ذكر العقيد المتقاعد في الجيش البريطاني، ريتشارد كيمب، في جريدة الغارديان، ” ان ما حدث لقوات النخبة الإسرائيلية، لواء الجولاني، وانسحابه من غزة بعد ان تعرض لخسارة 45% من معداته، وقتل المئات من ضباطه وافراده، امام كتيبة من كتائب حماس في حي الشجاعية في غزة، يعد معجزة كبيرة. فمن غير المعقول ان يواجه افراد ومجاميع يمتلكون أسلحة بدائية، لا تقارن بما يمتلكه اقوى جيش في الشرق الأوسط، برا وبحرا وجوا، ويقف خلف هذا الجيش اقوى حلف عسكري، وهو حلف الناتو، وبمساندة قوات على الأرض من دول حلف الناتو، خروج لواء الجولاني من المعركة وانسحابه من غزة، ان لم يكن فرارا. اذ تشير التقارير بان افراد وضباط اللواء يفرون من ارض المعركة. إذا ما الذي يمتلكه مقاتلو حماس؟؟؟ وما هذا الصمود المذهل؟؟ ومن اين تأتيهم الشجاعة ورباطة الجأش؟؟؟ إسرائيل في حالة جنون، ومن يقف خلفها في حالة من الحيرة. اذ لم يبق في مخزونهم ومستودعاتهم غير الأسلحة النووية، لضرب مجموعة صغيرة ضربت أروع البطولات، التي لا يمكن ان تقاس، حسب الموسوعة العسكرية المعروفة. إسرائيل لم تعد تدري ما ذا تفعل، وامريكا واروبا واصدقاؤهم من العرب، يبحثون عن طرق جديدة للتخلص من ورطة حماس، حتى وان انتهت حماس وغزة، أنى ارفع قبعتي تحية لمثل هؤلاء الابطال، الذين رفضوا كل الاغراءات والعيش الرغيد مقابل بيع مبادئهم”
ويؤيد ما ذهب اليه الكاتب البريطاني، شاهد من اهلها. حيث أخبر ضابط كبير في صفوف الجيش الإسرائيلي، صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية، عبر خط تلفوني مشفر، “قواتنا تسير بحذر بين منازل مفخخة، وأن انتحاريين بأحزمة ناسفة يركضون نحو القوات ويفجرون أنفسهم” وأشار أيضا إلى أن “كل لحظة يوجد صدام، كل ساعتين تقريبا توجد محاولة من انتحاري او انتحارية، يركضون نحونا ليتفجروا بحزام ناسف.. حماس تحاول جر الجيش الإسرائيلي إلى المناطق السكنية أكثر، وفي ظل هذا الوضع، يضيف هذا الضابط، فإن القوات في الميدان لا ترى حقا النهاية حتى الآن.. نحن لم نستكمل الأهداف، ما دمنا لم نتمكن من معالجة تعاظم حماس، فسنضطر إلى البقاء هنا”.
اما المحلل الإسرائيلي نيتسان سادان، المتخصص بشؤون الطيران، فقدم قراءة لأسباب صمود المقاومة الفلسطينية، وقدرتها على الاستمرار في إطلاق الصواريخ من غزة، رغم ضراوة القصف الصهيوني. موضحا “ان صواريخ المقاومة منتشرة على مساحة واسعة في غزّة، وبطريقة تجعل من الصّعب تحديد مكان كل منصة إطلاق. كما أن الإطلاق يتم بواسطة أجهزة تحكم عن بُعد، ما يتيح لهم إطلاق الصواريخ من مواقع مخبأة، تعمل بشكل مستقل عن أنظمة القيادة والسيطرة. والمقاومة تعمل بحكمة للاستمرار في إطلاق النار لأطول فترة ممكنة. فهم يختارون متى يركزون جهودهم ويطلقون المزيد من الصواريخ”. وأضاف المحلل الصهيوني، “ان المقاومة تقوم بتوظيف إطلاق الصواريخ بما يخدم أغراضًا دعائية، إذ تعمل المقاومة على منح مؤيديها الثّقة في قدرتها على مواجهة الجيش واستنزافه”. بل حتى أمريكا نفسها، فقد اعترف المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، في مؤتمر صحفي، يوم الأربعاء الماضي، بقوله “إن القضاء على حماس كفكرة أصبح امرا مستبعدا، وإنها ليست مجرد مجموعة من الإرهابيين ليتم القضاء عليها عسكريا.” ويوم أمس، الاحد، قالت القناة 13 الإسرائيلية، “ان الولايات المتحدة تضغط للحصول على موافقة نتنياهو، على وقف لإطلاق النار لأكثر من أربعة أشهر، تتضمن تبادل الأسرى من مرحلتين مع حركة حماس” وهذا يعني من جهة، اعتراف علني بحركة حماس، والمقاومة في غزة، بدلا من وصفها بمجموعات إرهابية، ومن جهة أخرى ان الكيان الصهيوني لن يتمكن من هزيمة المقاومة على الاطلاق.
الحيرة هي السمة المشتركة في متابعات عشرات الكتاب والعسكريين والخبراء للقيامة في غزة، والصمود الأسطوري للمقاومة، وهي لم تأت من فراغ، بل من حقيقة صلبة على الأرض، تشاكس القراءة النمطية لموازين القوى في المنطقة، ومقولات من مثل حتمية التفوق الصهيوني وهزيمة المقاومة. ولعل انقلاب المشهد بالضد من مخططات الكيان الصهيوني، ومحاولات ترسيخ سيكولوجية الهزيمة، وتقزيم الذات لدى شعوب المنطقة، وفي المقدمة، الشعب الفلسطيني، يتضح فيما يقدمه الناطق باسم المقاومة أبو عبيدة من بيانات، عن سير العمليات القتالية موثقة بالأفلام، التي تغلق تماما باب التشكيك في تفوق المقاومين بسلاحهم البسيط على ترسانة الأسلحة الاستثنائية للكيان الصهيوني في المنطقة. ولعل من المفيد هنا الإشارة الى الأفلام، التي توثق جانبا من استعدادات المقاومة لإدارة المعركة، والتي تتحدث، على سبيل المثال، عن مجموعات الاستشهاديين التي تولت القتال من نقطة الصفر. وأيضا عن الكمائن المحكمة في المناطق المفتوحة خلف قوات العدو، وزرعها بعبوات وألغام تنفجر بمجرد الضغط عليها، وكيف أربكت صفوفه وقتلت العشرات من الجنود والضباط في كل معركة، وكيف أخرجت من المعارك الوية النخبة بعد ان دمرت، باعتراف العدو، أكثر من خمسين في المئة من قوتها، مثل لواء الغولاني المشهور، بخبرته في قتال المدن والشوارع. وقد شاهد العالم نموذجا منها في عملية الشهيد محمود الريفي، الذي كان مرابطا في جبل الريس شرق مدينة غزة لعدة أيام، معتمدا في طعامه على الماء والتمر، ليباغت القوات الخاصة الصهيونية، التي توغلت في المنطقة واستطاع تفجير عدد من العبوات المضادة للأفراد، لتقصفه طائرة أباتشي وهو يحمل اسيرا مجروحا.
وفي الإطار نفسه، تحدث أبو عبيدة، عن أسلوب حرب عصابات جديدة، أعدتها الوحدات الخاصة في كتائب القسام، تقوم خلالها مجموعة من الاستشهاديين المدربين تدريبا خاصا، بالانفراد بمجموعة من القوات البرية الإسرائيلية، عبر إشغال المجموعات الأخرى بقصف مكثف بقذائف الهاون، وإشغال الطائرات بإطلاق المضادات الأرضية من قبل سلاح المدفعية والدفاع الجوي. وتحت تغطية كثافة النيران، تتمكن المجموعة الاستشهادية من مهاجمة القوة المحاصرة، وزرع العبوات المختلفة بين أرتال الدبابات والمدرعات الصهيونية، والانسحاب بسلام في معظم الأوقات”. وتحدث عن فرق استشهادية أخرى تخرج من كمائنها وتخترق ارتال الدبابات بصواريخ محلية الصنع، تم زرعها مسبقا بشكل خفي في المناطق الفارغة، ويتم التحكم بها عن بعد. ومن بين الوسائل التي تستخدمها المجموعات الاستشهادية لمفاجأة القوات البرية، اختباؤها داخل طرق وأنفاق لم تكشفها قوات الاحتلال، قبل تسللها وانقضاضها على هذه القوات من الخلف، وحتى الانواء الجوية طوعتها المقاومة لصالحها. فالمجموعات الخاصة تتسلل ليلا، وتستغل الضباب الكثيف بغزة، لتقوم بزرع العبوات الخاصة بتفجير الدبابات، ومن ثَمَّ الانسحاب بأمان دون اكتشافها من جانب العدو. ولفت أبو عبيدة، إلى أن هذه الكمائن نفذت عشرات العمليات ضد القوات الصهيونية، المرابطة شرق قطاع غزة وشماله. وذكر مثالا لذلك، بما حدث في بلدة بيت لاهيا شمال غرب قطاع غزة، حين تمكن مقاتل استشهادي من تسلق دبابة صهيونية وتفجير نفسه داخلها. إضافة إلى أنه بات لدى هؤلاء المقاتلين القدرة على استدراج قوات صهيونية خاصة لمنازل خالية، وإغرائهم باعتلاء أسطحها التي تم لغمها، ومن ثَمَّ تفجير المنزل على من فيه.
اما سلاح الصمت، فيذكر الدكتور عبد الستار قاسم – أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية – أن أكبر مفاجآت حماس في الحرب الجارية “الصمت والتأني” ما مكنها من النجاح في الحفاظ على سرية عملياتها، وكذلك سرية المفاجآت التي وعدت بها؛ بحيث تخرجها واحدة واحده وفي الوقت الذي تحدده هي. وليس كما اعتدنا ألا يكون هناك أسرار، بسبب الجواسيس الذين زرعهم الكيان. والى جانب ذلك، فإن المقاومة اعتمدت أساليب أخرى ضمنت لها سرية عملياتها. مثل نشرها شبكة اتصالات خاصة بها، منفصلة عن شبكات الاتصالات المحلية المعروفة، حتى لا تكون محلا للاختراق والتجسس. كما أن سلاح الحرب النفسية كان حاضر بقوة في أداء رجال المقاومة، مشيرا في ذلك إلى تبادل الدعابة والمرح، على الموجات اللاسلكية، التي يعلمون أنها تصل إلى آذان جنود الاحتلال. حيث يتهكمون عليهم، متوعدين بجلبهم أسرى إلى صديقهم جلعاد شاليط ليؤنسوه.
بهذه الاعترافات والقراءات والتحليلات والمعلومات، من قبل الخبراء العسكريين والمحللين السياسيين من الأصدقاء والاعداء، يمكن الاستنتاج، بان نظرية الجيش الصهيوني الذي لا يقهر قد اسقطت، على الرغم من محاولات الكيان المسخ، والاعلام الغربي الاستعماري، ترسيخها على مدى سبعين عاما في العقل الفلسطيني خاصة والعربي عامة، ليسقطها هؤلاء الابطال في الساعات السبع الأولى من بدء الهجوم. مما شكل صدمة لحكومة الكيان الصهيوني، دفعها لإعلان حالة الحرب لمواجهة هجوم، يعد الأول من نوعه داخل الأراضي المحتلة. خاصة بعد ان فرض المقاتلون الفلسطينيون السيطرة الكاملة على عدد من المستوطنات ومعسكرات الجيش الصهيوني وفرقة غزة العسكرية، ليمتد الى القدس وتل ابيب. بل ان أمريكا ذاتها، الدولة الأقوى في كوكبنا، فقدت صوابها جراء الرعب الذي انتابها، على مستقبل وجود الكيان الصهيوني واحتمال هزيمته. وخير دليل على ذلك، تحريك حاملة طائرات باتجاه المنطقة، والتهديدات التي أطلقتها ضد عملية طوفان الاقصى. إضافة الى توسلها بحلفائها في دول الغرب الاستعماري والمنطقة، لإجبار قادة حماس على وقف الحرب.
بالمقابل اكدت هذه المعركة المشرفة، تمسك الشعب الفلسطيني بالثوابت الوطنية، والقتال من اجل استعادة حقوقه المشروعة، وفي مقدمتها إقامة دولته على كامل التراب الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، مثلت هذه المعركة القيم السياسية غير القابلة للتنازل، او حتى الجدال حولها. ولأنها كذلك، فان الشعب الفلسطيني، يعود ليقاتل من اجلها، مهما طال الزمن وغلت التضحيات، كما قاتل الشعب الجزائري الاستعمار الفرنسي طيلة 132 عاما. وقاتل الشعب الفيتنامي الاستعمار الأمريكي. وكذلك اللبناني والصومالي، وأخيرا شعب أفغانستان. اما المقاومة العراقية، فقد مرغت انف جنود الاحتلال الأمريكي بالتراب في مدينة الفلوجة. وحتى لو تمكن الكيان الصهيوني من الصمود امام مقاومة الشعب الفلسطيني عقودا أخرى من الزمن، سيقف عاجزا على اجبار هذا الشعب الجبار على الاستسلام للأمر الواقع. بمعنى اخر، فان محاولات هذا الكيان المسخ، اجبار الشعب الفلسطيني على الاستسلام، ستبوء جميعها بالفشل. وكما يقال “إذا عجز الشعب الفلسطيني عن المقاومة فالحجر سينطق ليقاوم”.
ان المقاومة الفلسطينية، ماضية في القتال منفردة وصابرة على البلوى، ومصرة على الدفاع عن أرضها، والوقوف بوجه الكيان الصهيوني، وكل من يقف خلفه، مهما امتلك من قوة. ومن يعتقد ان المقاومة ستهزم، سيرى في النهاية من سيهزم، ومن سيخضع للأخر. خاصة وان الجيش الصهيوني يعاني اليوم من حالة رعب وخوف من المقاتلين الاستشهاديين من جهة، وعدم تحقيق نصر ملموس من جهة أخرى. فالدمار والخراب الذي الحقه الصهاينة في غزة وقتل عشرات الألوف من الأبرياء، لا يعد نصرا، وانما يعد جريمة إبادة جماعية. لقد وفر الصهاينة على المقاومة الفلسطينية جهدا كبير بدخولهم أراضي غزة. حيث لن يحتاج المقاتلون الى اختراق غلاف غزة، والسياجات الأمنية الاستثنائية، للوصول الى القوات الصهيونية، فهي أتت برجلها كما يقال الى ارض القتل، لتواجه من القتل أشرسه، ومن اسلحتها المبتكرة اليوم، وصولا الى ما ينتظرها في الغد من مفاجئات سيصيب قادتها بالجنون.
باختصار، ليس جديدا على مدينة غزة الصمود في وجه الكيان الصهيوني، ووحشية ماكنته العسكرية، وهمجية جنوده، وغطرسة قياداته. وجرائم مستوطنيه، وبشاعة مجتمعه. فغزة عبر تاريخها، درس موجع في كتاب الغزاة. واليوم حان لها ان تقطف من شجرة الوقت الفجر كله.
قراءة وتحليل موضوعي للحرب بغزة ، والمعجزة التي صرح بها العقيد المتقاعد البريطاني “ريتشارد كيمب” لما أصاب لواء الجولاني ، إنها تكتيكات مدروسة بخبرة دولية من الفلسطينيين والعرب المؤمنين بالقضية الفلسطينية جمعوها من كل أنحاء العالم ، إنطلاقاً من الإيمان بعدالة قضيتهم وأحقيتها، ليس جديدا على شعبنا الصمود في وجه الكيان الصهيوني، ووحشية ماكنته العسكرية، وهمجية جنوده،