من أجل تحقيق السلام الدائم، يجب على إسرائيل إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية. مع دخول الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الرابع، دار نقاش مستفيض حول الطرف الذي يجب أن يتولى الحكم في القطاع عند وقف القتال. اقترح بعضهم تشكيل قوة عربية، وهي فكرة سبق أن قوبلت بالرفض من مصر والأردن ودول عربية أخرى، فيما اقترح آخرون إعادة بناء سلطة فلسطينية، متجاهلين حقيقة أن أقل من 10 في المئة من الفلسطينيين سيؤيدون مثل هذه النتيجة وفقاً لاستطلاع رأي فلسطيني حديث. أما الاقتراح الثالث، فيتلخص في وضع غزة تحت السيطرة الدولية، وهي مقاربة رفضتها إسرائيل خوفاً من أن يشكل هذا سابقة [يمكن تطبيقها مجدداً في مواقف أخرى في المستقبل].
ولكن هناك سبباً أهم يجعل هذه الحلول المتصورة محكومة بالفشل، وهو أنها تتعامل جميعها مع غزة بصورة منعزلة، وكأنه من الممكن معالجة هذه المسألة من دون النظر إلى القضية الأكبر المتمثلة في قيام الدولة الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وفقاً لطريقة التفكير هذه، فإن استئصال حركة “حماس” وتحديد الجهة التي ستحكم غزة، سوف يمكنان من إعادة الوضع إلى ما كان عليه في السابق. وكلا الافتراضين خاطئين بصورة جوهرية، وأي سياسة تعتمد عليهما ستؤدي إلى كارثة.
ومن أجل التوصل إلى حل حقيقي دائم، لا بد من رسم مستقبل لغزة يكون مدمجاً ضمن نهج أوسع نطاقاً يشمل جميع الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية. ويتعين على هذا الحل في النهاية أن يعالج السبب الجذري للعنف اللامتناهي، وهو الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية وغزة والضفة الغربية. واستطراداً، أظهرت أعوام من المفاوضات الفاشلة ما ستتطلبه مثل هذه الخطة حتى تنجح، فخلافاً لعدد من الخطط السابقة، يجب أن تكون هذه الخطة ذات مصداقية ومحددة بفترة زمنية، ولا بد من أن يكون الهدف النهائي في حد ذاته واضحاً منذ البداية.
إن إرساء مثل هذه العملية الشاملة سيتطلب جهوداً استثنائية، إلا أن أي بديل آخر سيكون أسوأ بكثير. لقد أودت الحرب القائمة بحياة أعداد كبيرة من المدنيين، ودمرت غزة، وقوضت كذلك من أمن إسرائيل والدعم الدولي لها، إضافة إلى تحول 1.5 مليون فلسطيني آخرين إلى لاجئين، وما يفرضه ذلك من تهديد وشيك بمواجهة مزيد من الفلسطينيين لتهجير جماعي آخر خارج أراضي أجدادهم. لذا، فإن العودة للنماذج القديمة في التعامل مع القضايا التي تنشأ بعد وقف الحرب لن تؤدي إلا إلى تكرار هذه الكوارث مرة أخرى.
الهدف النهائي المفقود
لفهم مدى تعقيد أزمة ما بعد الحرب، من الضروري أولاً أن ندرك أن الصراع الحالي لم يبدأ بالهجوم الذي شنته “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وهو لا يقتصر على غزة وحدها. فعلى رغم أن القضية الفلسطينية بدأت مع حرب عام 1948 التي جُرِّد فيها ما يقدر بنحو 750 ألف شخص من منازلهم، ومع ذلك، فإن نقطة البداية الأكثر صلة بالوضع الحالي هي حرب عام 1967 التي أدت إلى احتلال إسرائيل لغزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وأسفرت عن ظهور ما يقدر بنحو 300 ألف لاجئ فلسطيني جديد. كذلك، كما أنها تمثل البداية لعقود من الجهود الرامية إلى إنهاء الاحتلال وإقامة مستقبل مستدام للفلسطينيين [دولة فلسطينية تتوافر فيها مقومات البقاء والاستمرار في المستقبل].
كانت أول محاولة من هذا القبيل هي القرار رقم 242 الذي اتخذه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1967. وعلى رغم أن القرار أشار إلى “عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب”، إلا أنه لم ينص على إقامة دولة فلسطينية منفصلة، وعوضاً عن ذلك، كان من المفترض وضع غزة تحت السيطرة المصرية، والضفة الغربية تحت السيطرة الأردنية. علاوة على ذلك، لم يحدد القرار إطاراً زمنياً لإنهاء الاحتلال، واكتفى بالدعوة إلى عملية سياسية مفتوحة وغير ملزمة. وجرت مفاوضات غير مباشرة بين الأطراف الأردنية والمصرية والإسرائيلية عبر وسيط تابع للأمم المتحدة، من دون التوصل إلى أي نتائج.
وبعد عقدين ونصف من الزمن، نجح مؤتمر مدريد الذي بادر إليه الرئيس جورج بوش الأب عام 1991 في أعقاب حرب الخليج الأولى، في إحضار الفلسطينيين أخيراً إلى طاولة المفاوضات بصورة مباشرة. ومع ذلك، مرة أخرى، ظلت الأهداف النهائية للمؤتمر غامضة، ما خلا الإشارة إلى القرار 242 الذي فسرته إسرائيل بطريقة مختلفة تماماً عن تفسير المجتمع الدولي. (على رغم أن القرار دعا إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة، إلا أن تل أبيب لم تفسر ذلك على أنه يعني الانسحاب من كل هذه الأراضي، بل الانسحاب فقط إلى ما سمته حدوداً آمنة لم تحددها قط [أي الحدود التي تعتبرها إسرائيل ضرورية لسلامتها وحمايتها]). وحتى بعدما بدأ الفلسطينيون بالتفاوض بصورة منفصلة مع إسرائيل بمجرد وصول رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين إلى السلطة في يونيو (حزيران) 1992، لم توضح العملية قط أن هدف المفاوضات هو إقامة دولة فلسطينية منفصلة.
ثم جاءت اتفاقيات أوسلو عام 1993 التي نالت الشهرة الأوسع ربما بين كل جهود السلام المبذولة. آنذاك، لم يقتصر الأمر على اعتراف الجانبين ببعضهما بعضاً وإنشاء سلطة فلسطينية موقتة في غزة وأجزاء من الضفة الغربية فحسب، بل إنهما أسسا أيضاً لعملية مفاوضات نحو السلام الدائم مدتها خمسة أعوام. لكن وعلى رغم أن العملية كان من المفترض أن تؤدي إلى حل دائم للصراع، فشل الطرفان في تحديد ماهية هذا الحل. بعبارة أخرى، لم يُحدَّد هدف نهائي واضح منذ البداية. فضلاً عن ذلك، فإن اتفاقيات أوسلو لم تجمد النشاط الاستيطاني، مما يعني أن الجانبين كانا يتفاوضان حول مستقبل الأراضي المحتلة، حتى مع استمرار إسرائيل في تغيير جغرافية هذه الأراضي وتركيبتها السكانية. والواقع أن رابين، في خطابه الأخير أمام الكنيست في سبتمبر (أيلول) 1995، حين صادق البرلمان على اتفاقيات أوسلو 2، أعلن أن هدف إسرائيل هو إنشاء “كيان فلسطيني سيكون أقل من دولة”.
والواقع أن اللاعبين الرئيسين في الصراع لم يتفقا على نموذج الدولتين حتى عام 2000، قبيل انتهاء ولاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون. في ذلك الوقت، عرض كلينتون على الجانبين إطاراً شاملاً يقوم على إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل تستند إلى حد كبير إلى حدود عام 1967، مع ترتيبات خاصة للقدس واللاجئين والأمن. وعندما فشلت المفاوضات حول هذه المعايير في المراحل الأخيرة واندلعت الانتفاضة الثانية، أصبح كل طرف على قناعة بأنه لا يوجد على الجانب الآخر من طاولة المفاوضات طرفٌ آخر مهتم حقاً في السلام [أصبح كل طرف يرى أن الآخر لا يريد السلام]. وفشلت جميع الجهود التي توالت منذ ذلك الحين، بما في ذلك مبادرة السلام العربية لعام 2002، وإطار السلام في الشرق الأوسط [أو ما يعرف بخريطة الطريق للسلام] بين عامي 2002 و2003، ومؤتمر أنابوليس عام 2007، والدبلوماسية المكوكية التي اعتمدها وزير الخارجية الأميركي جون كيري فعام 2013، وهي آخر الجهود الرسمية المبذولة من الولايات المتحدة للمساعدة في التفاوض على تسوية.
على رغم تنوع الأسباب وراء تعثر كل جولة من تلك المفاوضات، إلا أنها عانت بمعظمها ثغرات كبيرة، فهي غالباً ما كانت غير محددة المدة أو فشلت في رسم هدف واضح منذ البداية. وبطريقة موازية، افتقرت إلى آلية مراقبة ذات مصداقية للتأكد من أن الطرفين يفيان بالتزاماتهما خطوة بخطوة نحو التوصل إلى تسوية دائمة. علاوةً على ذلك، في مناسبات عدة، انهارت المفاوضات بسبب خلافات حول الهدف النهائي، وليس حول الخطوات اللازمة لبلوغ هذا الهدف.
من الفشل إلى الكارثة
بالنسبة إلى الفلسطينيين، كانت عواقب هذه الإخفاقات مدمرة. فتمكنت إسرائيل من مواصلة النشاط الاستيطاني الذي يعتبر غير قانوني بموجب القانون الدولي، في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية (وحتى عام 2005 في غزة)، فابتلعت الأراضي الفلسطينية وزادت من صعوبة إنشاء دولة فلسطينية مستدامة فيها مقومات الاستمرارية. منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو، ارتفع عدد المستوطنين الإسرائيليين من حوالى 250 ألفاً إلى أكثر من 750 ألفاً، أي ما يقارب ربع السكان في الضفة الغربية والقدس الشرقية بأكملها، في حين أدى التوسع المستمر في المستوطنات إلى تمزيق الأراضي الفلسطينية المترابطة جغرافياً بشكل مطّرد.
وفي خضم هذه المفاوضات الفاشلة، عانت غزة مصيراً قاسياً بصورة خاصة. فعام 2005، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون الانسحاب من القطاع بشكل أحادي، منهياً الوجود العسكري الإسرائيلي المباشر. لكن الحكومة الإسرائيلية شيّدت حاجزاً أمنياً حول المنطقة من أجل عزلها، وبقي القرار حول مَن يدخل إلى القطاع ومَن يخرج منه في يد إسرائيل. كما منعت إسرائيل سكان غزة الفلسطينيين من امتلاك مطار أو ميناء بحري، مما أدى فعلياً إلى عزل القطاع عن العالم واستمرار الاحتلال الإسرائيلي فعلياً على الأرض والذي كانت له عواقب شديدة. وبعدما سيطرت “حماس” بصورة كاملة على القطاع في أعقاب الانقسام الفلسطيني عام 2007 [نشأت حينذاك سلطتان فلسطينيتان، واحدة في الضفة الغربية (حركة فتح) والأخرى في غزة (حركة حماس)]، تدهورت الظروف المعيشية إلى درجة انخفض دخل الفرد في غزة إلى مستويات أقل بكثير مقارنة بدخل الفرد الفلسطيني في الضفة الغربية.
ومع نهاية ولاية باراك أوباما، تخلت الولايات المتحدة تماماً عن المفاوضات بين الجانبين. ومن ثم في عهد كل من الرئيسين دونالد ترمب وخلفه جو بايدن، استبدلت واشنطن جهود صنع السلام بـ”اتفاقات أبراهام”، وهي سلسلة من المعاهدات الثنائية بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، لا تستند إلى صيغة “الأرض مقابل السلام” المستمدة من القرار 242. ولم يكُن للفلسطينيين فيها أي دور على الإطلاق. وافترضت إدارة بايدن، خصوصاً، أنها إذا شجعت التعاون الإقليمي، فإن السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين يمكن أن ينتظر إلى أن يحين وقت أنسب. وفي المقابل، استخدمت الحكومة الإسرائيلية الاتفاقات للقول إنه لم يعُد من الضروري التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين في وقت صار بإمكانها إبرام اتفاقات منفصلة مع الدول العربية في المنطقة.
هذا هو السياق الذي وقعت فيه هجمات السابع من أكتوبر. لا شك في أن استهداف المدنيين أمر شنيع في أي سيناريو، بغض النظر عن الجانب الذي اقترف هذا الفعل. ولكن من المستحيل أن نتجاهل حقيقة مفادها بأن غزة تحولت إلى سجن ضخم محاصر بالجدران على مدى الأعوام الـ10الماضية، حيث يعيش الملايين من السجناء الذين فقدوا أي أمل في انتهاء الاحتلال.
شروط السلام المسبقة
لقد أدركت إدارة بايدن أنه ستكون هناك حاجة إلى عملية سياسية بعد انتهاء الحرب في غزة، فبدأت بمناقشة خطط ما بعد الحرب في القطاع، مسترشدةً بحرب أكتوبر 1973 التي أدت في النهاية إلى السلام بين مصر وإسرائيل، وحرب الخليج الأولى عام 1991 التي أسفرت عن مؤتمر مدريد. لكن فرص النجاح ستكون شبه معدومة إذا كان نطاق التفكير هذا مقتصراً على مَن سيحكم غزة بعد “حماس”، أو إذا التزمت واشنطن عملية غير محددة المدة تكرر ببساطة أخطاء العمليات السابقة. إن الفلسطينيين بغالبيتهم الساحقة يشعرون اليوم بأنهم تعرضوا للخداع، فهم شاركوا في جهود سلمية رامية إلى إنهاء الاحتلال في وقت كانت إسرائيل تفرض واقعاً على الأرض يجعل من حل الدولتين أمراً مستحيلاً. لذا، فإن أي عملية سياسية في غزة يجب أن تكون ذات مصداقية ومحددة زمنياً وهدفها النهائي واضح، قبل بدء أي مفاوضات، وإلا فإنها ستكون مجرد مضيعة للوقت.
حالياً، من المهم أن نعترف بأن العناصر الضرورية لعملية جادة تقودها واشنطن غير موجودة. في الواقع، تدخل الولايات المتحدة عاماً انتخابياً يَبعد فيه احتمال إطلاق عملية سلام تتطلب ممارسة ضغط على جميع الأطراف، بخاصة إسرائيل. إضافة إلى ذلك، أعلنت الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية مراراً وتكراراً أن لا نية لديها بإنهاء الاحتلال أو المساعدة في إنشاء دولة فلسطينية. وعلى رغم أن معظم الإسرائيليين يحمّلون الحكومة الحالية مسؤولية الهفوات الأمنية التي ارتُكبت في السابع من أكتوبر، وكذلك تشير استطلاعات الرأي إلى أن المعارضة ستفوز بسهولة في الانتخابات الجديدة إذا أجريت غداً، إلا أن الانقسام العام في إسرائيل اليوم لم يعُد بين معسكر مؤيد للسلام وآخر مناهض له مثلما كانت الحال قبل عقود. وعوضاً عن ذلك، فالانقسام قائم ببساطة بين معسكرين، الأول مؤيد لنتنياهو والثاني معارض له، بيد أن الجانبين يتخذان موقفاً متشدداً وشبه موحد ضد قيام دولة فلسطينية.
وفي الوقت نفسه، فقدت السلطة الفلسطينية جزءاً كبيراً من مصداقيتها وشرعيتها. فهي لم تجرِ أي انتخابات منذ عام 2006، وكانت نسبة تأييدها منخفضة للغاية، حتى قبل السابع من أكتوبر. وفي استطلاع للرأي أجري أثناء وقف إطلاق النار القصير في غزة في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وجد “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” أن 88 في المئة من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة يرغبون في استقالة رئيس السلطة محمود عباس، مقابل سبعة في المئة فقط من الفلسطينيين يريدون أن تتولى السلطة الفلسطينية الحكم في غزة بعد الحرب بقيادة عباس. وفي الحقيقة، لا يمكن لأي طرف الادعاء بأن عباس يمثل الفلسطينيين في أي عملية سياسية من دون إجراء انتخابات، لكن من شبه المؤكد أن السلطة الفلسطينية وإسرائيل والولايات المتحدة ستعارض مثل تلك الانتخابات في المدى القريب، نظراً إلى أن “حماس” قد تحصل على أكثرية الأصوات، وفق نتائج الاستطلاع. وفي حين يشير الاستطلاع نفسه إلى أن شخصيات مثل مروان البرغوثي تتمتع بدعم واسع النطاق بين جماهير حركتي “فتح” و”حماس”، فمن المشكوك فيه أن توافق إسرائيل على إطلاق سراحه لأن الحكومة الحالية ليست مهتمة بالتوصل إلى صفقة سياسية.
لكن وعلى رغم هذه الصعوبات، فمن المفيد تحديد العناصر التي تتطلبها أي عملية ذات مصداقية لكي تتمكن واشنطن من تجنب أخطاء المفاوضات السابقة. أولاً، يتعين على الولايات المتحدة أن تقدم خطة سياسية تضع هدفاً محدداً بوضوح يتمثل في إنهاء الاحتلال خلال إطار زمني محدد، وليكن ثلاثةإلى خمسة أعوام مثلاً. ثم ستقوم المفاوضات بدور في رسم حدود دقيقة على أساس خطوط 1967، مع إجراء مبادلات ومقايضات طفيفة للأراضي من أجل استيعاب المستوطنات على طول الحدود. كما أن الأمم المتحدة قد تصدر قراراً يعترف بالدولة الفلسطينية على أساس حدود عام 1967، على أن يتم الاتفاق على التفاصيل من خلال المفاوضات. كذلك، على بناء المستوطنات الجديدة أن يتوقف بالكامل.
وبعد ذلك، من أجل تنفيذ هذه الخطة، يجب أن تركّز تلك المفاوضات على الخطوات اللازمة لبلوغ الهدف، عوضاً عن التركيز على الهدف النهائي. وبدأ عدد من الخطوات الممكنة الضرورية يتبلور بوضوح. ولكن ينبغي إجراء استفتاءات حول هذه الخطة في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة من أجل ضمان الحصول على الدعم الشعبي، إذ إن الناخبين سيدلون بأصواتهم على أساس الأفق السياسي الواضح للخطة، مما قد يؤدي إلى تبديد الانطباع السائد لدى الجانبين بأن حل الدولتين لم يعُد وارداً. وفي هذا الإطار فإن مسألة مَن يحكم غزة ستصبح خطوة في الطريق المؤدي إلى إنهاء الاحتلال، وليس هدفاً نهائياً في حد ذاته: ففي المسائل المتعلقة بالحكم، ينبغي التعامل مع غزة والضفة الغربية باعتبارهما كياناً واحداً.
وبمجرد أن تبدأ مثل هذه العملية، سيكون لدى الجانبين الحافز لإعادة النظر في الحلول التي رُفضت في الماضي بسبب غياب إطار سياسي شامل أو جدول زمني محدد. على سبيل المثال، يمكن أن تصبح عملية إعادة إعمار غزة خطوة نحو التوصل إلى تسوية نهائية، مع استعداد أطراف مثل دول الخليج والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي للمشاركة في طرق لا نشهدها حالياً. (ويقدم الوضع في سوريا درساً مفيداً هنا: فعلى رغم أن الحرب الأهلية انتهت فعلياً منذ ما يقارب خمسة أعوام، وفي غياب خطة شاملة لمستقبل البلاد، لم يكن هناك تقدم يذكر في عملية إعادة الإعمار). واستكمالاً، من الممكن إنشاء صندوق دولي لمساعدة الفلسطينيين بغزة والضفة الغربية في البقاء في أراضيهم وذلك في سبيل تخفيف المخاوف بين الفلسطينيين من أنهم سيتعرضون لتهجير جماعي إلى خارج أرضهم التاريخية. ويمكن بعد ذلك إحياء مبادرة السلام العربية التي اقترحت جميع الدول العربية بموجبها معاهدات سلام وضمانات أمنية جماعية لإسرائيل، مما يمنح الدول العربية دوراً سياسياً وأمنياً واقتصادياً في الأراضي الفلسطينية ويمثل في الوقت نفسه حافزاً قوياً للإسرائيليين يدفعهم إلى تبني هذه المبادرة.
وعلى رغم أن هذا المخطط قد يبدو طموحاً، إلا أنه يرتكز على الواقعية: فالغرض منه يتلخص في إظهار ما قد تستلزمه عملية سياسية جادة، وتوضيح أن عمليات الماضي الفاشلة لا يمكن إحياؤها ببساطة. ويذكر أن هذه الخطة لا تتناول الجانب الأكثر صعوبة من القضية، وهو ما يجب فعله بالمستوطنات القائمة. وحتى لو توافرت الإرادة السياسية لدى الجانبين لإنهاء الاحتلال وتبني حل الدولتين، فإن التوصل إلى حل مبتكر لمسألة الاستيطان سيظل مهمة شاقة. وإذا قرر المجتمع الدولي أن هذه الخطة الشاملة غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع، يتعين عليه تقييم حجم الكلف المرتبطة بالخيارات البديلة.
من سيئ إلى أسوأ
إذا ثبت في نهاية الحرب في غزة أن تنفيذ عملية سياسية جادة أمر مستحيل، فقد تتكشف ثلاثة سيناريوهات بديلة. أولاً، يمكن للأطراف أن تعود لاعتماد استراتيجية التأجيل وانتظار توقيت أفضل وأكثر هدوءاً، مثلما فعلت الولايات المتحدة خلال الأعوام التي سبقت هجمات السابع من أكتوبر. وهذه الاستراتيجية، إذا نُفّذت في الوقت الحاضر، ستفشل بالتأكيد. فهي تفترض أن حل الدولتين هو في نهاية المطاف النتيجة المفضلة لدى جميع الأطراف، وأن الأمر ببساطة يتعلق بوجود القوى السياسية المناسبة في السلطة من أجل تحقيق ذلك. لكن في إسرائيل، انخفض مستوى التأييد في الكنيست لاتفاق سلام يرمي إلى تقاسم الأرض، فبعد أن كان ذلك الاتفاق يحظى بدعم غالبية الأعضاء قبل 30 عاماً، لم يعُد عدد الأعضاء الذين يؤيدونه اليوم يتخطى 15 عضواً. علاوة على ذلك، فإن منطق الانتظار يفترض وجود وضع قائم ثابت، ومن الواضح أن هذه ليست هي الحال الآن نظراً إلى استمرار إسرائيل في توسيع المستوطنات. وإذا كان العدد الحالي للمستوطنين يجعل من الصعب للغاية تقسيم الأرض إلى دولتين منفصلتين لكل من المجتمعين [الفلسطيني والإسرائيلي]، ففي غضون أعوام قليلة، بمجرد أن يتجاوز عدد المستوطنين المليون، قد يتدهور الوضع بصورة لا رجعة فيها.
والبديل الثاني، في غياب عملية سياسية جادة، قد يكون أسوأ من ذلك، ويتمثل في التهجير الجماعي للفلسطينيين من أرضهم التاريخية إما بالقوة أو من خلال جعل حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لا تُحتمل أو لا تُطاق. وتنبع ضرورة النظر في مثل هذه النتيجة القاسية من التحدي الديموغرافي الذي تواجهه إسرائيل حالياً، إذ بلغ عدد العرب الفلسطينيين في المناطق الخاضعة لسيطرة إسرائيل الآن 7.4 مليون نسمة، وهو عدد أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين البالغ 7.2 مليون نسمة داخل إسرائيل والأراضي المحتلة. وبالنظر إلى أن تل أبيب لا ترغب في الوقت الحاضر في إنهاء الاحتلال وقبول حل الدولتين، ولا ترغب في أن تتحول إلى أقلية تحكم أكثرية، في ما يصفه عدد من منظمات حقوق الإنسان بالفصل العنصري، فإن خيارها الأفضل سيتمثل في تهجير أعداد كبيرة من الفلسطينيين خارج الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية: من غزة إلى مصر، ومن الضفة الغربية إلى الأردن.
وسبق أن أوضحت الحكومة الإسرائيلية أنها تفكر بهذه الطريقة. لقد أصبحت أجزاء كبيرة من غزة غير صالحة للسكن عملياً، وروّج كثير من الوزراء الإسرائيليين، بمن في ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو نفسه، بصورة مباشرة أو غير مباشر لفكرة نقل الفلسطينيين إلى بلدان أخرى. وبطريقة موازية، وصف عدد من المعلقين الإسرائيليين والدوليين القرارات المصرية والأردنية بإغلاق حدودهما أمام الفلسطينيين بأنها عمل غير إنساني، ربما بهدف الضغط على الدولتين من أجل السماح للفلسطينيين بالفرار، بيد أنه من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية ستمنعهم من العودة بعد ذلك.
لكن أي محاولة لإجراء عملية نقل “ترانسفير” جماعي لن تكون سهلة التنفيذ. وسبق أن عمل الأردن ومصر على لفت الانتباه الدولي إلى هذا السيناريو، إلى حد أبدت فيه الولايات المتحدة ودول أخرى موقفاً حازماً وصريحاً ضده. ويبدو أن الفلسطينيين أنفسهم غير راغبين في المغادرة، مستخلصين دروساً من أحداث عام 1948 حينما أُجبر 750 ألف شخص على مغادرة وطنهم ولم يُسمح لهم بالعودة أبداً.
وهذا يتركنا أمام بديل ثالث وهو الأكثر ترجيحاً: استمرار الاحتلال الإسرائيلي، ولكن الآن في ظل ظروف لا يمكن تحمّلها. في الواقع، يتجاوز معدل الولادات لدى الفلسطينيين نظيره في صفوف اليهود الإسرائيليين، ومع فقدان الفلسطينيين الأمل على نحو متزايد في احتمال قيام دولة فلسطينية، فإن مطالبتهم بالمساواة في الحقوق مع الإسرائيليين سترتفع بصوت أعلى وأكثر إصراراً. وقد يصبح الصراع بعد ذلك أعنف. ووفقاً لاستطلاع أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية”، فإن 63 في المئة من الفلسطينيين اليوم يقولون إنهم سيؤيدون المقاومة المسلحة لإنهاء الاحتلال. والواقع أن مثل هذه المقاومة كانت بدأت بالفعل في الضفة الغربية في الأشهر التي سبقت السابع من أكتوبر، إذ حمل شباب غير منظمين وبلا قيادة، السلاح وأطلقوا النار على الإسرائيليين.
علاوة على ذلك، إذا اختارت إسرائيل مواصلة الاحتلال، فهي لن تواجه تحديات داخلية فحسب، بل ستواجه أيضاً جيلاً صاعداً من الشباب في الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية الأخرى أظهر أنه، بالمقارنة مع الأجيال السابقة، أكثر دعماً للفلسطينيين وقضية المساواة في الحقوق. ومع وصول هذا الجيل إلى مراكز السلطة، سيتزايد انتقاد العالم للاحتلال الإسرائيلي، وسيتحول التركيز من تحديد تسوية سلمية وهمية إلى معالجة مشكلة الظلم الشديد في الأراضي المحتلة إلى أجل غير مسمى. وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى عزلة إسرائيل بصورة متزايدة على المسرح العالمي.
ومن المرجح ألا يستمر الوضع الراهن بعد هذه النقطة. ومن المؤكد أن المجتمع الدولي يتحمل جزءاً من المسؤولية عن كل أعمال العنف التي نشهدها اليوم. ومن خلال التخلي عن أي جهود جادة من أجل معالجة أسباب الصراع الأساسية خلال الأعوام الأخيرة، أسهم زعماء الغرب وحكومات المنطقة، في خلق الوضع القائم الآن الذي لا يمكن القبول به. ومن الممكن أن تبدأ عملية أخرى على نسق عدد من العمليات السابقة. وإذا حدث ذلك فإن مصير هذه العملية سيكون الفشل، وسيستمر العنف في تحديد شكل العالم الذي سيعيش فيه الإسرائيليون والفلسطينيون. إذاً، فإما أن تتخذ الولايات المتحدة وشركاؤها الدوليون قراراً تاريخياً بإنهاء الصراع الآن وتوجيه الجانبين بصورة عاجلة نحو حل الدولتين القابل للتطبيق، أو سيتعين على العالم أن يواجه مستقبلاً أكثر قتامة. وفي القريب العاجل، لن يعود الأمر متعلقاً بالاحتلال، بل بالمسألة الأكثر صعوبة المتمثلة في الفصل العنصري الذي لا لبس فيه. والخيار الصائب واضح وضوح الشمس.
مروان المعشّر هو نائب رئيس شؤون الدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. شغل منصبي وزير خارجية الأردن من عام 2002 إلى عام 2004 ثم نائب رئيس الوزراء من 2004 إلى 2005.
مترجم من “فورين أفيرز” 15 يناير 2024
المصدر: اندبندنت عربية