العدالة بنصف لسان

عوني القلمجي

لم تحقق عملية طوفان الأقصى انتصارها العسكري ضد الكيان الصهيوني، نتيجة غفلة من الكيان، او جراء خطأ ارتكبه، او السكوت عنه لتبرير اهداف عدوانية، كما يتخيل أصحاب العقول المريضة، وانما حدث ذلك، بسبب التخطيط المحكم والقيادة الحكيمة، والاهم من ذلك، الارادة غير المحدودة للمقاتل الفلسطيني، التي عبر عنها الجنرال البريطاني برنارد مونت غمري، قائد قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور، بقيادة ادولف هتلر، واستطاع تحقيق النصر ضد الجنرال ارفن رومل في معركة العلمين عام 1942 بقوله، “إن الحرب ليست دبابات تتصادم وليست مدافع تهدر وليست طائرات تقصف وليست جنودا مشاة يحتلون مواقع، وإنما هي إرادة تعلو فوق إرادة”. او ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، في تبريره لهزيمة بلاده امام المقاومة الفيتنامية المسلحة.” ان أكبر قوة عسكرية في العالم تفقد قيمتها الى درجة الصفر، إذا فقد المقاتل الإرادة. موضحا ذلك بان، “أمريكا لم تهزم في فيتنام بسبب ضعف قوتها العسكرية، التي لا تضاهيها قوة عسكرية في العالم، وانما هزمت بتفوق إرادة الفيتناميين على إرادة جيشنا”. والا كيف تمكن المقاتلون الفلسطينيون، وبأسلحة بدائية او من صنع محلي، من توجيه ضربة عسكرية الى الجيش الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين، والذي وصف بالجيش الذي لا يقهر، ليجد نفسه موضع سخرية، امام دول العالم وشعوبه، وامام أكثر الخبراء العسكريين علما وتجربة؟ بل كيف تمكن هؤلاء المقاتلون، من اختراق كل الدفاعات الصهيونية، التي ضاهت خطوط الدفاع المشهورة في العالم، مثل خط ماجنو الفرنسي وخط سينغ فريد الألماني وخط بارليف الصهيوني؟ ثم كيف استطاع هؤلاء الابطال ان يدافعوا عن مدينة غزة، ضد قوة الماكنة العسكرية الصهيونية وجبروتها، على مدى أربعة شهور، في أشرس حرب إبادة مفتوحة؟
لم تقتصر عملية الطوفان على الانتصارات العسكرية، وانما حققت مكاسب سياسية، شملت، إضافة للشعب الفلسطيني، حركة التحرر العربية والعالمية. وتكفي الإشارة في هذا الصدد، تأكيد حقيقة، حاول الاعلام الغربي اجتثاثها من العقول مفادها، ان بإمكان الشعوب المضطهدة ان تهزم أكبر قوة عسكرية محتلة، او أجهزة قمع لحاكم دكتاتوري او عميل إذا توفرت الارادة. الامر الذي يشجع حركات التحرر، في المدى المنظور، على الاقتداء بعملية الطوفان، وتحقيق الانتصارات ضد اعدائها. وهذا ما يفسر ذعر حكام الردة العرب، لما ينتظرهم من مصير اسود. وفق هذا السياق، يمكن اعتبار قرار محكمة العدل الدولية، الذي صدر يوم الجمعة الماضي، 26/ كانون الثاني/ يناير، درسا اخر لقدرة المقاومة على انتزاع نصر، يخدمها في مواصلة حربها المشرفة ضد الكيان الصهيوني، على الرغم من التحايل اللغوي المكشوف، في صياغة القرار لتجنب وضع النقاط على الحروف تماما، بهدف تمرير تجاهله ارتكاب الكيان جريمة الإبادة الجماعية، والتملص من الحكم بوقف الحرب فورا.
هنا لا بد من التأني في قراءة المشهد. فمهما كان القرار النهائي الذي سيصدر عن المحكمة، فان سحل الكيان الصهيوني للمثول فيها، جراء ارتكابه جريمة الإبادة الجماعية، يشكل نصرا استثنائيا انتزعته المقاومة انتزاعا، بصلابة ارادتها وعدالة قضيتها ودعم شعوب العالم كافة، عبر تظاهراتها غير المسبوقة في خطابها وسعتها وعنفوانها، والتي حولت الكوكب كله الى صرخة احتجاج عظيمة بوجه الكيان الصهيوني الاجرامي، وحملة الإبادة الجماعية ضد شعب غزة. بعبارة أخرى، ان انتزاع نصر من محكمة العدل الدولية، يضيف قوة للضعيف، فهي محكمة، شانها شان المحاكم والمؤسسات والهيئات واللجان الدولية، تخضع لمشيئة وإرادة الولايات المتحدة الامريكية، وحلفائها من دول الغرب الاستعماري، ومن ضمنهم الكيان الصهيوني. وليس في وارد حساباتها ان تتمرد لتذهب الى قرارات تلحق الضرر بهذه الدول العظمى، او فتاها المدلل، الكيان الصهيوني.
لا بد من التأكيد هنا، ان قبول الدعوى لا يعني ان المحكمة قفزت على إرادة دول الغرب الاستعمارية من قبل دولة، ليست من بين الدول العظمى، مثل جنوب افريقيا، ضد الكيان الصهيوني، وفي الوقت نفسه ترفض طلب الكيان برد الدعوى، ما كان ليحصل اطلاقا، لولا عملية طوفان الأقصى، التي اثبتت عجز الكيان الصهيوني، عن اجبار المقاومة على الاستسلام بزمن قياسي، كما كان يروج من جهة، وصمود شعب غزة الأسطوري، ضد جريمة الإبادة الجماعية من جهة أخرى. بل بالعكس، فبرفضها تكون المحكمة قد حكمت باضمحلال شرعيتها، ودورها المرسوم لخدمة الدول الاستعمارية. خاصة وان الاعلام الغربي بذل جهودا مضنية، لإضفاء المصداقية على المحكمة، وإقناع الشعوب بعدالتها، لتمرير اهدافها العدوانية. ولو حدث غير ذلك وهزمت المقاومة مبكرا، أو أعلنت استلامها، ما كان لجنوب افريقيا، التي تستحق الشكر والتقدير، ولا غيرها، تقديم مثل هذه الدعوى، ولما وافقت محكمة العدل الدولية على قبولها، ولا صدر مثل هذا القرار، على الرغم من تواضعه وتدنيه، ان لم يكن انقاذا للكيان الصهيوني للخروج من الهزيمة بماء الوجه. فقد صمتت هذه المحكمة العتيدة والمحاكم الدولية الأخرى، صمت القبور عن جرائم ومجازر ارتكبها الكيان الصهيوني، منذ قيامه وحتى يومنا الحاضر. يرتقي اكثرها لدرجة الإبادة الجماعية، والقائمة في هذا الصدد طويلة ومؤلمة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر. ارتكب الكيان سنة 1948، وحدها مجازر شنيعة، في الطنبورة ودير ياسين واللد والرملة والدوايمة وحولا وخان يونس. وفي السنين التي تلتها، مذبحة قلقيلية وكفر قاسم وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا ومخيم جنين وغيرها. كما ارتكبت قوات هذا الكيان الغاصب، في سنة 1982 جريمة احتلال القوات الصهيونية لدولة لبنان المستقلة، وطالت جرائمها العاصمة بيروت. وبدلا من معاقبة الكيان على جريمة احتلال لبنان، كما عوقب العراق بعد اجتياح قواته لأمارة الكويت المعتدية، تمت معاقبة لبنان وإخراج المقاومة الفلسطينية من أراضيه. وفي سنة 2006، دمرت القوات الصهيونية لبنان، وخاصة منطقة الجنوب، لمجرد إطلاق حزب الله، عشرات الصواريخ باتجاه الكيان الصهيوني، ثم حملوه المسؤولية، واعتبروه حزبا إرهابيا. ناهيك عن السكوت المطبق عن مجازر قام بها الكيان الصهيوني، ضد قطاع غزة تحديدا، وتدميرها عدة مرات، وقتل عشرات الالاف من سكانها. فاين كانت محكمة العدل الدولية من كل هذا، وماذا فعلت إزاء رفض الكيان الصهيوني المطلق لكل القرارات الدولية، التي سعت الى انهاء الصراع العربي الصهيوني، وحل قضية الشعب الفلسطيني، بمنحه جزء من حقوقه المشروعة؟
اما القرار ذاته، فسأبتعد تماما عن تقييمه من وجهة نظر قانونية. حيث تناوله العديد من رجال القانون، فيما يتعلق بمضامين القرار وتفسيراته، والنتائج التي انتهى اليها، ومدى التزام الكيان الصهيوني بتنفيذه، او قدرة المحكمة على فرض عقوبات على الكيان إذا حاول التنصل منه، او عدم الاكتراث به. بمعنى اخر، لن يضيف الخوض في ما جرت تغطيته، من قبل رجال القانون شيئا جديدا او مهما، ان لم يكن تكرارا مملا. ولهذا سيكون من الأفضل، النظر الى القرار من الناحية السياسية، وانعكاساته على الحرب الدائرة بين الكيان والمقاومة، ومدى قدرته على وضع حد للإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، التي تجري على مرأى العالم ومسمعه. او في الأقل، هل كان القرار مفيدا للشعب الفلسطيني ويساعد في مواصلة مقاومته المشروعة ضد المحتل الصهيوني؟ ام انه مجرد توصيات وإجراءات فضفاضة، يمكن للكيان الصهيوني الالتفاف عليها، ورميها في سلة المهملات ليطويها النسيان؟
ان قرار المحكمة العتيدة، على تواضعه وتدنيه، يعد من وجهة نظر سياسية، مكسبا تم انتزاعه بفضل قوة طوفان الأقصى، يخدم الى حد ما، معركة المقاومة الشرسة ضد عدو متوحش، ومدعوم من دول عظمى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية، عسكريا وماليا وسياسيا وإعلاميا، على الرغم من ان القرار لم يتضمن ادانة الكيان بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ولم يطلب من المعتدي وقف الحرب فورا، مما يجعل بقية الإجراءات التي تلزم الكيان، قابلة للالتفاف عليها والتهرب منها او تجاهلها. خاصة وان الكيان له تاريخ اسود في عدم احترامه للقانون الدولي وخرقه الدائم لقرارات المؤسسات الدولية.
ان هذه الإجراءات والتوصيات التي تضمنها القرار، تجيء بمثابة الاعتراف بالمقاومة وحقها الشرعي في توفير الحماية الدولية لها، وبقائها حاضرة في جدول الدول والشعوب، بدلا من عزلها ووصفها بالإرهاب ومحاربتها من حكومات عديدة في العالم، وفي المقدمة أبناء جلدتها من حكام الرد ة العرب، وفصائل فلسطينية في خانة الشبهات، ارتضت بيع فلسطين، مقابل سلطة في الضفة الغربية، تدير شؤونها الحكومة الصهيونية. كما تضمنت الإجراءات فقرة تطلب من “إسرائيل”، “أن تتخذ كل الإجراءات التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال، ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية”، وأنها تقر “حق الفلسطينيين في غزة في الحماية من اعمال الإبادة الجماعية”، وأنها تفرض على الكيان، “الالتزام بتجنب كل ما يتعلق بالقتل والاعتداء والتدمير بحق سكان غزة”، وان “يضمن الكيان رفع الحصار عن غزة وتوفير الاحتياجات الإنسانية الملحة في القطاع بشكل خاص”. فهذه بمجموعها، رغم شكليتها غير المسبوقة، لم يصدر من قبل مثيلا لها عن محكمة دولية او مجلس امن او مؤتمر قمة عربي او إسلامي، تجنبا لغضب الكيان الصهيوني وحلفائه من الدول العظمى، خاصة الولايات المتحدة الامريكية. كما انها ستحد من الحرب الإعلامية ضد المقاومة الفلسطينية في غزة، وتحميلها المسؤولية التي ارتكبها الكيان الصهيوني. بل أصبح على كل مسؤول صهيوني، عندما يظهر للعلن أو في اجتماع مع نظير له من دولة أخرى، أن يدفع تهمة الإبادة الجماعية عن نفسه، بدل وصف المقاومة في غزة، وحركة حماس بالذات، بانها منظمة إرهابية ترتكب الجرائم ضد “الشعب اليهودي الامن والمسالم”.
بمعنى اخر، فان هذه التوصيات يمكن تفسيرها، بانها منحت الشرعية للمقاومة الفلسطينية، وحقها في اعتماد الاختيارات والأساليب، التي تراها مناسبة لحماية نفسها من العدوان الصهيوني. او في الأقل تخفض سقف تأييد دول الغرب الاستعماري للكيان الصهيوني، بعد سقوط سرديته التي يتسول بها شفقة العالم، ووقوفه عاريا بكل بشاعاته كمجرم حرب وابادة جماعية، او في الأقل، وقف حملة التحريض العلني للكيان، على مواصلة ارتكاب مزيد من القتل والدمار ضد الفلسطينيين بمدينة غزة، تحت ذريعة الدفاع عن النفس. يضاف الى ذلك ان قرار المحكمة بمجمله، سيفتح الباب واسعا، لعودة الملف الفلسطيني واحيائه والتعريف به امام المنظمات والهيئات والمحاكم الدولية. وهو امر مهم يمنح القضية الفلسطينية، ديمومة الحضور لفترة طويلة. حيث تضمن القرار فقرة تنص “أن على إسرائيل تزويد محكمة العدل الدولية بعد شهر من الآن، بتقرير بشأن التدابير التي اتخذتها. وتقول” إنه في حال تجاهلت إسرائيل أو امتنعت عن تنفيذ قرارات المحكمة فإنه من الممكن أن يتم إحالة الأمر لمجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي من شأنها اتخاذ قرار في حال الإخلال عن تطبيق قرارات محكمة العدل الدولية”. يضاف الى ذلك، ان القرار يسمح لجنوب أفريقيا “طلب إجراءات وتدابير وقائية أخرى حسب تطور النزاع على الأرض، طالما انعقد اختصاص المحكمة الدولية للنظر في القضية”. الامر الذي يجبر المحكمة على تفعيل القرار في حال عدم التزام الكيان للضغط على المحكمة الجنائية الدولية لاحقا. كما يمكن لدول صديقة للشعب الفلسطيني استخدامه في محاكم أخرى يمكن أن تنظر في القضية. او انضمام دول عديدة لجنوب أفريقيا أو تعمل على دعاوى جديدة، يمكن أن تزيد الضغط القانوني الدولي على الكيان لاحقاً. المكسيك والتشيلي والجزائر وليبيا واندنوسيا نموذجا.
باختصار شديد، فان هذا المكسب، من وجهة نظر سياسية، لم يكن مكرمة من محكمة العدل الدولية، ولا عطفا منها، او يقظة ضمير ولا رحمة بالشعب الفلسطيني في غزة، الذي فقد كل المقومات الضرورية التي تبقيه على قيد الحياة، وانما تحقق بقوة عملية طوفان الأقصى، وبدماء شهدائها الابرار وصمود الاحياء.

31/1/2024

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى