تُعيد الحرب العدوانية الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة إنتاج الواقع الفلسطيني والإقليمي برمته، وتُحدث متغيرات متلاحقة وكبرى، قد تحرك احتمالات قوية، لرسم المنطقة بكليتها، وفق واقع ميداني يشي بالعديد من التمظهرات، والكثير من الانزياحات، من خلال ما أحدثته وتحدثه حالة (طوفان الأقصى) وما جاء بعدها من حرب إبادة إسرائيلية، لم ولا يبدو أنها سوف تقف عند حد ما، بل هي متواصلة فصولًا ضمن الحالة الرسمية العربية، المتآكلة والأوضاع الإسلامية الأكثر تآكلًا وضياعًا وانفلاتًا من عقالها.
ضمن هذه الأحداث الدراماتيكية، والصمت والفرجة الدولية، على كل الحرب المجنونة الممارسة بحق الشعب الفلسطيني، من مقتلة عدوانية لم يسبق لها مثيل، مع محاولات مستمرة للتهجير القسري خارج الجغرافيا الفلسطينية، رغم الرفض المصري المعلن، والأردني أيضًا، ثم الإعلان الغربي والعالمي عن عدم القبول بذلك.
لكن القراءة الموضوعية للحالة الغزاوية، تشير إلى جملة محددات ومرتكزات، طالما استوقفت المتعمق في الحالة الفلسطينية والإقليمية ومفادها:
- إن حركة المقاومة الإسلامية حماس، وما قامت به من فعل بطولي مهم، حرك الوضع الفلسطيني، وأعاد القضية الفلسطينية إلى منصات التداول من جديد، ووضعها في متناول كل السياسات الإقليمية والعالمية معها، وهي التي كان قد تم نسيانها ووضعها على الرف، منذ فترة ليست بالقصيرة. إلا أن حركة حماس وأثناء التحضير لمثل هكذا عملية كبرى، وتحريك كبير للمياه الراكدة، لم تكن تتوقع أبدًا حجم التخلي والخذلان، ولا (كُنه) الحالة العربية الرسمية، ومعها العالم الإسلامي، ومدى انكماشه بهذا الشكل الملفت، وحالة العمى السياسي والإنساني عن كل هذا الدمار والقتل الذي يجري للشعب الفلسطيني.
- كما أن حركة حماس أيضًا لم يكن في مخيالها السياسي الاستراتيجي، خطل وكذب (محور الممانعة) بزعامة إيران/الملالي، هذا المحور الذي مازال رغم كل هذه المقتلة بحق الشعب الفلسطيني، يعمل وفق رؤية ومسمى (الصمت الاستراتيجي) و(حرب العواميد) ضمن التفاهمات البينية مع الأميركيين، ومن ثم الاستمرار بطريقة (المشاغلة) التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
- علاوة على أن منظمة التعاون الإسلامي التي تضم هي الأخرى كل الدول الإسلامية ما انفكت عاجزة ومتعاجزة عن إنقاذ الفلسطينيين، أو على الأقل وقف هذه الحرب (الإبادة) المستمرة وهي ما برحت منشغلة بمشاكلها الداخلية، ومرتبطة في معظمها بخيوط تمنعها من الإتيان بأي موقف جدي قد يوقف الحرب ويحقن الدماء الفلسطينية.
- أما ذاك الموقف الأميركي المخاتل، فلم يعد خافيًا على أحد في هذه اللحظة التاريخية، وقد انكشف حتى لمن كان يعتقد واهمًا بإمكانية أن تقف الولايات المتحدة لمرة في تاريخها مع أو إلى جانب الإنسانية والحق الفلسطيني، وما كل هذه التصريحات الأميركية التي نسمعها، وتحاول أن تقول برفضها لممارسات إسرائيل إلا من قبيل ذر الرماد في العيون، لكن ذلك لم يعد ينطلي على أحد بعد جملة المواقف الأميركية المفضوحة مؤخرًا.
- النظام السوري وهو أحد أركان (محور الممانعة) مازال يصر على قصف أهالي محافظة إدلب والشمال السوري، وقتل المدنيين السوريين، بدلًا من أن يقف إلى جانب الفلسطينيين، ومنهم حركة حماس باعتبارها أحد أطراف (محور الممانعة). لكن ومع ذلك فهو متخوف من أن تترك حرب غزة آثارها السلبية على وجوده كنظام تسلطي، ودولة أمنية تابعة لإيران، وهو ما يدفعه إلى مزيد من الانبطاح، وإرسال الرسائل المباشرة وغير المباشرة، إلى الإسرائيليين، أنه مازال على العهد باق، بحفظ أمن وأمان (حدود إسرائيل) معه، وهو لن يدخل في أي حرب مع إسرائيل وسوف يصمت صمت القبور، عن كل الاستهدافات الإسرائيلية المستمرة، لمواقع للحرس الثوري الإيراني في الجغرافيا السورية أو اغتيالات هنا أو هناك داخل الأراضي السورية للإيرانيين، أو الفلسطينيين.
إن كل ما قيل عن توقف مسيرة التطبيع مع إسرائيل تساوقًا مع حرب غزة لا يبدو أنه جدي، وأن ما بعد غزة سيكون فيه وضمنه المجال الأرحب والأسهل للولوج بعلاقات بينية جديدة عربية إسرائيلية، قد يكون منها مع نظام بشار الأسد، وسواه من (محور الممانعة) وما المباحثات غير المباشرة التي تجري في لبنان مع حزب الله وميليشياته، إلا ضمن هذه السياقات، حيث أن المهم هو الحفاظ على (محور الممانعة) وبقاء السلاح الإيراني بيد حزب الله، وتحقيق المصالح الإيرانية عبر تغول إيران على المنطقة برمتها.
أما واقع غزة ما بعد الحرب فلن يكون مباحًا لمحور المقاومة، ولن تتمكن سلطة عباس كذلك رغم هلاميتها ومهادنتها، لكل السياسات الأميركية، تجاه القضية الفلسطينية من أن تسيطر على قطاع غزة، أو تعيد توحيد ضفتي السلطة الفلسطينية، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وسوف تبقى الأمور معلقة، ومهيمن عليها أمنيًا من قبل إسرائيل، ولا يوجد أي معترض على ذلك عربيًا ولا إسلاميًا ولا عالميًا بالضرورة.
ولعل ما جرى ويجري في قطاع غزة سيترك آثاره التغييرية على المنطقة برمتها، وسوف يكون هناك تغيرات سياسية وجيوسياسية فعلية قد لا تكون متوقعة، بل هي تدخل في إطار ديناميات جديدة، ومشهد سياسي مغاير، سيترك تداعياته على المسألة السورية ككل، ومن الممكن أن تؤدي إلى تفاهمات، وتوافقات مختلفة سواء صمن بنية النظام السوري، أو من خلال تحالفاته مع الإيرانيين والروس، وكذلك علاقاته العربية المتعثرة، وأيضًا بالنسبة لاحتمالات تحريك التطبيع بينه وبين تركيا رغم إعلان وزير خارجية روسيا مؤخرًا استحالته حسب الرؤية الروسية في الحاضر، لكن بعد حرب غزة قد تكون المسائل منزاحة إلى تموضعات أخرى خاصة بعد ما قيل عن احتمالات ما لتوقف الحرب في أوكرانيا، من خلال ضغوطات غربية لوقفها، وتعاطي بوتيني متغير نحوها.
حرب غزة ستترك آثارها الكبيرة على المنطقة، وستحيل الكثير من القضايا المتعثرة إلى مواقع يمكن أن تدفع بها نحو مآلات ومواقع جديدة كل الجدة.
وبعض المتابعين يؤكد أنه يمكن القول إن ما سيكون عليه الحال بالنسبة لسورية، ربما تنقلب الأحوال بطريقة غير متوقعة وبين لحظة وأخرى، لأن طبيعة المنطقة ومتغيراتها تشي بأن الأيام حبلى بالكثير. تأسيسًا على أن الغرب والولايات المتحدة الأميركية لم يدر في خلدهم أن تكون مسارات إسرائيل فاشلة إلى هذا الحد في القضاء على حركة حماس خلال أكثر من ستة أشهر مضت.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
هل حقق”طوفان الأقصى” المطلوب منه ؟ هل أوقف مسيرة التطبيع ؟ بتوقعي لم توقفها ولكن عرتها. هل حرك ملف القضية الفلسطينية دولياً وجماهيرياً ؟ نعم حققته ، هل كشفت آخر أوراق التوت عن عهر حلف المقاولة والمماتعة والنظام الدولي؟ نعم كشفته ، ولكن لماذا الأنظمة والفصائل الجهادية لم تعمل وفق ذلك؟ الأيام القادمة ستكون حبلى بالمتغيرات.