هل كانت الثورة السورية حدثاً محلّياً؟

مصعب الحمادي

عندما تظاهرنا ضد النظام في شوارع قلعة المضيق وبانياس والقامشلي، كنا نعتقد أننا نتحدى حكومة فاشلة من حكومات دول العالم الثالث، ولم ندرك أننا كنا نهزّ النظام العالمي برمّته. ولولا أننا لم ننتقل للعيش في المنافي الغربية لبقيت هذه الحقيقة عصيّة على أفهامنا.

فعندما وصلنا باريس مثلاً، هرباً من بشار الأسد، وجدنا عمّه رفعت – بطل مذبحة حماة – يعيش فيها عيشة الملوك، منَعّماً بالمال السوري المسروق، ومتوّجاً بأوسمة الشرف الفرنسية. وتساءلنا على الفور “لماذا؟”

وفي الوقت الذي انبهرنا فيه بمظاهر الحضارة في العواصم الأوروبية المختلفة، رحنا نكتشف مع الوقت كم تميل هذه العواصم إلى إقصائنا، وتهميشنا، بل وقتلنا معنوياً إن أمكن. فاللجوء الذي منّت به علينا بلدان أوروبا، وأعطتنا بموجبه الحماية الأمنية والسياسية، لم يقرّبنا أبداً من المساواة الحقيقية مع مواطنيها، وخصوصاً المساواة في العمل وتكافؤ التمثيل والفرص. ووجدنا وسائل الإعلام هنا على خصومةٍ غير مفهومة مع ما نمثّله من ثقافةٍ وحضارة، ما انعكس على المواطنين العاديين في الغرب الذين تشكلت لديهم صورة نمطية مرذولة عنّا، صرنا نحسّ بها أكثر كوننا انتقلنا للعيش بينهم.

لكن لماذا وجدنا الغرب رافضاً لنا، حريصاً على تجاهلنا؟ من المنظور الفرويدي لا بُدّ من قتل الأب، وموت العرب والمسلمين معنوياً بإزاحتهم عن مسرح التاريخ حتى تتمكن الحضارة الغربية من إثبات براءتها من الاقتباس والتعلّم، بل والسرقة العلمية والأدبية من حضارة العرب وتراث الشرق ومخطوطاته.

عند هذه الزاوية الفرويدية تبرز للوجود حلقة وصل مهمّة بين نظام الأسد الذي تحدّيناه والغرب الذي تواطأ معه: كلاهما يرغب في إبقائنا راكدين وعلى الحالة الساكنة التي كنا عليها. فما كنا نطالب به من مساواةٍ وعدالة وكرامة ممنوعٌ علينا حتى لا نلحق بحضارةٍ مازلنا في مخيالها الجمعيّ العدوّ الأول، وفي أعماقها السيكولوجية مصدر الخطر والتهديد، منذ الصدام الأول مع الإسلام في القرن السابع، وصولاً للحروب الصليبية، وليس انتهاءً بالعصر الذهبي للعثمانيين يوم كانوا يخوّفون أوروبا برمّتها. لكن الدائرة الأحدث من الصراع انتهت لصالح الغرب. ونظام الأسد – الذي تكون جنينيّاً خلال الاحتلال الفرنسي لسوريا – هو أقرب للغرب منه للشرق، بل هو “الهدية المسمومة” – بلغة برهان غليون – التي قدمها لنا الغرب حتى قبل أن تنال سوريا استقلالها.

إن حقيقة ارتهان نظام الأسد للغرب تجعله ضمن أركان النظام العالمي الذي هززناه دون قصدٍ منّا في تظاهراتنا السلمية ضد النظام عام 2011. وما طالبت به ثورتنا من مساواةٍ وعدالة وكرامة وضعَنا على طرفي نقيض مع ذاك النظام العالمي، وهو ما أعطى الثورة السورية منذ البداية بعداً تحررياً عالمياً، وهو بعد حقيقي وليس زائفا، وواقعي تثبته سياسات الدول الغربية، وليس عملاً من نسج خيالنا. فعندما كان الجيش السوري الخائن يرمينا بقنابل الموت من السماء ويزيل مدناً وقرى عن الوجود، كانت هناك شركاتٌ غربية تبيع المواد الكيميائية لنظام الأسد، وتغذّي الآلة العسكرية المجرمة للجيش الأسدي. ومن بين الدول الغربية من أرسل للقصر الجمهوري مستشارين وخبراء للمساعدة في قمع الثورة. وفي الوقت الذي طُردنا فيه من مدننا وقرانا، ونُفينا عن أوطاننا، واحتُلت بيوتنا وأراضينا، احتفظ نظام الأسد بمقعده كممثّلٍ لنا في الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى، التي هي أساساً صناعة غربية. فالأسد ما يزال عضواً في النادي الدولي. الشعب هو الذي تشرّد وضاقت به الأرض بما رحبت.

وهكذا فعندما أمشي اليوم في شوارع لندن أو باريس أو بروكسل بينما تكون أفكاري سارحةً في شوارع دمشق أو حلب أو اللاذقية، لا أستطيع أن أمنع نفسي من الإقرار أن هذه العواصم التي أتشرد فيها أنا وكثير من أبناء بلدي سوريا لها دورٌ فيما نحن فيه من تشرّد. وهي متواطئة في محنتنا وراضية عن النتيجة التي انتهت إليها ثورتنا حتى الآن. لم أعد أقتنع أبداً أن الثورة السورية حدثٌ محلّي وقع – وربما انتهى – في سوريا. بل هي حركة عالمية في جوهرها تعبّر عن كثيرٍ من الناس في عالم اليوم الذي يهيمن عليه الغرب، بمن فيهم قسمٌ كبير من المواطنين الغربيين أنفسهم. فالثورة السورية من هذا الباب ما تزال حاضرة لدينا ومتقدة بألهبتها حتى ونحن نعيش في المنافي بعيداً عن سوريا. لقد صارت الثورة منهج تفكير سياسي ونافذة مشرّعة للنظر إلى العالم بطريقةٍ جديدة، تتخطى عالمنا السوريّ الصغير الذي هربنا منه. إن ما بدأ في شوارع قلعة المضيق وبانياس والقامشلي له تكملةٌ في لندن وباريس وبروكسل، طالما أن الأسد ما يزال في السلطة.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى