منذ العام 2010، هيمن حزب “الليكود” اليميني على السياسة الإسرائيلية، مما جعل تحقيق السلام مستحيلاً. وعلى الرغم من تضرره من محاولته إصلاح نظام المحاكم الإسرائيلي وإخفاقاته الهائلة في التعامل مع قطاع غزة، فإن “الليكود” والأحزاب الأخرى التي تصر على الحكم الإسرائيلي لـ”أرض إسرائيل” الكبرى ستستمر في السيطرة على الحكومات الإسرائيلية في المستقبل المنظور.
* * *
أسفر الهجوم العنيف الذي شنته حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) عن مقتل حوالي 1.200 شخص في إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، دمرت حملة عسكرية إسرائيلية شرسة جزءا كبيرا من غزة، حيث قتل (حتى كتابة هذه السطور) أكثر من 22.000 شخص وجرح عدد لا يحصى من الغزيين أو دفنوا تحت الأنقاض، أو أصيبوا بالهزال والضعف الشديد بسبب الأمراض وسوء التغذية، بينما تواصل القوات الإسرائيلية منع وصول المساعدات الإنسانية التي تمس الحاجة إليها في القطاع.
وكانت إسرائيل قد أعلنت قائمة متزايدة من أهداف الحرب، التي تشمل القضاء على حماس؛ واستعادة جميع الرهائن الإسرائيليين؛ والتأكد من أن غزة لن تهدد إسرائيل مرة أخرى؛ ومنع “السلطة الفلسطينية” من تولي أي دور في حكم القطاع؛ ومنع أي “مكون” يمكن أن “يعلّم ويربي أطفال (غزة) على الإرهاب أو يدعم الإرهاب، أو يمول الإرهاب أو يدعو إلى تدمير إسرائيل؛ وإنشاء منطقة عازلة واسعة داخل غزة تفصل إسرائيل عن سكان القطاع.
ومع ذلك، لم يشرح أي زعيم إسرائيلي كيف يمكن لـ”عملية السيوف الحديدية”، كما أطلقوا على حملتهم العسكرية على غزة، أن تحقق هذه الأهداف. إنها لن تستطيع أن تفعل -وهم يعرفون ذلك. وكان هذا الوضع الحاضر الآن نفسه موجودا في كل حرب إسرائيلية تقريبا منذ العام 1948 لأن مشاكل البلاد سياسية بطبيعتها، وليست شيئا يمكن للقوة العسكرية وحدها أن تحله. ويعني هذا أنه بدلاً من أن تنتهي “عملية السيوف الحديدية” عند الانتهاء من تحقيق الأهداف الإسرائيلية المعلنة، فإنها ستنتهي -كما فعلت كل الحروب الإسرائيلية الأخرى- عندما تقرر الدول الرائدة (غالبا الولايات المتحدة) أن جيش إسرائيل قد أفرط في تحديد أهدافه وذهب أبعد مما يجب.
هذه الدينامية متجذرة في تاريخ إسرائيل والنجاح الثوري -وإن كان جزئيا- الذي حققته الصهيونية. بإلهام من الحركات القومية الأخرى وموجة “معاداة السامية” في أوروبا، سعى الصهاينة في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى بناء دولة يهودية في الشرق الأوسط العربي المسلم إلى حد كبير، والذي عارض بشدة إنشاء هذه الدولة وتوسعها. وقد أدرك أولئك الصهاينة الأوائل أن دولة يهودية، أو “وطن يهودي”، سوف تتطلب في نهاية المطاف عقد سلام مع الشرق الأوسط العربي والإسلامي. ومع ذلك، وكما اعترف الزعيم الصهيوني التصحيحي فلاديمير (زئيف) جابوتنسكي في العام 1923، فإن أي شخص ذي عينين مفتوحتين يمكنه أن يدرك “الاستحالة الكاملة” لتحويل “فلسطين من بلد عربي إلى بلد ذي أغلبية يهودية” بالموافقة الطوعية.
يشكل جابوتنسكي مفتاحًا رئيسيًا لهذا التاريخ لأنه أوضح ما فهمه الصهاينة من مختلف الأطياف السياسية: أن نجاح حركتهم سوف يتطلب استخدام القوة لضمان البقاء وإقناع جيرانهم بديمومة الكيان السياسي اليهودي. لكنّ ثمة مفارقة كانت هناك: في حين أن القوة ضرورية للبقاء والنجاة، فإنها لن تكون كافية لكسب السلام والاعتراف المتبادل.
وكان حل جابوتنسكي هو “استراتيجية الجدار الحديدي”، التي اعتنقها الصهاينة الرئيسيون -ولاحقًا الأحزاب السياسية الإسرائيلية- بشكل أو بآخر. وتضمنت هذه الاستراتيجية استخدام مستويات ساحقة من العنف لإجبار العرب على القبول بفكرة أن الدولة اليهودية وُجدت هنا لتبقى. وسيكون من شأن ذلك أن يهيئ الظروف لخوض مفاوضات ناجحة لم تكن لتوجد طالما ظل لدى العرب “بصيص أمل” في إنهاء المشروع الصهيوني تمامًا. وشدد جابوتنسكي على أنه بعد أن ينطفئ هذا الأمل عند العرب، سيكون الإسرائيليون مستعدين لتخيل مستقبل “لشعبين في فلسطين”. وكتب: “أنا مستعد لأن أُقسِم، من أجلنا ومن أجل أحفادنا، أننا لن ننتهك هذه المساواة أبدًا وأننا لن نحاول أبدا طرد العرب أو اضطهادهم”.
في ثلاثينيات القرن العشرين، بعد أن أعلنت بريطانيا دعمها لفكرة إنشاء وطن يهودي في فلسطين وبعد أن أيدت “عصبة الأمم” هذا الإعلان، بدأ الصهاينة في تنفيذ هذه الرؤية الرامية إلى خلق فرص تفاوضية من خلال إلحاق هزائم ساحقة بالعرب. وكانوا يأملون في تقسيم خصوم إسرائيل إلى متطرفين متشددين، ومعتدلين على استعداد للتفاوض. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، في أعقاب الهولوكوست، أصدرت الأمم المتحدة قرارًا يوصي بإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وإنشاء دولتين مستقلتين: واحدة عربية والأخرى يهودية. وسرعان ما تلت ذلك حرب أهلية بين القوات اليهودية والفلسطينية، وانسحاب فوضوي للقوات البريطانية من فلسطين.
عندما أعلنت إسرائيل استقلالها في أيار (مايو) 1948، هاجمها جيرانها العرب. وفي تلك الحرب، انتصرت القوات الإسرائيلية على جميع الجبهات تقريبا، وكانت النتيجة تشريد ما يقرب من 750.000 فلسطيني –ولم تنته الحرب إلا عندما أصبح قادة إسرائيل خائفين من تدخل عسكري بريطاني ووافقوا على سحب قواتهم من سيناء وإلغاء عمليات احتلال الضفة الغربية.
في العام 1956، بعد أن قام الزعيم المصري جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس وإبرام صفقة أسلحة مع الاتحاد السوفياتي، قامت إسرائيل، إلى جانب بريطانيا وفرنسا، بغزو مصر واحتلت شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة. ولم تغادر إسرائيل الأراضي التي احتلتها إلا عندما هدد الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور بانتقام مباشر ومؤلم منها إذا لم تفعل ذلك.
واستمر نمط الهزائم العسكرية الساحقة التي أُلحقت بالقوات العربية -التي بدأت في العام 1948، وتكررت في الغارات الانتقامية في خمسينيات القرن العشرين وفي حرب 1956 -وفي حزيران (يونيو) 1967، حين هددت مصر وسورية والأردن بالهجوم. وردت إسرائيل بضربة وقائية مدمرة. وأمر مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار، لكن إسرائيل لم توقف القتال إلا عندما ضغطت الولايات المتحدة والأمم المتحدة على رئيس الوزراء في ذلك الحين، ليفي إشكول، ووزير دفاعه، موشيه ديان، لوقف إطلاق النار على الفور.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1973، بعد أن شنت مصر وسورية هجومًا مفاجئًا على المواقع الإسرائيلية في سيناء ومرتفعات الجولان، سرعان ما اكتسبت القوات الإسرائيلية اليد العليا ببطء وبدأت حملة لعزل وتدمير “الجيش الثالث” المصري. وأوقفت إسرائيل هذه الحملة فقط لأن الولايات المتحدة -في مواجهة متوترة مع الاتحاد السوفياتي- رفضت رفضا قاطعا السماح لها بالاستمرار. وأصر الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير الخارجية هنري كيسنجر على أن تلتزم إسرائيل بشروط قرار مجلس الأمن رقم 338، الذي طلب من إسرائيل العودة إلى المواقع التي كانت تحتلها يوم تمرير القرار.
مع ذلك، وعلى الرغم من تفعيل استراتيجية جابوتنسكي المتمثلة في استخدام القوة الساحقة على مدى 75 عاما الآن، لم تصل إسرائيل أبدا إلى ذلك الجزء من نظريته الذي تكتسب فيه إسرائيل قبولا من جيرانها ومن الشعب الفلسطيني. ويرجع ذلك في جزء منه إلى أنه فشل في التنبؤ بأنه مع تراكم انتصارات إسرائيل على المقاومة العربية للصهيونية، فإن مركز الثقل السياسي داخل الصهيونية، ثم داخل إسرائيل كلها، سيتحول في اتجاه نزعة التوسع الإقليمي والاستثنائية العرقية/ القومية.
وكان ما فعله هذا التوسع في طموحات الصهيونية هو إحباط إمكانية السلام. عندما كانت “إستراتيجية الجدار الحديدي” قد وصلت إلى نقطة محورها في سبعينيات القرن العشرين -حين أقنع استخدام إسرائيل للقوة الساحقة أخيرا فصيلا معتدلا من العالم العربي بقبول وجودها مقابل السلام، وكان بإمكان إسرائيل التحول من استخدام القوة إلى التفاوض على تسوية سياسية- كانت أهداف الصهيونية تتغير بطرق جعلت قبول مثل هذه الصفقة مستحيلاً. وفي سبعينيات القرن العشرين، رفضت رئيسة الوزراء في ذلك الحين، غولدا مائير، العديد من عروض السلام من الأردن ومصر، لأن تلك العروض كانت تتطلب من إسرائيل تقديم تنازلات في الأراضي.
ابتداء من العام 1977، تحولت السياسة الإسرائيلية نحو اليمين. وتأرجحت الانتخابات جيئة وذهابا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين بين “حزب العمل” و”حزب الليكود اليميني” -الذي بشر بالسياسات التوسعية ومجّدها.
وكانت لذلك آثار كبيرة في تسعينيات القرن العشرين عندما كانت عملية السلام تكسب أخيرا موطئ قدم مع توقيع “اتفاقات أوسلو” للسلام. وفي ذلك الوقت، قام إسرائيلي يميني متطرف باغتيال رئيس وزراء “حزب العمل” إسحاق رابين. ومكن ذلك نتنياهو من الفوز في الانتخابات التالية، حيث فعل كل ما في وسعه لتدمير عملية سلام أوسلو. وبعد انهيار هذه العملية، اقترح العالم العربي، بقيادة المملكة العربية السعودية، سلاما شاملا مع إسرائيل على أساس إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن أي حكومة إسرائيلية لم ترد رسميًا على هذه المبادرة.
ومنذ العام 2010، هيمن حزب “الليكود” على السياسة الإسرائيلية، مما جعل السلام مستحيلا. وعلى الرغم من تضرره من محاولته إصلاح نظام المحاكم الإسرائيلي وإخفاقاته الهائلة فيما يتعلق بقطاع غزة، فإن “الليكود” والأحزاب الأخرى التي تصر على استمرار الحكم الإسرائيلي لـ”أرض إسرائيل” الكبرى ستستمر في السيطرة على الحكومات الإسرائيلية في المستقبل المنظور.
من دون السلام، اندلعت الحروب بشكل متكرر. وفي كل مرة، تعِد الحكومة الإسرائيلية بأنه أخيرًا، على عكس الماضي، سيُسمح لجيش الدفاع الإسرائيلي بالقتال حتى تحقيق النصر المطلق. ولكن في الواقع، وكما توقع جابوتنسكي في عشرينيات القرن العشرين، لا يمكن للجيش الإسرائيلي أبدًا تحقيق نصر حقيقي لأن الوسائل العسكرية وحدها لا يمكن أن تحول حقائق الشرق الأوسط، أو أن تصنع الأساس لترتيبات سياسية مستقرة تقوم على مبدأ المساواة بين الأمم.
وهذا يفسر لماذا لم تنه إسرائيل حربا أبدا من دون أن تُؤمر بأن تفعل. وقد استمر هذا النمط بشكل مطرد في القرن الحادي والعشري، بما في ذلك في العام 2006، عندما انتهت الحرب الإسرائيلية – اللبنانية فقط عندما تدخلت الولايات المتحدة وفرنسا، وتوسطتا في صدور قرار عن الأمم المتحدة. وحتى لو أرادت حكومة إسرائيلية ما وقف القتال، فإنها لا تستطيع أن تفعل، لأن ذلك سيعني الاعتراف بأنها لم تتح لها قط فرصة الوفاء بوعدها بحل مشاكل إسرائيل ببساطة عن طريق “السماح للجيش الإسرائيلي بتحقيق الانتصار”. وهكذا نُسيت رؤية جابوتنسكي التي اقترحت أن الانتصارات العسكرية الساحقة ضرورية، وإنما فقط لتمهيد الطريق إلى تسوية سياسية -يمكن أن تجلب السلام.
يكشف هذا التاريخ أن قائمة إسرائيل الحالية لأهداف الحرب في غزة ليست مصممة لتكون قابلة للتحقيق. وبدلا من ذلك، ليست هذه الأهداف سوى بيانات سياسية وضعت بحيث يمكن لنتنياهو وحكومته أن يدعوا -بعد أن تفرض الولايات المتحدة حتما إنهاء القتال- أنهم كانوا سيحققون أهدافا سامية لو لم تتدخل الولايات المتحدة.
وليس صدور أمر أميركي بالتوقف هو ما يخشاه القادة الإسرائيليون؛ إن هذا التدخل هو ما يتوقعونه في الحقيقة، وهو ما يحتاجه البلد على الدوام. ويُظهر التاريخ أنه سيأتي -في نهاية المطاف. مثل الرؤساء السابقين، يتعلم الرئيس بايدن الآن أن هناك مقايضات مؤلمة ينبغي إجراؤها بين الأخطار، والمخاطرات، والتكاليف البشرية للسماح باستمرار الحملة العسكرية الإسرائيلية من جهة، والعواقب السياسية المحلية المترتبة على وقفها من جهة أخرى. وعندما يقرر الرئيس أن المخاوف الأولى ترجح على الأخيرة، سوف يصدر الأمر. عندها، وعندها فقط، سوف تنتهي هذه الحرب.
*إيان س. لوستيك Ian S. Lustick: أستاذ بيس دبليو هيمان الفخري في قسم العلوم السياسية بجامعة بنسلفانيا. أحدث كتبه هو ”النموذج المفقود: من حل الدولتين إلى واقع الدولة الواحدة” Paradigm Lost: From Two-State Solution to One-State Reality
*نشر هذا المقال تحت عنوان: History Tells Us How the Isael-Hamas War Will End
المصدر: الغد الأردنية/(مجلة تايم)
قراءة موضوعية لحروب قوات الكيان الصهيوني قبل 1948 ولتاريخه ، الكيان الصهيوني وبالرغم من اتباع استراتيجية جابوتنسكي المتمثلة في استخدام القوة الساحقة على مدى 75 عاما، لم يستطع تحقيق الانتصار الكامل ليتقبله شعبنا العربي بمحيطه وداخل فلسطين، ومهما حاول من إخضاع انظمة عربية لأجندته بالتطبيع شعبنا الفلسطيني لم ولن يتخلى عن حقه وشعبنا العربي لن يتقبله .