبعد سلسلة لقاءات على مستوى وزراء الخارجية ونواب وزراء الخارجية، ولقاء بحضور وزراء الدفاع وقادة الاستخبارات لأطراف المسار الأربعة حينها (تركيا والنظام السوري وروسيا وإيران)، أعلنت موسكو في 29 من كانون الثاني الماضي انهيار مسار التقارب بين الجانبين بشكل رسمي.
لكن المسار عاد للانتعاش مجددًا في 31 من أيار الماضي، حين كشف رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، عن دور عراقي مستقبلي لتحقيق “مصالحة” بين تركيا والنظام، ثم أعقبه لقاء المبعوث الروسي في دمشق مع الأسد، الذي تسارعت بعده التصريحات من جانب أنقرة ودمشق حول إعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها.
المصدر: عنب بلدي