انطلقت الثورة السورية في مارس/آذار 2011 وهي أكثر وضوحاً، فقد حددت هدفها وشقت طريقها بثقة وثبات: دولة مدنية ونظام ديمقراطي يحترم الإنسان ويحافظ على حقوقه. وتابع الشعب السوري نضاله لا تخيفه آلة القتل الوحشية التي شحذها النظام والتي لم توفر طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة، آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى والمعتقلين، تخريب ونهب واختطاف واغتصاب، انتهاكات لا تنتهي تطبيقاً لموقف النظام: ” أحكمكم أو أقتلكم “.
وهناك في تقديري عدة أشياء تقولها هذه الثورة، منها: أنّ هناك معارضة كامنة كبيرة في المجتمع السوري لم تكن المعارضة التقليدية قادرة على التواصل معها، ولا تملك أدوات تنشيطها وتحويلها إلى معارضة فاعلة.
وهكذا، بعد سيل التضحيات التي قدمها أبناء الشعب السوري وبناته، فإنّ الثورة كغيرها من ثورات الشعوب العربية لم تكن نتيجة مباشرة لعمل أحزاب المعارضة، بل هي جاءت من وعي تشكَّل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادراً على تحمُّل أو فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ أربعة عقود. كما أنّ الثورة السورية تحمل ميزة إضافية، على غيرها من الثورات العربية الأخرى، في أنها كشفت حالة التزييف وتغييب الوعي التي كانت تكتسب بها سلطة الاستبداد شرعية مزوَّرة، بحجة الممانعة ومحاربة العدو الصهيوني.
ومن هنا فإنّ الطابع العام للثورة ظل مدنياً وتحررياً وإنسانياً، وبقيت قاعدتها الاجتماعية تحظى بدعم من مختلف الأطياف السورية، وأخذ وجهها العام يستعير مفرداته الحداثية، بفضل تراكم نضالات الديمقراطيين السوريين طوال أربعة عقود. فقد تشكلت قيادات شابة قادرة على استيعاب معطيات التحول العالمي نحو الديمقراطية، وتمسك بزمام الأمور وتتحكم بحركتها حسب المتغيِّرات، رغم وجود حالات تشويش فردية. وتكتسب هذه القيادات الخبرة اللازمة في سياق عملها وبالاحتكاك مع المخضرمين من المعارضين، فتنجز أعمالاً مشهودة. وهي تعرف أنّ هذا الليل السوري الطويل لن ينجلي بسرعة، وأنّ أمامها مهمات شاقة وتضحيات كبرى، لكنها تعرف أيضاً أنّ لا عودة إلى الوراء، وأنّ لا خيار أمامها سوى مواجهة ظلام هذا الليل الطويل بالصمود والتحدي والتفاؤل.
وهكذا أضحت الثورة السورية جهداً هائلاً من قبل جمهور كبير من السوريين لتملُّك حياتهم والاستحواذ على السياسة، أي التنظيم المستقل والكلام المستقل والمبادرة المستقلة، وقد صادرتها لنفسها نخبة سياسية ضيقة، تحولت إلى عصبة مغلقة منذ ستة عقود.
ومع دخولها عامها الرابع عشر يدرك السوريون ما آل إليه واقع ثورتهم من عسكرة سعى النظام إليها، ومن حسابات سياسية مصلحية تراعي مخاوف الغرب من نمو التطرف وتنامي ظاهرة ” المجاهدين ” الأوروبيين. لكنهم يعلمون أنّ النظام ليس مسؤولاً فقط عن استدامة الاستبداد في بلادهم لأكثر من ستة عقود، فهذا الاستبداد هو الذي دفع إلى نشوء الثنائية بينه وبين الإرهاب، مثل ثنائية ” الأسد أو نحرق البلد “.
وبفعل سياسات النظام وممارساته الدموية والتدميرية، تحولت أغلبية السوريين إلى قتلى وجرحى وسجناء رأي وضمير ومهجَّرين، سواء داخل سورية أو بلدان اللجوء، وجرى تدمير مدن وقرى في مختلف الأنحاء، كما جرى تدمير وتعطيل غالبية القطاعات والمؤسسات الاقتصادية والإنتاجية والخدمية والمرافق العامة، وأُصيبت البنى التحتية من شبكات المواصلات والنقل والاتصالات والمياه والكهرباء بالدمار والتعطيل، وكلها أدت إلى خروج السوريين من دوائر الفعل الاقتصادي والاجتماعي، بحيث لم يبقَ من الدولة والمجتمع، في دائرة الفعل، سوى بقايا المؤسسة العسكرية – الأمنية وبعض المؤسسات المساعدة في تشغيلها ودعم أجهزتها.
على أية حال ترتبت على وحشية النظام، وسلبية المجتمع الدولي، والتدخلات الخارجية، من الأعداء و ” الأصدقاء “، عدة ظواهر:
- – انحسار الثورة السورية، وخروج الوضع من تحت سيطرتها، من دون أن يعني ذلك انتهاءها، بدلالة تراجع مكانة إطاراتها، او تعبيراتها، السياسية والعسكرية والمدنية والإغاثية.
- – تحوُّل سورية إلى ساحة مفتوحة، للصراعات الدولية والإقليمية والعربية، على المشرق العربي، بمعزل عن مصالح السوريين، وبما يضر الثورة والمجتمع.
- – تصدُّر الجماعات المسلحة المتطرفة والتكفيرية، التي تتغطى بالإسلام، والتي يصعب التمييز بين كونها معطى داخلياً، وبين كونها معطى خارجياً، أو كنتاج للتدخلات المخابراتية، الدولية والإقليمية والعربية المتضاربة.
لقد هبَّ الشعب السوري طالباً التغيير الديمقراطي السلمي وساعياً له، فكانت ردة فعل السلطة الأولى اتهامات لطلاب الحرية والكرامة بإثارة الفتنة الطائفية، حيث احتلت كلمة الفتنة والطائفية جزءاً كبيراً من خطاب السلطة ورموزها وإعلامها. وفيما كان المتظاهرون يشددون على وحدة الشعب السوري وعلى سلمية مساعيهم، كانت السلطة تعيد وتردد، بلا كلل ولا ملل، مسألة الفتنة وكأنها ملاذها الأساسي والأخير في مواجهة استحقاقات فشلها في الحكم، وعقم سياساتها.
لقد ركزت الثورة الشعبية السورية – منذ البداية – على طابعها السلمي، ليس من خلال هتافاتها ” سلمية… سلمية ” فقط، بل من خلال اتخاذ المتظاهرين من الشباب مظهر أصحاب الصدور العارية، وهو ما تجسد في تظاهرات تمت في عدد من المناطق السورية. وعلى رغم أنّ هتاف ” سلمية… سلمية ” خفَّ حضوره وترديده في التظاهرات، وأُخلي مكانه لهتافات أخرى، خاصة بعد الانشقاقات المتواترة لبعض ضباط الجيش وعناصره، فإنّ المظهر السلمي للتظاهرات لم يتغيَّر، وربما كان بين تأكيدات هذا المضمون، انطلاق تظاهرت نسائية في العديد من المناطق السورية، إضافة إلى تظاهرات الأطفال التي تكررت مرات مع افتتاح الموسم الدراسي.
فإذا كان التأكيد الأول على مضمون التظاهرات بأنها سلمية في إشارة لنفي صفة العنف عنها، فقد كانت شعارات ” نريد حرية وكرامة ” تأكيداً آخر على سلمية التظاهرات من خلال إبعادها عن استفزاز السلطة وأجهزتها الأمنية، لكنّ استجابة الأخيرة لعدم الاستفزاز لم تتحقق، بل جرى الذهاب للأبعد في دخول الجيش وقوات الأمن وجماعات الشبيحة حيّز العمليات في حصار ودخول المدن والقرى والبلدات في عدد من المحافظات السورية، وهو تطور قوبل من قبل المتظاهرين بالتأكيد على عناصر الوحدة الوطنية في مكوِّناتها المختلفة، وتكاتف السوريين معاً عبر هتافات تؤكد مؤازرة وفداء المدن والقرى السورية، التي تعرضت لانتهاكات كبيرة في التظاهرات والاقتحامات.
لماذا حدث التحوُّل
ثمة قضايا ومشكلات وتعقيدات كثيرة اعترضت ثورة السوريين، وأعاقت طلبهم الحرية والكرامة والتغيير السياسي، وساهمت في كل الخراب والتشقق في أحوالهم، وفي رؤيتهم لذاتهم.
لقد حدث التحوُّل لأسباب وعوامل متعددة منها ما هو تحوُّل اضطراري لتسلح الثورة كخيار مفروض رداً على الخيار الأمني للنظام. لكنّ العسكرة جرت بشكل عشوائي، كما تم إفشال جميع محاولات إنشاء قيادة موحدة تتمتع بقرارات مركزية مطاعة من الجميع. وابتعد حاملو السلاح تدريجياً عن الارتباط بالحراك المدني، وعملوا لوضع المؤسسات المدنية التي أقامتها الثورة تحت سيطرتهم بدل أن يحدث العكس، بأن تتبع القوى العسكرية لقيادة سياسية. مما ترك المجال لتعملق عسكريي الثورة وإطلاق غرائزهم لإخضاع الحراك المدني لكتائبهم المسلحة.
كما أنّ أسلمة العمل المسلح لم يأتِ فقط من غزو الجهاديين الخارجي، بل أيضاً من تأسلم الكتائب للحصول على الدعم المادي والتسليحي من قطر والسعودية وتركيا، وكذلك تفكُّك الثوار المناصرين للديمقراطية وانتقال الكثير منهم لمنظمات إسلامية تمتلك مصادر مالية وتسليحية كبيرة. كما أنّ النظام رفد الكتائب الإسلامية بأعداد كبيرة من الجهاديين الذين كانوا في سجونه والذين أصبحوا قادتها وعمودها الفقري. كما استندت الأسلمة لعامل محلي هو درجة عالية من التديُّن تميزت بها قطاعات واسعة من الشعب السوري، خاصة في الأرياف، كرد على ظلم النظام الذي دام لعقود. كما ساهم وجود منظِّرين إسلاميين مدعومين من قوى إقليمية، يعملون بشكل منظم عبر وسائلهم الإعلامية، بتسطيح الفكر الشعبي لدى المؤيدين للثورة، وبالمقابل انحسار – إن لم يكن غياب – العمل المنظم للقوى الديمقراطية، الذي يدعم الثورة فكرياً وتثقيفياً. لكنّ التديُّن الشعبي شيء والتطرف في تديين أهداف الثورة شيء آخر، لا يتفق مع الغالبية المؤمنة في سورية التي كان واضحاً منذ البداية أنّ ثورتها ليست لهدف إقامة دولة دينية بل دولة مدنية حيادية عن الأديان والأيديولوجيات والأحزاب.
وسيكون من الصعب أن تنتصر ثورة يذهب ساستها في اتجاه وعسكرها في آخر، ولن تنجح نضالات يستخدم الساسة العسكر فيها لمقاصد شخصية، لا علاقة لها بمبدأ وطني أو ثوري. في المقابل، لن تنجح ثورة يعزف عسكرها عن تصحيح مسارها، علماً أنّ انقساماته وخلافاته لعبت دوراً كبيراً في تقويضها، مثلما لعبت خلافات وانقسامات السياسي دوراً مخيفاً في تمزُّقه وهزائمه.
وهكذا شهد الحراك الشعبي السوري تحوُّلات وانعطافات حادة، دفعت وجهته العامة في منحى انحداري، أفضى إلى كارثة إنسانية وحرب قذرة، تطبعان المشهد السوري على مستوياته كافة. ومما لا شك فيه أنّ ذلك ناجم من جملة عوامل داخلية وخارجية، تشمل القمع الوحشي من قبل النظام، مروراً باستجابات الشارع المنتفض وردات فعله، والتدخلات الخارجية بشقيها، المساند منها للنظام أو للمعارضة، ثم الأجندات الخاصة لبعض الجهات، السورية وغيرها، رأت في الأوضاع التي ظهرت في أعقاب الثورة فرصتها لتنفيذ مشاريعها.
فما هي مآلات الجمهورية السورية على صعيد الدولة والمجتمع، وعلى صعيد الجغرافيا والديموغرافيا؟ وهل ما زال ثمة أمل يرجى من استمرار هذه الجمهورية؟ وما هي الإجماعات الجديدة التي ستتشكل عند السوريين الجدد؟ وأخيراً ما هو شكل المشرق العربي الذي ننتظره؟
لعلَّ الموجة الثانية من الثورة في السويداء، التي أعادت الحراك الشعبي إلى شعاراته الأولى المطالبة بالحرية والكرامة، وما ظهر من حراك جديد أطلقه بيان المناطق الثلاث وتبعته عدة محافظات أخرى، تعيد الثورة إلى سيرتها السلمية الأولى، وتفتح الأفق إلى عملية الانتقال السياسي من الاستبداد إلى الدولة السورية الحديثة، دولة المواطنين الأحرار المتساويين في الحقوق والواجبات.
هذا المقال قد لايتوافق مع راي الموقع
هل كانت الثورة السورية نتيجة معارضة كامنة كبيرة في المجتمع؟ لماذا فشلت المعارضة التقليدية على التواصل معها، هل لأنها لم تملك أدوات تنشيطها وتحويلها إلى معارضة فاعلة؟ إن الثورة السورية كبقية ثورات الربيع العربي إنطلقت شعبية عفوية. هل يمكن للموجة الثانية من الثورة السورية بالسويداء تفتح الأفق لعملية الانتقال السياسي من الاستبداد إلى الدولة السورية الحديثة؟ قراءة موضوعية.