يُعَّدُّ أستاذ القانون والمفكر الألماني ماكس فيبر فيلسوف الرأسمالية و”عرابها” الأول بلا منازع؛ إذ رصد فيبر الظاهرة الرأسمالية وتطورَها في العالم البروتستانتي، خاصة الولايات المتحدة، ووجد ارتباطًا وثيقًا بين منظومة الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ونشوئها وتطورها.
تبنتِ البروتستانتية أخلاق الانضباط والالتزام بالعمل وخفض الاستهلاك والادخار وتأجيل المتعة أو ما يدعى “التقوى الحضرية” بتعبير فيبر؛ لتكوين الرأسمال وإعادة استثمار عائد الإنتاج وتوسيعه، وهذا بدوره له صلةٌ وثيقةٌ بروح الرأسمالية المبكرة، خاصة في مجتمعات الاستيطان الأوروبي الكبرى.
فهذه المجتمعات قد هاجرت، واستوطنت المستعمرات؛ بفعل الاضطهاد الديني والمجاعات التي ضربت أوروبا في عصر الاكتشافات الجغرافية والمرحلة المركنتيلية (التجارية).
لكن أزمة الرأسمالية المزمنة -خاصة النيوليبرالية الأميركية الراهنة التي تم تعميمُها عالمياً- أنها لا تقوم على الانضباط الاستهلاكي، بل على تعظيم الاستهلاك وإتاحة الاقتراض للأفراد والشركات والحكومات بشكل مفرط، فأصبح الاستهلاك يفوق الدخل، وغدا المستهلك ينفق ما لم يكسبه بعد، مما قلص المدخرات، وأدى إلى الغرق في بحار من الديون تجاوزت كثيراً الناتج المحلي الإجمالي.
هكذا تبخرت البروتستانتية وأخلاقها وآليات عملها التاريخية التي أدت إلى صعود العالم الأنغلو-أميركي. ويعزو إيمانويل تود المؤرخ والأنثروبولوجي وعالم الاجتماع والمحلل السياسي الفرنسي الانحدار الغربي إلى “تبخر” قيم البروتستانتية، وقد سلط الضوء في كتابه “سقوط الغرب” الذي صدر حديثاً على “قيم العمل والانضباط الاجتماعي” المتأصلة في هذا الفرع المسيحي، وقد عدَّها عنصراً أساسياً في صعود “العالم الأنغلو-أميركي” كما حلل قبله فيبر. وقد رأى إيمانويل تود “أن تبخر البروتستانتية في أميركا وبريطانيا والعالم البروتستانتي؛ قد تسبب في اختفاء ما يشكل قوة الغرب وخصوصيته، وأن المتغير المركزي في ذلك هو “الديناميات الدينية”.
الانهيار التدريجي الداخلي للثقافة البيضاء الأنغلو سكسونية البروتستانتية أدى منذ الستينيات في القرن الفائت إلى “إمبراطورية محرومة من مركز ومشروع ومعنى، أي أنها كائن عسكري في الأساس تديره مجموعة بلا ثقافة (بالمعنى الأنثروبولوجي)”، هكذا يعرّف تود ويطلق التسمية على المحافظين الجدد في أميركا من أمثال بوش وترامب وصقور القرار في البيت الأبيض والمطابخ الخلفية في مؤسسات القرار الأمريكية.
هنا نصل إلى جوهر حجة إيمانويل تود، وهي إعادة تفسيره لما بعد ماكس فيبر للأخلاق البروتستانتية وعلاقتها بروح الرأسمالية، فكتاب فيبر “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” -الذي نشر منذ أكثر من قرن (1904-1905)- جاء في وقت “كانت فيه البروتستانتية مصفوفة صعود الغرب البروتستانتي، فموت البروتستانتية اليوم – بحسب كتاب إيمانويل تود (سقوط الغرب) – هو سبب التفكك والهزيمة”.
يحدد تود بوضوح كيف كانت “الثورة المجيدة” الإنجليزية عام 1688، وإعلان الاستقلال الأميركي عام 1776، والثورة الفرنسية عام 1789 الركائز الحقيقية للغرب الليبرالي، وبالتالي فإن “الغرب” بالمعنى الأوسع ليس “ليبرالياً” تاريخياً؛ لأنه هندس أيضاً “الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية والنزعة العسكرية اليابانية”.
يؤكد تود أن البروتستانتية تقع مرتين في قلب تاريخ الغرب: من خلال الدافع التعليمي والاقتصادي، مع الخوف من اللعنة الإلهية والسعي نحو الخلاص والحاجة للشعور بالاصطفاء الإلهي، مما يولّد أخلاقيات عمل منضبطة وأخلاقية جماعية قوية، ومن خلال فكرة أن البشر غير متساوين (تفوق الرجل الأبيض). ولم يكن لانهيار البروتستانتية إلا أن يدمر أخلاقيات العمل لصالح الجشع الجماعي، أي النيوليبرالية (الجديدة).
ويُبرز تود كيف فرضت البروتستانتية معرفة القراءة والكتابة الشاملة على السكان الذين تسيطر عليهم”؛ لأنه يجب على جميع المؤمنين الوصول مباشرة إلى الكتاب المقدس، السكان المتعلمون قادرون على التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، لقد صاغ الدين البروتستانتي بالصدفة قوة عاملة متفوقة وفعالة”، وبهذا المعنى كانت ألمانيا “في قلب التنمية الغربية” حتى لو حدثت الثورة الصناعية في إنجلترا, ووثيقة الاستقلال في أمريكا! وفي هذا السياق نذكر رغبة الآباء المؤسسين في إنشاء كلية لتعليم الناس كيف تُمَارس الديمقراطية، فبحسب جيفرسون لا ديمقراطية بلا تعليم.
وقد وجد تود أوجه تشابه بين التاريخ الثقافي للبلاد وتاريخ الغرب البروتستانتي، وقال “إن المشترك بين البروتستانتية والشيوعية هو الهوس بالتعليم”، مضيفاً” لقد طورت الشيوعية -التي تأسست في أوروبا الشرقية- طبقات وسطى جديدة”، حيث العامل الحاسم في صعود الغرب هو ارتباط البروتستانتية بالأبجدية، بحسب تود.
يبدو نقد تود الحاد لروح الثورة الطلابية في فرنسا عام 1968 مستحقاً لكتاب جديد كلياً، فهو يشير إلى أن “أحد الأوهام الكبرى في الستينيات والقواسم المشتركة بين الثورة الجنسية الأنغلو-أميركية وثورة مايو/أيار 1968 الطلابية في فرنسا الاعتقاد بأن الفرد سيكون أعظم إذا تحرر من الجماعة”. وقد أدى ذلك إلى كارثة حتمية، بحسب تود الذي يقول “الآن بعد أن تحررنا بشكل جماعي من المعتقدات الميتافيزيقية، التأسيسية والمشتقة، كالشيوعية أو الاشتراكية أو القومية فإننا نعيش الآن تجربة الفراغ”، ويكمل “هكذا أصبحنا عدداً كبيراً من الأقزام المقلدين الذين لا يجرؤون على التفكير بمفردهم، لكنهم يُظهرون أنهم قادرون على التعصب مثل المؤمنين في العصور القديمة”.
إن تحليل تود الموجز للمعنى الأعمق للتحول الجنسي يحطم تماماُ الحملات الداعية إلى حرية التحول الجنسي، من أميركا إلى أوروبا، وسيثير نوبات غضب متسلسلة، إذ يرى أن التحول الجنسي هو “إحدى رايات هذه العدمية المحددة للغرب الآن، وهذا الدافع لتدمير ليس الأشياء والبشر فحسب، بل الواقع أيضاً”.
وهنا فائدة تحليلية إضافية لتود، إذ “تقول أيديولوجية التحول الجنسي: إن الرجل قد يصبح امرأة، والمرأة قد تصبح رجلاً، وهذا تأكيد كاذب، وبهذا المعنى فالأمر قريب من الثقل النظري للعدمية الغربية”، ويزداد الأمر سوءاً عندما يتعلق الأمر بالتداعيات الجيوسياسية.
وبالترادف مع العديد من المحللين في روسيا والصين وإيران وبين المستقلين في أوروبا يبدو تود على يقين من أن هوس الولايات المتحدة -منذ التسعينيات- بقطع ألمانيا عن روسيا سيؤدي إلى الفشل، ويقول “عاجلاً أم آجلاً سوف تتعاونان؛ حيث إن “تخصصاتهما الاقتصادية تشير على أنهما متكاملتان”، ويقول: إن الهزيمة في أوكرانيا سوف تفتح الطريق لذلك، حيث تعمل “قوة الجاذبية” على إغواء ألمانيا وروسيا بشكل متبادل.
وعلى عكس أي “محلل” غربي تقريباً في محيط بلدان حلف الناتو، يرى تود أن موسكو في طريقها للفوز على حلف شمال الأطلسي بأكمله، وليس فقط أوكرانيا، مستفيدة من نافذة الفرصة التي حددها بوتين أوائل 2022.
ويراهن تود على نافذة زمنية مدتها 5 سنوات، أي أن نهاية اللعبة ستكون عام 2027 كما يقول، ومن المفيد مقارنة ذلك بتقدير وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو كما ذكر العام الماضي “ستنتهي العملية العسكرية الخاصة في عام 2025”.
بالعودة إلى عنوان المقال الصادم نجد أن عراب الرأسمالية وفيلسوفها الأول ماكس فيببر، و تنبؤات إيمانويل تود الإستراتيجية الثاقبة التي ما فَتِئت تؤرق الغرب – منذ أن توقع انهيار الاتحاد السوفياتي في كتابه الشهير “السقوط النهائي” الذي أصدره عام 1976، وهو ابن 25 عاماً- تشير إلى أن المنظومة القيمية أساس نهوض الأمم، منذ حِلفُ الفُضولِ (في شهر ذي القعدة عام 33 قبل الهجرة/591 ميلادي) إلى الميثاق الأعظم Magna Charta 1215, مروراً بالرسالات السماوية التي أسست لدول حاكمة، مثل: مملكة داوود وذي القرنين والخلافة الاسلامية. ومع انحلال الثقل الأخلاقي يحل محله الثقل العدمي الذي تتمثل أخطر أشكاله عندما يمتلك القوة العسكرية والاقتصادية كما هو الحال اليوم. يظن التحالف الأرثوذكسي الصهيوني الصفوي أنهم يمتلكون الثقل الأخلاقي الموروث الذي يُمكنهم من إزاحة العدمية الغربية، ويغنمون ثقلها الاقتصادي والعسكري؛ ليتحكموا بمصير البشرية ويسَوقون أيديولوجياتهم التي تمتزج فيها الأساطير والخرافة بالتاريخ والأحلام الاستئصالية, ويعملون على إزاحة القوي العدمي ( مثل البروتستانتية الآفلة و الكاثوليكية المنهكة والمتقوقعة ) والأيديولوجي الضعيف والمتصارع في داخله (وعلى رأسه العرب وأهل السنة ). والسؤال الذي نطرحه هل ينجحون أم يفشلون ؟
للجواب عن هذا السؤال أتذكر قراءتي لخبر ظهور شق فجأة في جنوب غرب كينيا. هذا الشقٌ الواسع يمتد لعدة كيلومترات. وأدى استمرار توسع الصدع المصحوب بنشاط زلزالي إلى انهيار الطريق السريع الواصل بين مدينتي نيروبي ونارك. وعلى أثر تلك الحادثة ظهرت مقالاتٌ كثيرةٌ تتحدث عن حتمية انقسام القارة الإفريقية إلى قسمين يفصلهما البحر, لكن هذا الخبر تنتهي إثارته عندما نعلم أن هذه الحتمية حسب الدراسات قد تصل إلى 100 ألف عام أو أكثر!!! هنا ندرك أن تلك المشاريع العابرة لها حتميةٌ حددتها سنن الخالق، لكن متى؟ وكيف؟ وهل نشهدها؟ فهذا أمر يفوق قدرة البشر، لكن الأكيد أن كل الأفراد سوف يُسألون عن موقفهم وعملهم تجاه هكذا مشاريع يتنازع فيها الشيطان مع بني آدم معركة الحياة وما بعدها !!!!!
هل يمكن أن يكون هناك تحالف أرثوذكسي صهيوني صفوي؟ وأنهم يمتلكون الثقل الأخلاقي الموروث الذي يُمكنهم من إزاحة العدمية الغربية المتمثلة بالبروتستانتية الآفلة و الكاثوليكية المنهكة والأيديولوجيات الضعيفة والمتصارع بداخلها كالعرب وأهل السنة؟ قراءة موضوعية وبشواهد من التاريخ والميثالوجيا.