السياسة الجماهيرية والسياسة النخبوية

معقل زهور عدي

في العهد الفيصلي لاحظ الصحفيون الغربيون الذين زاروا سورية بدهشة مدى ولع السوريين بالسياسة وانخراطهم بها، وظهر في تلك الفترة في الغرب في الحديث حول سورية تعبير ” السياسة الجماهيرية ” حيث امتلك الشارع والقوى الشعبية والبرلمان (المؤتمر السوري العام) تأثيرا كبيرا على الحكومة سواء فيما يتعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية.

بسرعة فائقة انتقل السوريون العاديون من حالة اللامبالاة تجاه السلطة الموروثة من العهد العثماني واعتبارها نوعا من الأقدار إلى المشاركة الواسعة في السياسة حتى أصبحت الخبز اليومي لمختلف فئات الشعب.

من أجل ذلك كان من الصعوبة بمكان أن يعود السوريون ليحكموا بالقوة وضد إرادتهم الحرة ويتم إبعادهم عن السياسة تحت الاحتلال الفرنسي التي اتخذ مسمى الانتداب .

ذلك مالم تتمكن سلطة الانتداب من فهمه حين نقلت الطرق التي جربتها للسيطرة والتحكم في المغرب العربي وطبقتها في سورية وكان حصيلتها أن قام السوريون بثورة عامة خلال عامين 1925 – 1926 أرهقت سلطة الاحتلال ودفعتها بعد ذلك لاعادة التفكير في طريقة إدارة سورية ولاحقا في التوصل الى معاهدة 1936 التي تعترف فيها باستقلال الجمهورية السورية ولو ضمن بعض الشروط .

وبعد الاستقلال عاد السوريون للسياسة من أوسع الأبواب , وامتلك الشارع قوة إسقاط الحكومات مباشرة أو بصورة غير مباشرة حين كانت المظاهرات الشعبية والإضرابات تمهد للانقلاب .

كانت السياسة السورية في الخمسينات تمارس من خلال القوة الشعبية التي يمتلكها كل حزب وكل زعيم سياسي، وفي مدينة مثل حماة كان أكرم الحوراني قد امتلك قاعدة شعبية لدى الطبقة الوسطى والأحياء الفقيرة في المدينة وكان بالإمكان رؤية صوره الكبيرة عند بائع الحمص كما في غرف الضيوف في المنازل , فيما الشوارع تمتلئ بالمظاهرات التي تشتعل حماسا من حين لآخر .

غير أن الحال تبدل تماما منذ نشأت اللجنة العسكرية كتنظيم سري يخطط للسيطرة على الجيش ومنه على السياسة السورية.

اللجنة العسكرية البعثية السرية كانت بحاجة لغطاء سياسي قدمته لها نخب سياسية ابتعدت عن ” السياسة الجماهيرية ” نحو سياسة النخب المتحالفة مع العسكر . هذه النخب جاءت من اليسار الذي لم يتمكن من امتلاك قواعد شعبية واكتفى بممارسة السياسة ضمن مجموعات مغلقة , وبالتالي كان يشعر بالغربة والخوف من الجماهير , وقد ترافق ذلك مع النظرة الستالينية التقليدية التي لاترى في الديمقراطية سوى فكرة بورجوازية بينما ارتبطت الاشتراكية عندها بدكتاتورية البروليتاريا , وفي مجتمع متخلف عاش مع الاستبداد الشرقي قرونا طويلة يمكن لنا أن نتوقع فهما متخلفا لديكتاتورية البروليتاريا تختفي فيه البروليتاريا وتبقى الديكتاتورية .

ليس غريبا أن تجد النخب اليسارية المغلقة على ذاتها حليفا مناسبا تستمد منه القوة  لمشروعها السياسي من العسكر , وقد حدث ذلك في عدة بلدان أخرى مثل السودان حين تحالف الشيوعيون مع جعفر النميري في انقلاب العام 1969 قبل أن يعود لينقض عليهم , وقبل ذلك في انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق عام 1958 , وبالعودة لسورية فقد قدمت نخب يسارية الغطاء النظري للمجموعة البعثية العسكرية التي كانت بصدد تحويل انقلاب آذار 1963 من انقلاب لأجل إعادة الوحدة إلى انقلاب يكون المطية لحكم عسكري ديكتاتوري دائم لسورية وذلك في المؤتمرالسادس للحزب عام 1963 حين طرحت لأول مرة مبدأ الحزب القائد للدولة والمجتمع والذي يعني إلغاء الحياة السياسية في البلاد , وهكذا تقلصت المسافة كثيرا أمام المجموعة العسكرية البعثية نحو احتكار السلطة في سورية بصورة تامة ونهائية , ولم يبق سوى إخراج العناصر التي لاتظهر قبول تحكم العسكر بالحزب في ظروف كانت المجموعة البعثية العسكرية قد أحكمت مسبقا سلطتها على الجيش .

لكن النخب السورية اليسارية عادت فوجدت نفسها مبعدة عن السياسة في ظل حكم الحزب الواحد الذي يخفي حكما عسكريا أمنيا لايقبل ممارسة السياسة خارج دوائره الضيقة التي أحكم السيطرة عليها .

صحيح أن نظام الحزب الواحد الأمني شكل حاجزا في وجه تواصل النخب السورية مع الجماهير , لكن ذلك لم يكن سوى أحد أوجه أزمة النخب السورية , فطبيعتها المغلقة النخبوية العصبوية كانت أيضا حاجزا أمام امتلاكها قاعدة شعبية , وهكذا حين هب الشعب السوري في ثورة العام 2011 مطالبا بالحرية والكرامة وأسقط حاجز الخوف تطلع حوله فلم يجد تلك النخب المهيئة للقيادة الجماهيرية .

زاد الطين بلة أن تلك النخب قد طورت في تجربتها القاسية لغة تسقط الجماهير الشعبية من خطابها السياسي الذي صار يميل للتثاقف وتقديس نمط من الليبرالية النخبوية التغريبية مبتعدا أكثر فأكثر عن دور الجماهير في التغيير السياسي دون أن يفكر مليا في كيف يمكن أن يحدث مثل ذلك التغيير بدون الجماهير .

وحين تنبهت تلك النخب السياسية لابتعادها عن الشعب، أحالت أزمتها تلك إلى نقد للشعب باعتباره مازال خاضعا للأفكار المتخلفة .

يمكن القول إن من الخصائص الأصيلة للشعب السوري وعيه السياسي، وإصراره على أن يكون سيد نفسه , غير أنه في انخراطه المزمن في السياسة لا يحتاج لنخب لا تجد مكانا لها بين صفوفه , وتصر على أن تعيش في شرنقة لا ترى فيها سوى نفسها كما عاش نرسيس الاغريقي الذي قضى حياته وهو ينظر في الماء متأملا جمال وجهه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى