في حين تنتظر المنطقة الرد الإيراني على القصف الإسرائيلي الذي استهدف قنصلية طهران في دمشق وقتل قياديين في الحرس الثوري وفيلق القدس، وعلى رأسهم محمد رضا زاهدي، سرت معلومات تُفيد بأن الإيرانيين أبلغوا الأميركيين أن الرد سيكون على نحو يجنّب الإقليم تصعيداً كبيراً، وذلك عبر سلطنة عمان، حسب تقرير لوكالة “رويترز”.
هذه المعلومات وردت بعد أنباء أخرى نقلتها “يديعوت أحرونوت” العبرية، تحدّثت عن تراجع إيران عن ضربة ضد إسرائيل “في اللحظات الأخيرة” قبيل التنفيذ بسبب تحذير أميركي، ما يُشير إلى أن طهران تدرس ردها وتتواصل مع واشنطن وغيرها لاحتواء عمليتها الانتقامية، خصوصاً وأن مسؤولين إسرائيليين قالوا لموقع “أكسيوس” إن إسرائيل سترد في حال استهدافها.
تُسأل إيران عن تجنّبها الردود القوية التي توازي بتأثيرها نتائج الهجوم عليها، إذ ورغم قدراتها العسكرية المتقدّمة وإمكاناتها الصاروخية، ورغم انتشار فصائلها في المنطقة وتسليحها بالصواريخ والمسيّرات، فإن إيران دائماً ما تتجنّب التصعيد ضد إسرائيل أو الولايات المتحدة، وتُحاول دراسة ردودها وتضخيمها إعلامياً أمام جمهورها.
هكذا كان الحال مع اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، حينما قصفت إيران قاعدة عين الأسد الأميركية فكان الرد أقل من التوقعات، وهكذا هو الحال بعد الاستهدافات الإسرائيلية المستمرة لمواقع إيرانية في سوريا والتي لم تلق أي رد، فلماذا تُحجم إيران عن قصف الداخل الإسرائيلي والتسبب بأضرار جدّية؟ ولماذا توجّه رسائل للغرب لاحتواء أي تصعيد؟
الديبلوماسية الإيرانية: النفوذ مقابل عدم التصعيد
بالدرجة الأولى، توافرت معلومات عن مُحاولات ديبلوماسية قامت بها إيران على خط غزّة، بموجبها تعدل إيران عن الرد أو تخفض سقفه مقابل تراجع إسرائيلي في القطاع، وفي هذه المشهدية صورة تشي بأن إيران قد تُقايض الهجوم العسكري بنفوذ مستقبلي في غزّة أو دور بعد انتهاء الحرب وبدء التسويات.
الباحث الأمني والاستراتيجي ناجي ملاعب ينطلق من النقطة الأخيرة، ويُشير إلى أن “العمل الديبلوماسي الإيراني سبق العمل العسكري، والخارجية الإيرانية تواصلت مع نظيرتها البريطانية، ما يشي بأن إيران تسعى للحصول على ثمن مقابل عدم القيام بعملية عسكرية واسعة، خصوصاً وأن مفاوضات مصر تبحث في اليوم التالي بعد الحرب لغزّة، وليس فقط تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار”.
وفي حديث لـ”النهار العربي”، يرى ملاعب في حركة إيران الديبلوماسية “مُحاولة للاستعاضة عن الرد العسكري الواسع والضخم بالحصول على حصّة ما في نفوذ المنطقة، ومُحاولة لحجز مقعدٍ لها على طاولة التسويات التي تعتبر نفسها خارجها حالياً، خصوصاً وأنها قد تتخوّف من أن تكون العودة الأميركية إلى المنطقة على حسابها”.
وبرأي نائب مدير معهد “كارنيغي” للشرق الأوسط مهند الحاج، فإن مُحاولات حجز إيران مقعد لها على طاولة التسويات أمر محسوم، وفي هذا السياق، ثمّة إمكانية لرد إيراني محسوب، كاستهداف مبانٍ إسرائيلية خالية، والتواصل الأميركي الإيراني الذي حصل هدفه إيجاد مساحة إسرائيلية آمنة لرد لا يجر إسرائيل إلى تصعيد، ولأخذ ضمانات أميركية بعدم رد إسرائيل من جديد.
ملاعب أيضاً لا يلغي احتمال الرد، لا بل يعتبره مؤكداً انطلاقاً من الاستعدادات الإسرائيلية والأميركية له، لكنه يلفت إلى أن “الدبلوماسية قضت على احتمال الرد من إيران مباشرةً ضد الداخل الإسرائيلي، والترجيحات تُشير إلى أن إيران قد تقصف مصافي نفط أو سفينة بحرية إسرائيلية، وثمّة احتمال لاستخدام الجنوب السوري حيث تتمركز فصائل إيرانية، لكن السؤال هل ستوافق روسيا؟”.
رد إيران الاستراتيجي وميزان القوى
بالدرجة الثانية، فإن الدعم الدولي قد يكون سبباً أساسياً خلف الاندفاع الإسرائيلي والتردّد الإيراني، فإسرائيل تتمتع بدعم أميركي وغربي مفتوح، ووصول المدمرات الأميركية للمنطقة عقب هجوم 7 أكتوبر والتعهد بالدفاع عن إسرائيل ضد أي تهديد دليل على ذلك، في حين أن حلفاء إيران الدوليين كروسيا والصين لا يُبديان أي استعداد لدعم إيران عسكرياً، ما يجعل إيران أضعف من إسرائيل.
وانطلاقاً مما ذُكر، تتجنّب إيران تهديد إسرائيل بشكل خطير خشية تدخل أميركي وغربي يقلب الموازين فيُعطي الأفضلية لإسرائيل ويؤدّي إلى دمار كبير يلحق بإيران ومنظومتها العسكرية في المنطقة، خصوصاً وأنها عملت لعقود على تأسيس محورها ومجموعاتها لبسط نفوذها، وليست في وارد تحمّل خسائر لا طاقة لها على حملها، تؤدّي إلى التأثير سلباً على نفوذها الإقليمي.
وبالدرجة الثالثة، قد تكون التهديدات الإسرائيلية لإيران رادعاً أيضاً، فمسؤولون إسرائيليون أبلغوا “أكسيوس” إن إسرائيل سترد في حال هاجمتها إيران، وعندها ستُفتح أبواب المواجهة بين الطرفين على مصرعيها، وهو سيناريو بدت إيران تتجنّبه في المنطقة منذ السابع من أكتوبر، وبدا ذلك واضحاً من خلال هجمات “حزب الله” على شمال إسرائيل.
يرى علي في حديث لـ”النهار العربي” أن “إيران تتمتع بفهم حقيقي لتوازن القوى في المنطقة، وتعي أن لإسرائيل قدرات عسكرية ضخمة وحلفاء غربيين، على رأسهم الولايات المتحدة وألمانيا، يمدونها بالسلاح، في حين أنها مُحاصرة ولا حلفاء استراتيجيين لها، وهذا المشهد ينعكس على ردها بشكل عام على الهجمات التي تطالها”.
ويُشير إلى أن “إيران تعتمد استراتيجية العلاج الصيني، أي الوخز بالإبر، فتقوم بردود استراتيجية تُزعج الخصم لكن لا توجعه او تدفعه إلى “إيقاظ العملاق فيه”، فأسلوب إيران استنزاف طويل الأمد، لا مواجهات عسكرية مباشرة تُظهر خلل موازين القوى لصالح خصومها، انطلاقاً من توازن القوى الواضح لصالح الولايات المتحدة”.
من جهته، يتحدّث ملاعب عن “تقييم الموقف”، وهي لعبة تُجيدها إيران إلى جانب “الصبر الاستراتيجي”، فيقول إن “إيران حتى لو خسرت قادة كزاهدي، لكنها تمتلك قوّة تهدّد بها إسرائيل، وبمقارنة الأرباح والخسائر، فإن إيران تعتبر نفسها مرتاحة مقارنة بإسرائيل المأزومة داخلياً على الصعيد السياسي والعسكري والشعبي، وخارجياً على صعيد إدانات المجتمع الدولي، ولا تعرف مصير مستقبلها”.
ويتطرّق ملاعب للجو الدولي المُحيط في المنطقة، ويلفت إلى أن الولايات المتحدة لم تُرد الانخراط عسكرياً بالحرب الدائرة، لكن في الوقت نفسه فإن ميزانيتها الدفاعية تقدّر بـ844 مليار دولار وتوازي ضعف موازنات الدول العشر التي تليها، وبالتالي فإن إيران لا تُريد إقحامها في الحرب نسبةً لقوتها، وهذا سبب إضافي لاستباق العمل العسكري بجهد ديبلوماسي.
ويُتابع في السياق نفسه: “أما وبالحديث عن الصين وروسيا، فإن بكين تنتهج سياسة صفر مشكلات، وتركيزها ينصب على الاقتصاد واستراتيجية الحزام والطريق، ولا تُريد أن تتدخّل عسكرياً في أي صراع، ثم أن موسكو منهمكة بحرب أوكرانيا، والطرفان يخشيان من تورّط إيراني في المنطقة يوسّع نطاق الحرب ويرفع من سقفها”.
في المحصلة، فإن إيران الباحثة عن توسيع خارطة نفوذها وتدعيمها في المنطقة، وتُعد شريكاً في النظام الإقليمي القائم رغم الصراع مع إسرائيل، لا ترغب في صراعات مدمّرة أو إلغائية، بل تُريد حروباً متنقّلة تُمكّنها من بسط سيطرتها، وانطلاقاً مما ذُكر، تُحاول إيران عدم التصعيد ضد إسرائيل، والحفاظ على ما كسبته في العقود الماضية وتعزيزه.
المصدر: النهار العربي