يمكن فهم البعد النفسي الذي جعل الإعلان الأخير لمجموعة “قاطرجي القابضة”، يحتل هذا الحيز من الاهتمام في أوساط شريحة واسعة من السوريين. فقبل أشهرٍ فقط، خرج “حوت اقتصادي” من المشهد السوري، هو خضر طاهر –أبو علي خضر-. وقبل أيام، أفاد إعلان رئاسي بإزاحة زوجة رأس النظام، عن قمة هرم الإدارة الاقتصادية للبلاد. فيما تتوالى المؤشرات على توترٍ إيراني – “أسدي”، على خلفية تقاسم المغانم الاقتصادية الشحيحة. في الوقت ذاته لا تلوح أية بوادر لدخول تمويل عربي كبير لإعادة إعمار سوريا، في الأفق القريب.
وفي خضم هذه الأجواء، تعلن مجموعة “قاطرجي القابضة” عن نيتها إنشاء ما وصفته بـ “أكبر تجمّع صناعي في الشرق الأوسط”، وبمساحة هائلة تصل إلى 3 ملايين متر مربع، داخل حدود مدينة الشيخ نجار الصناعية شمالي حلب، وخلال مدة تنفيذ قياسية، قال إعلان المجموعة، إنها ستستغرق 12 شهراً فقط، وسيتم خلالها تجهيز 357 منشأة صناعية مختلفة، ستوفر 300 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، معتمدةً على الطاقة البديلة بإنتاج يصل إلى 150 ميغاواط من التيار الكهربائي.
أثارت الأرقام الضخمة التي أوردها الإعلان، قراءات مشككة من جانب صفحات “فيسبوكية” موالية. ويمكن تفهّم ذلك، في بلدٍ كسوريا، اليوم. إذ يكفي أن نشير إلى أن حجم الطاقة الكهربائية التي سيتم توليدها من أجل المشروع، وفق الإعلان، تعادل نحو 6% من حجم الطاقة الكهربائية المتوفرة الآن لعموم البلاد. وهو ما طرح تساؤلات حول مدى قدرة “مجموعة قاطرجي” على تمويل مشروع صناعي عملاق كهذا.
ولـ “آل قاطرجي” سوابق في الإعلان عن مشاريع عملاقة، من دون أن تُبصر النور. ففي نهاية العام 2019، أقرّ مجلس الشعب مشروعي قانونين لتأسيس مصفَاتي نفط، بموجب اتفاقية موقّعة بين وزارة النفط وشركة “أرفادا”، التي تعود لمجموعة قاطرجي. وهي الاتفاقية التي صادق عليها رأس النظام بشار الأسد، في مطلع العام 2020، برأسمال 20 مليار ليرة سورية (نحو 22 مليون دولار أمريكي بأسعار الصرف الجارية حينها). لكن المصفاتين لم تتحولا إلى واقعٍ، حتى اليوم.
يوحي الرأسمال المعلن لمشروع المصفاتين، عن قدرة تمويلية عالية تملكها العائلة، وفق المعايير السورية، بصورة تسمح لنا بترجيح قدرتها على تنفيذ مشروع “التجمّع الصناعي” الذي تحدثت عنه. كما وتذهب تقديرات إلى أن “آل قاطرجي”، الذين احتكروا معظم قطاع نقل النفط من “شرق الفرات” إلى مناطق سيطرة النظام، ولسنوات، كانوا يحققون أرباحاً قد تصل إلى نحو 100 مليون دولار سنوياً. لكن في المقابل، يُوحي فشل “آل قاطرجي” في تنفيذ مشروع المصفاتين، وتلك الخضّات التي مرّ بها نفوذ العائلة، خلال السنوات الأربع الفائتة، بأن مشروعاً بحجم هذا الذي تتحدث عنه، الآن، أكبر بكثير من قدراتها، وسط تعقّد خارطة اللاعبين في المشهد الاقتصادي السوري. الأمر الذي يجعل إعلان “مجموعة قاطرجي” الأخير، أقرب إلى حملة علاقات عامة، يُراد بها جذب المزيد من الراغبين بالتعاون، من مختلف الأطراف النافذة على التراب السوري.
وبخلاف معظم “أمراء الحرب” الآخرين، أثبت “آل قاطرجي” قدرة ملحوظة على ربط مصالحهم مع مختلف الأطراف. بدءاً بالقصر الرئاسي، الذي منح العائلة امتيازاً غير مسبوق في نهاية العام 2022، حينما أتاح لشركة ” BS” للخدمات النفطية، المملوكة للعائلة، أن تتولى تزويد الصناعيين والتجار بالمشتقات النفطية، بأسعار تضاهي الأسعار العالمية. وكانت تلك أول مرة تدخل فيها شركة خاصة قطاع توزيع المحروقات، الذي بقي لعقود، حكراً على “الدولة”.
وقبل ذلك، كان “آل قاطرجي” قد حظوا برعاية روسية خاصة. وعقدوا صلات وطيدة مع مسؤولي “قسد” في “شرق الفرات”، من دون أن ننسى علاقاتهم المشبوهة مع تنظيم “الدولة الإسلامية”، التي أتاحت لهم تمرير قوافل شاحناتهم لنقل النفط عبر البادية السورية، من دون أن تتعرض لهجمات مقاتلي التنظيم، باستثناء ما حدث مطلع العام 2021، واستجلب رداً روسياً عنيفاً على معاقل التنظيم.
أما من أبرز ما يميّز استراتيجيات العائلة لتمكين نفوذها، فهو إنفاقها السخي لتوسيع قاعدة الولاءات الشعبية والعشائرية الخاصة بها. خاصة في حلب. وتشكّل “مضافة قاطرجي” في حي الحمدانية، مكان العائلة المفضّل لعقد الصفقات وإقامة الولائم. ناهيك عن شبكة العلاقات الواسعة التي أنشأتها العائلة مع مسؤولي “الدولة” وحزب البعث الحاكم، والأجهزة الأمنية، وتجار حلب البارزين. وفي السنوات الأخيرة، عكفت العائلة على شبك مصالحها مع الإيرانيين أيضاً، خاصة في ظل تداخل مناطق نشاط الطرفين، في حلب وشرق سوريا. ويبدو أن “آل قاطرجي” يقتدون برأس النظام في الموازنة بين الحليفين الروسي والإيراني، من دون أن دون أن يحول ذلك من توترٍ مع أحد الطرفين، من حين لآخر، سرعان ما يتم حلّه.
ولم تنس العائلة الأداة المسلحة من قائمة تكتيكاتها. فعملت بشكل حثيث على تعزيز قوة الميليشيا الخاصة بها، وتمويلها بسخاء، بحيث قارعت ميليشيات الدفاع الوطني والفرقة الرابعة وحتى الحرس الثوري الإيراني، في اشتباكات متفرّقة على مناطق النفوذ، في أكثر من مناسبة خلال السنتين الأخيرتين. واتُهمت العائلة بأكثر من حادثة تصفية أو استهداف لمنافسين أو خصوم، من دون أن تثبت أية أدلة عليها، أو تتحمّل أية تبعات.
وها هم، “آل قاطرجي”، يرسلون رسالتهم، بأنهم الأقوى في المشهد الاقتصادي السوري، والأقدر على تحقيق نقلات نوعية فيه. ومن المبكّر الجزم إن كانت هذه الرسالة ستُؤتي ثمارها، فيُبصر “تجمعهم الصناعي” النور في حلب، أم سيكون مصيره كمصير مشروع مصفاتَي النفط الذي ذهب أدراج الرياح، بدفعٍ من رغبة النظام الحثيثة في تحجيم أو إزاحة أي قوة محلية، سواه.
المصدر: المدن