تقدم لنا اليوم، حرب غزة (الشهيدة) آخر البراهين التي جهدنا في البحث عنها طوال قرن من الزمن، منذ بدء تشكل كياناتنا الوطنية، للتثبت من موضوعية وعلمية وانسانية الحضارة الغربية، وخاصة المستوى السياسي منها.. ومحتواها من الفكر والقيم والمفاهيم التي صدرها لنا الغرب، والتي سلمنا بمركزيتها ونموذجيتها، منذ امتلاكنا الوعي بذاتنا كشعوب حققت استقلالها الاول عن الدولة العثمانية ومن ثم عن الاستعمار الفرنسي والإنجليزي الذي ما لبث، ان احكم قبضته علينا، بعد رحيل العثماني عنا، مهيمنا على عموم اوطاننا وشعوبنا…تحت دعاوى الانتداب للتطوير والتمدين، مشكلا بذلك منذ حينها الوجه الاخر لهذه الحضارة ….
لقد كانت الفجوة هائلة بين ما برهنته اخيرا حرب غزة لنا، وبين أحد وجوه الثقافة الحديثة التي صارعنا من اجل تَمَثُلها.
مئة عام مضت، ونحن ننوس بين ثقافة الماضي وثقافة الحاضر والمستقبل، ونتصارع فيما بيننا فكريا وثقافيا وسياسيا، علنا نمسك بالنهج الاوحد الذي يُمَكّننا من ولوج عصر الحداثة اسوة بحداثة الغرب وحضارته فنحقق حريتنا واستقلالنا وسيادتنا، لكن الاستقرار والنمو المستدام والاستقلال والسيادة الحقيقية لم يعرفوا الينا سبيلا، فقد كنا نتقدم، ولكن لندخل بعدها في نكبة، ثم في هزيمة ثم في نكسة ثم في ازمة يليها ازمات متتالية …وهكذا …
حتى إذا ما اتى الربيع العربي…. وكاد ان ينقلنا الى فضاء هذه الحضارة التي حلمنا بها، واذ بالمشهد الواقعي يجسد لنا ساسة هذه الحضارة ودعاة حقوق الانسان والديمقراطية فيها، مثالا للخداع والكذب والنفاق والبراغماتية…وشكلا منمقا للاستبداد والدكتاتورية، يعبر عن جوهر وحقيقة فلسفة وثقافة هذه الحضارة التي كنا نلهث خلفها….
لقد كان المشهد في غزة الشهيدة …كافيا ليظهر لنا هذا الغرب السياسي عاريا تماما بلا ورقة ستر على الاطلاق….. وهو يدير نظاما دوليا ارعنا يطحن كل ما يعترض هيمنته وسطوته…
مشهد تفوح منه رائحة دم الشعوب المكافحة الطيبة وتفضح عنجهية هذا الغرب وصلفه وتوحشه…
شعوب لا تعني بالنسبة له سوى ادوات يدير شؤونها مُخضعا حركتها ومسار حياتها لإرادته ومصالحه، وجشعه، كي تبقى بالنسبة له مادة يسرق منها نسغ حياته واستمراره وديمومته…
لكن معارك غزة من جانب اخر، الى جانب معارك ربيعنا العربي، منحتنا الفرصة التاريخية لكشف هذا الغرب ونهجه الاستعماري العولمي المافياوي الناعم، الذي كان ولازال يعمل وفق منطق اخضاع الشعوب والهيمنة على مقدراتها بكل اساليب المراوغة والخداع …. ومنحتنا ايضا فرصة التثبت من الحقيقة عندما وجد هذا الغرب نفسه امام حائط مسدود ممثلا بزعيمه السياسي الديمقراطي بايدن، الذي لم يعد امامه من بد الا ان يصرح، ان اسرائيل الاحتلال لو لم تكن موجودة لأوجدناها……؟؟؟؟!!!!
ويصرح مبتهجا ايضا…؟؟؟؟!!!!! ان اسرائيل وافقت على ترحيل مدنيي رفح قبل استباحتها من قبل جيش المافيا الاسرائيلية…؟؟؟؟!!!!غير مكترث بثلاثين ألف شهيد، وسبعين ألف مصاب وجريح، وبنية تحتية مدمرة تماما، لمجتمع يعد 2.5 مليون انسان، مضافا اليها 90% من العمران في القطاع بات خرابا……مستهترا ولامباليا بكل العيون والافئدة والقلوب البشرية التي تشخص نحو مذابح غزة….
أخيرًا..وحيال كل ما تقدم. حري بنا نحن الشعوب المقهورة والمُذَلَّة.. ان يدفعنا ذلك لكي ننهج مسارا مختلفا في النضال من اجل الحرية وان نعمل على الاستثمار في هذه الفرصة التاريخية فنرفع الوية المقاومة لهذا النظام الدولي البربري الذي عرته حقبة الربيع العربي وحرب غزة المستمرة …ولنعلن الى جانب الشعوب المكافحة الاخرى
الحقبة القادمة، حقبة المقاومة لهذا النظام وازالته من المشهد البشري الى مزابل التاريخ والى الابد.