ظلال تحديات الرأسماليّة في خنق عوالم الإنسانيّة 

ياسين الغُماريّ 

ثمّة فَلْتَة في العالم، لكنّنا بَسُرنا بمعرفتها وبالتأكيد نتجاهلها تجاهلًا كاملًا، تكمن في النّظام الّذي أوجبَ ديمومة الرأسماليّة المُعادية للإنسانيّة والّذي يزيد الطّين بلّة، وكل ما في وسعنا صنيعه هو التلميح سرًّا إلى مغبّة النّظام ومأزقه الكبير، الذي وصفه بوش الثاني أنّه مشكلة صالحة لكلّ مكان وزمان تشمل الأفراد والجماعات وجميع البلدان. أيعقل أن نسعى إلى طمس مَغَبَّة النّظام دون الاستعاضة بأساليب أخرى؟ لأيّ شيء تُعاضد بُلداننا هكذا نظام يُجرّدنا من أخلاقنا الانسانيّة وهي الّتي تصيح بصوت همس العدل والمساواة والحُريّة؟ لعلّ لكلّ منّا سبيله وغايته في الحياة، ولعلّ ضَرُورِيّات حُكوماتنا-في أيّامنا هاته-هو حراسة مصالح أباطرة الدولارات وبارونات الاقتصاد الفاسد.

كتب الصحفي والنّاشر الأمريكي هنري لوس سنة 1941 في مجلّة لايف التابعة لمجلّات تايم: “علينا أن نقبل بشكل كامل واجبنا وفرصتنا كأقوى دولة في العالم وبناء عليه، أن نفرض على العالم نفوذنا لأي غرض نختاره وبأي طريقة نراها مناسبة”

وبناءً على ما جاء، لعلّ ما ورد آنفًا ينقل واقعنا ونظامنا الراهن الّذي يظهر تفضيله بتعسّف لفئة رسميّة وسياسة تحكمنا كُتِبَ لها النّجاح، غايتها تحقيق الثروة الخاصّة بشكلٍ غير محسوس على حساب فئة واسعة وهي العامّة بشكلٍ آشب. وأن يؤسّسوا عاصمتهم في كلّ مكان بُغية الربح، والأمر واضحًا وضوح الشمس. النّظام بأسره قد سَطَّرَ حقبة مخيفة معتمدة لتلبية حاجيات رؤوس الأموال، مرة تلو الأُخرى، دون غيرهم. يُعدّ الاقتصاد الجديد في القرن العشرين تسويقًا كاذبًا في تحقيق العدالة الاجتماعيّة والعدالة الماليّة، فضلًا عن وعود الخير، فهو لم يكن إلّا وُصْلَة أخرى لخنق الانسانيّة وخلق المخاطر على قدم وساق، وبالتّالي خان السّلم الاقتصادي عن طريق دمج التجبّر المالي بالتجبّر المعلوماتي بالاستعباد الحديث. أصبح رأس المال هي المتحكّم الوحيد في السياسات والقرارات والقوانين، أمّا الاعلام فهو مموّل منهم. في حين أنّ أحوال العامة تتدهور، تزدهر أحوال من يحتقروننا من ناحية أُخرى.

النموذج الرأسمالي الاقتصادي يستند إلى نظام العبوديّة. انطلقت سوق العبيد بشكلٍ أرقّ وأنظف مع بزوغ القرن العشرين. في العصور السالفة، كان المستعمرون يسيطرون على المواطنين الأصليين للبلاد ويستعبدون أولئك الّذين لم يستطيعوا سداد ديونهم المتراكمة عليهم. وكان يُستغنى عن المرضى وذوي الإعاقة سواء بالقتل أو تركهم في الأدغال أو الرمي بالبحر. والعقود الأولى من القرن السابع عشر، خيرُ دليل على ما كان يحدث ولاسيما فيما يتعلق بأمريكا، وتفاعل المستعمرين الأمريكيين مع السكّان الأصليّين للقارّة الأمريكيّة، الهُنود الحمر، ممّا أفقد أي خطاب أخلاقي بالتكلّم عن حقوق الانسان في حين كانت الحضارات تُلقي نصوصًا أنّ النّاس سواسية. التاريخ ينبض بثورات الفقراء ضد سلطة رؤوس الأموال، ولعلّ التاريخ يُكرّر نفسه بغض النظر عن الزمان والمكان، وهنا نخلص إلى القول إنّ العيب ينسب إلى هذا النّظام المنحاز-بلا شك-لرأسامليو العالم، حيث يبدو أنّ القّوة والكلمة والسلطة وحتّى أُذُن الاستماع، تُمنح فقط لأولئك الّذين يحملون مفاتيح الجاه. النّظام ثابت لا يسقط لكن أصحابه هم فقط من يتغيّرون.

بالرجوع إلى منظومة قرون الزّمان الماضية، إلى نظام إقراض المركزي للمؤسّسات الماليّة منذ النّصف الثاني من القرن العشرين أنّ الجزء الأكبر من الدّين مُخصّصًا-بالدّرجة الأولى-لسداد أثمان فائدة القرض، ليطوّع نفسه، تدريجياً، إلى تكبيل العميل أو الحريف إلى نهاية بعيدة. ربما تنعكس رؤية الرأسماليّة على أنّ قيودها القديمة نعرفها، وقيودها الجديدة هي نفسها، تبقى محض امتداد للقيود السّالفة. مكان أن يكون هنالك نظام مالي ديمقراطي يعزز من فرص الإقراض الحكومي للشعب بما أنّ الحكومة نفسها تمشي مشية واحدة بإقراض المال لأصحاب البنوك-في كثير من الأحيان-بتجاهلٍ صارخ للضّمانات وبفوائد مخفّضة، لإنقاذهم. ينجم عن هذا-في كلّ الحالات- عدم إيفاء أصحاب الثروات على سداد القرض، وهُنا نتبيّن أنّ الحكومة نفسها، في كلّ زمان، في غاية الانحياز والاضطهاد، لا تعنى إلّا بمصالح أرباب المال ضاربة عرض الحائط على تحسين أوضاع حياة مواطنيها. ما عاد يهم من يحكم أي دولة، بل من يملك الثروة ويُسيطر عليها.

أعقب عن الرأسماليّة ثقافة شديدة العداء لكلّ ما هو ديمقراطي وإنسانيّ، ثقافة ممنهجة لخدمة الأهواء، وتُشير أنّ الحياة الحقّة هي حياة الاستهلاك الكبير والبضاعة الفاخرة لتلمّس السعادة والنّشوة المرجوّة. لو تأمّل أحدنا حالنا سيسلط أول أسئلته على أصل تلك القوانين العشوائية؟ ولأي شيء وضعوها؟ وما طائلهم من كلّ هذا؟ كلّ هاته التساؤلات خدمت الرأسماليّة بجعلها فاقدة للمنطق، ومنفيّة الاجابة. إذ يتمنى أحدنا أن يغيّر هذا العالم الشبيه بالجحيم المترامي القذائف إلى عالم آخر أقلّ حدّة وأكثر سلاسة. بمنظوره الخاصّ رسم كارل ماركس صورة حزينة للنّظام الرأسمالي الّذي يذهب بالإنسان إلى الضياع، يُفقده هويته، ويُحطّم قيمته الحقيقية الإنسانية، يُحوّل الانسان إلى ماكينة خالصة لتحقيق غاية الطبقة البرجوازية الجشعة. من هذا الاستغلال الجشع، ينبثق التفاوت الطّبقي، حيث يستخدم شخصًا ما، شخصٌ آخر من أجل زيادة الثروة، دون مراعاة لكرامته الإنسانية، وبالتالي يشتدّ الصّراع الاجتماعيّ.

الرأسماليّة تُناشد استعمار المستثمرين للبلدان الخَاذِلة اقتصاديًّا، عن طريق تِشْيِيد سَطْوَة اقتصاديّة وسياسيّة، يتمثّل هدفها في التَفَرُّد على الموارد الطبيعيّة غير المتجدّدة مثل النّفط والمعادن، تسيير الأسواق، قَيَادَة الاقتصادات بما يتماشى مع مصالحهم، تمارس الضغط السياسي لتَعَهُّد دَوام تلك المكاسب. إنّ جذب المستثمرين المسؤولين اجتماعياً بدلاً من استقطاب المستثمرين غير المسؤولين، هو ضرورة مُلحّة. حاجتنا إلى قيمة إنسانيّة مضافة أكبر من قدرتنا على معالجة المزيد من المشكلات البشريّة والبيئيّة. لا ندع حاجتنا لخلق وظائف بأجور رخيصة-ممّا يعني استعبادنا-تثني عن التفكير في العواقب الوخيمة للمصانع المحليّة والعالميّة. إنّ جُنونهم المطلق، لتحقيق الثراء الفاحش، على حسابنا، فيه هلاكنا. بالاستثمار، نرفع الإنسان ونخلق السّلام له، ما أمكن، بدلاً من تدميره. فلا حاجة لنا بمستثمر لا يحترم أي فرد منّا، ولا حتّى أرضنا. الاقتصاد الّذي يقودنا إلى تعاستنا لا نُريده. يمكننا الخروج من أزمتنا الاقتصادية ونحقّق عدالتنا الاجتماعيّة بمفردنا وبطرق آمنة.

زر الذهاب إلى الأعلى