قد يبدو أن السياسة الأميركية تجاه الصين انقلبت، من بداية مزاولة الرئيس جو بايدن مهام ولايته الرئاسية الأولى مطلع عام 2021 واقترابها من نهايتها اليوم في منتصف عام 2024، قبيل الانتخابات المُقبلة، التي قد تمنحه ولاية ثانية أو تُبعده عن البيت الأبيض. فقبل ثلاث سنوات كانت واشنطن تحشد قواتها في محيط الصين، وتسعى إلى تجييش العالم ضدّ بكين، أمّا اليوم، فالبَلَدان يتبادلان الزيارات الدبلوماسية، ويتحدّثان عن الحيلولة دون وقوع سوء تفاهم، فهل تغيّرت الأحوال حقّاً؟
لا يبدو ذلك دقيقاً، فالانفتاح الدبلوماسي من واشنطن تجاه بكين ربّما يكون محاولةً من إدارة بايدن لقطف ثمار ضغطها على الصين خلال السنوات الثلاث الفائتة. كأنّها تقول لبكين: أنتم الآن تحت تهديدنا المباشر، ما رأيكم أن تنفّذوا مطالبنا؟ أي التوقّف عن محاولة تغيير النظام العالمي. لكنّ إدارة بايدن تحاول تلطيف هذا التهديد باستعمال عبارات دبلوماسية مثل “إدارة التنافس بمسؤولية”، و”حماية المصالح المشتركة” للبلديْن، كما لو أنّها تتراجع عن سلوكها الهجومي السابق، بينما لا يمكن أن يكون الأمر كذلك، لأنّ جوهر الصراع بين البلديْن الكبيريْن ليس المصالح التجارية والمكاسب الاقتصادية، بل هو الكوكب كله ونظامه العالمي. إنه صراع ليس فيه حلول وسط: فإما أن تواصل الولايات المتّحدة تفرّدها أحادي القطبية، أو أن يتحوّل العالم نظاماً متعدّدَ الأقطاب تتقاسم قيادته الولايات المتّحدة والصين.
لقد انطلقت استراتيجية بايدن في بداية ولايته الرئاسية من يقينها بأنّ الصين تسعى إلى مراجعة النظام الدولي، القائم منذ نهاية الحرب البادرة الأميركية السوفييتية، قبل أكثر من ثلاثة عقود، بحيث تعترف الدول بالمكانة الجديدة التي تشغلها الصين بعد نجاحاتها الاقتصادية الهائلة. وهو النظام الذي تسمّيه الصين “مجتمع المصير الإنساني المشترك”. وأدركت إدارة بايدن أنّ الصين أصبحت أكثر عدائية في تحقيق مصالحها الدولية منذ اتباع مبادرة الحزام والطريق، ساعية إلى تقييد وصول الدول المصدّرة إلى الأسواق الدولية، التي تسيطر عليها، مقابل وصولها هي بحريّة إلى مختلف الأسواق العالمية، عبر إبرام اتفاقيات نوعية من خلال تلك المبادرة، تمنحها السيطرة على الموانئ ومعابر التجارة الدولية. ونظرت إدارة بايدن بقلق إلى لجوء الصين لإقامة منظّمات دولية جديدة تستثني من عضويتها الولايات المتّحدة والقوى الأوروبية، وإلى اتساع حضور الصين في أفريقيا عسكرياً واقتصادياً وتقنياً، وسعت إلى تقويضه بالمزاوجة بين تقديم وعود اقتصادية وسياسية للدول الأفريقية، والتحذير من مخاطر أمنية للعلاقة الحميمة مع الصين. كذلك تجاه ارتفاع اعتمادية الولايات المتّحدة على الواردات الصينية، خصوصاً في مجال الخدمات الأساسية، بما فيها الطبّية والعلاجية. كما اعتبرت أنّ الصين تشكّل خطراً على الولايات المتّحدة في مجال التكنولوجيا.
خلال السنوات الثلاث، نجحت الولايات المتّحدة في توتير الأجواء على جانبي مضيق تايوان، عبر التحذير من سعي الصين لاحتلال الجزيرة. ردّت بكين بمناورات عسكرية متتالية تجاوزت “خط المنتصف”، الذي يفصل بين الصين الشعبية الشيوعية، والصين الوطنية صديقة الغرب وحليفة واشنطن. وأبرمت الولايات المتّحدة اتفاقية تحالف عسكري في كامب ديفيد مع اليابان وكوريا الجنوبية، كذلك تفاهمات “أوكوس” مع بريطانيا وأستراليا، التي تساعد فيها واشنطن ولندن أستراليا لتطوير ونشر غوّاصات تعمل بالطاقة النووية، مقابل تعزيز الوجود العسكري الغربي في منطقة المحيط الهادئ. تدخّلت الولايات المتّحدة أمنياً، أيضاً، في محيط الصين، فاتفقت مع الفيليبين على دعمها لتوسيع نفوذها في بحر الصين الجنوبي على حساب الصين، وتقاربت مع فيتنام التي تربطها علاقات حسنة ببكين، ومع الهند، التي يمكنها أن تشغل الصين بكثير من المشكلات؛ الحدودية والأمنية والاقتصادية.
وقفت الصين تتفرّج على مغامرات جارتها كوريا الشمالية، التي أثارت ذعر اليابان وكوريا الجنوبية، كما لو أنّها تباركها، خصوصاً، إطلاق بيونغ يانغ مئات الصواريخ الباليستية التي يمكن أن يصل مدى بعضها إلى سواحل الولايات المتّحدة. كذلك تقاربها العسكري مع روسيا بالتزامن مع تقلّبات الحرب الروسية الأوكرانية، التي يقول الغرب إنّ موسكو احتاجت بسببها الحصول على ذخائر ومعدّات من كوريا الشمالية، في مقابل مساهمتها في تطوير البرنامج العسكري لنظام كيم جونغ أون. بينما انقطع التواصل بين الكوريتيْن وتوتّرت الأجواء على الحدود. وأطلقت الصين مناورات عسكرية ودوريات أمنية بالشراكة مع روسيا، وتقاربت منها اقتصادياً عقب حظر أوروبا استيراد الغاز من موسكو، فساهمت في الحيلولة دون انهيار الاقتصاد الروسي، واستفادت من الأمر، في الوقت نفسه، بشرائها الغاز بأسعار تفضيلية، بينما تتالت المناورات العسكرية التي نفّذتها واشنطن مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند والفيليبين، وحلفائها في محيط الصين كافّة.
لكن الانفتاح الدبلوماسي، اليوم، بين واشنطن وبكين، لم ينل من هذا التوتّر العسكري، ولم يغيّر “استراتيجية الردع المتكامل تجاه الصين”، التي هي بمثابة العنوان الرئيسي لولاية بايدن الأولى، والتي ما تزال واشنطن بموجبها تفرض حظراً على وصول الأجيال الجديدة من الرقائق الإلكترونية إلى الصين، كذلك آلات تصنيعها، وتسعى لتوطين صناعتها على الأراضي الأميركية، بدلاً من تايوان، كي تحميها من إمكانية قيام الصين بقطع إمداداتها أو السيطرة عليها في حال اجتاحت تايوان. وما تزال واشنطن تمنع الاستثمار في مجال الحوسبة الكمّية والذكاء الاصطناعي على الأراضي الصينية، وهي إجراءات ردّت بكين عليها بمنع تصدير المعادن النادرة اللازمة لتصنيع الرقائق الإلكترونية إلى الولايات المتّحدة، وفرضت قيوداً أمنية على الشركات الأجنبية في الصين بدعوى مكافحة التجسّس.
عن أي تفاهمٍ، إذن، يتحدّث البلدان اليوم؟ إنّه تفاهم تحت أسنّة الحراب ولمعان السيوف، لذلك هو محاولة لجسّ النبض والتقاط الأنفاس قبل عودة الأجواء السياسية للتوتّر. لا يقبل النظام العالمي القسمة على اثنيْن إلا لو قبل واحدٌ من الطرفيْن تقديم تنازلات عن أهدافه الاستراتيجية، وهو أمر لن تفعله واشنطن بالتأكيد، ولا يبدو أن بكين ستقبله، وهي تدرك أنّ أوراق لعب كثيرة ما تزال في جعبتها، بما فيها مواصلة السيطرة على الأسواق العالمية، والنجاح في التوصّل إلى تصميم وتصنيع أجيال جديدة ومتطوّرة من الرقائق الإلكترونية، فضلاً عن مدّ نفوذها السياسي إلى مناطق جديدة، بفضل مبادراتها الاقتصادية، لتتشارك النفوذ مع واشنطن، كما في جنوب آسيا والخليج العربي، وصولاً إلى التحوّل إلى أكبر اقتصاد في العالم قبل منتصف القرن.
مزيدٌ من التوتّر في العالم، هو النتيجة المُنتظرة لهذا الصراع الأميركي الصيني خلال السنوات المُقبلة.
المصدر: العربي الجديد