لم تكن السياسة عندنا ولا كانت النخب السياسية السورية يوماً بخير، فالسلطات السياسية التي أخذت السلطة بالانقلابات العسكرية، وفرضت نفسها بالقوة فالتف حولها نخبة من مثقفين ومنظرين على مبدأ (يَسقط الطيرُ حيث يُنْتَثرُ الحَبُ) شكلت أزمة السياسة الوطنية ومحنتها، ولم تقدم لها سوى نكباتها وهزائمها وحان الزمن أن تخرج من ساحة العمل السياسي لتركن في زاوية المتاحف يأكلها العث والرطوبة.
لا ينطبق هذا على النخبة السياسية التي استبدت بالسلطة ومن والاها فحسب، بل يشمل أيضا أحزاباً وجماعات ظلت خارج دائرة السلطة أو في هوامشها، وراحت تتداول أزمتها مع الأنظمة المتتالية وينطوي كل منهما على علله وهشاشته وانكفائه على نموذجه المستورد معلباً ومغفلاً مصدره وتاريخ تعبئته بالشعارات ومدى صلاحيته لزمانه ومكانه في البيئة السياسية والاجتماعية السورية. فالأهمية كانت ولم تزل عندهم تقديم نماذج نظرية وأدبيات حزبية سياسية تنطوي على شعارات صاخبة وذات جلبة وضجيج وكفيلة بأن تغطي على فراغها من برامج تنموية ترتفع باقتصاد البلاد ومستوى دخل الفرد وأمنه الاقتصادي ورفاهه، بينما يغلب عليها الجانب الدعوي الحزبي والإيديولوجي وقلما قاربت ظروف مجتمعها وحاجاته التنموية والسياسية، سوى ما حملته من شعارات كبرى، تختفي في ثناياها تفاصيل ضرورية لتكامل البنية النظرية وصحتها.
لقد أراد الإخوان المسلمون تسويق أنفسهم كمستوحين لتاريخ الخلافة الإسلامية بالذهاب إلى الجمع بين السياسي والأخلاقي القيمي الإسلامي ولكنهم لم يقدموا سوى إطار خارجي، لأن تاريخ الخلافة متباين وقام على غلبة العصبية العشائرية ولم يمثل قيماً سياسية عصرية، ففشلوا فشلاً ذريعا لاقتصارهم على النظري الملتبس وتأجيج خيالات الأتباع بوهج الأيديولوجيا الدينية والوعد بسلطة إسلامية عادلة، أعوزهم العثور على نماذجها العادلة سوى في مسيرة الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ، على حين أهملوا الحاجات الضرورية والتنموية فظل مشروعهم فكرياً نخبوياً ومتعالياً ولم ينجحوا باستقطاب العامة التي ترفض أن تتغذى بوعد الجنة والملكوت وتحتاج لمشاريع تنموية حيوية على أرض الواقع، وقلّد الحزب القومي السوري الفكرة النازية وعزل بلاد الشام التاريخية وميزها عن محيطها بأبعاد تاريخية وثقافية، ترجع لأيام الإغريق وتمتد إلى الحاضر وتمزج المادية بالمثالية ثم خططت لانقلاب عسكري في لبنان، يقفز فوق التاريخ والواقع انتهى بإعدام قائدهم التاريخي جورج سعادة وثلة من رفاقه وهزلت مكانتهم وبالكاد يُرى لهم أثر في لبنان وسوريا.
أما الشيوعيون فاتبعوا الاتحاد السوفييتي وجعلوه مرجعهم ودليلهم ومضوا خلف استراتجيته الأممية منقطعين عن واقعهم بالفكر والعمل ولم يستطيعوا قيادة الجماهير وتحولوا إلى شتات فضلة أحزاب بعد سقوط المثل السوفييتي والمنظومة الاشتراكية. واستعار البعثيون المؤسسون اسم البعث الأوروبي فبنوا دولاً انتقالية ناقصة السيادة في العراق وسوريا وسموا بلدهم قطراً، ليكون جاهزاً للالتحاق بدولته العربية الأم الشاملة، حينما لم يكن العرب جاهزين ولا ظروفهم ناضجة، فسقط شعار الوحدة وترهل الفكر القومي وصار لكل دولة عربية تاريخها ورؤيتها وثقافتها ويكاد لا يجمعها مع بقية العرب سوى اللغة والماضي المشترك.
في الواقع كانت هذه حالة اغتراب للوعي واستلاب له، وكان طبيعياً أن تظل السياسة نخبوية شعاراتية، وحتى حين استقطب نموذج عبد الناصر القومي التحرري جماهير واسعة، لم يخرج عن حالة استلاب وعي جماعات اتخذته رمزاً وقدوة وظلت مرتبطة بكاريزما القائد الفرد ولم تتجذر في مشروع استراتيجي نهضوي، مما سهل على خلفاء عبد الناصر استئصاله وتعميم ليبرالية مبتذلة. ولعل الاستلاب الأخطر والذي ستعاني منه المنطقة العربية والإقليمية طويلاً، هو الذي تأسس وتوغل مع تصدير الثورة الإيرانية الولائية التي استلبت قسطاً هاما من الشيعة العرب وغيرهم وجندتهم في شبكة أخطبوطية لفرض هيمنتها الاستراتيجية وامتصاص خيرات شعوبها وطاقة شبابها وتوظيفها في بناء إمبراطوريتها الفارسية بغطاء ديني ولائي، تُخضع الرافضين بقوة السلاح لمركز قم الذي يحركها بتكتيك يحرك الأذناب ويخبئ الرأس المدبر الذي تحاشى أن يدخل حربا شاملة، منذ أن تجرع الخميني سم ثماني سنوات من حربه مع العراق 1988. ثم بعد هيمنة شيعة إيران الذين عادوا إلى العراق على الدبابات الأميركية وهمشوا سنته، عاد صدام حسين ليكون نموذجاً، يستلب وعي قسط من سنة العراق وخارجه.
ولكن المجتمع السوري الذي بدا كأنه ركن للقمع واعتاد على الخضوع والاستلاب، لم يلبث أن قدح زناد لحظته المناسبة، عن ثورة عام 2011 التي أكدت أن السوريين شعب حيٌّ، يزخر بالطاقات النضالية وبالتوجهات الفكرية والسياسية وترك تلك الأحزاب الهرمة خلفه ومضى. وبعد أن فتكت الدول والقيادات التابعة بثورة السوريين وحشوها بتنظيمات ملغومة بتطرفها وتسخيرها لمصالحها، بات الوضع السوري عالقاً بين الدول فكان لابد من صيحة جديدة تنبه الغافلين إلى ضرورة النهوض والمتابعة، وملاقاة حراك السويداء الذي صار من حقه الدخول إلى موسوعة (غينس) كظاهرة فريدة في تنظيمها واستمرارها وتعدد أصواتها واجماعها على الهدف الاستراتيجي الوطني الجامع.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا