منذ سنوات أربع قرر الشباب العربي في مصر العودة إلى ميدان التحرير بعد ان تبينوا أن ثورة 25 يناير تم تشويهها لكنهم لم يدركوا يومها أنهم يمهدون بذلك لاغتصابها، فعوضاً عن الاحتكام لصندوق الاقتراع و إجراء انتخابات ديموقراطية على طريق الربيع العربي عادت سلطة المخابرات و الدكتاتورية على يد هذا السيسي الذي لم يكتف باعتبار أن “كامب ديف” تعبر عن ضمير مصر بل اعتبر أمن “إسرائيل” من أمن مصر، وبالتالي عادت مصر إلى واقع أسوأ من عهد مبارك يومها كتبت مخاطباً مصر ” سيسي، سيسي، و كأنك يا مصر لا رحتي و لا جيتي”… ما حصل ليس غريباً فشباب 25 يناير رغم تضحياتهم و شجاعتهم افتقدوا البوصلة و التنظيم كما حصل للربيع العربي عموماً، لكن الغريب كان استثمار أولاد جمال عبد الناصر البيولوجيين في مهرجان تسويق السيسي، بعد أن فقدنا خالد جمال عبد الناصر الوحيد بينهم الذي كان يمكن أن يحول دون هذه المهزلة.. تصوروا أن السيسي الآن، بالضبط الآن، و أنا أكتب هذه الكلمات يقول، و هو يستقبل نائب الرئيس الأمريكي: “إن الخلاف بيننا و بين دولة الولايات المتحدة الأمريكية حول اعتبار القدس عاصمة لدولة إسرائيل هو خلاف بين أصدقاء”.
ما يعنينا الآن أنني كتبت يومها إلى السيدة هدى جمال عبد الناصر يومها بعد أن شبهتْ السيسي بجمال عبد الناصر أقول لها: ” يا سيدة هدى الزمان غير الزمان و السيسي ليس جمال”
( 51 )
نعم، العواصف التي تسبق الربيع عادة تكون محّملة بما يخطر، و ما لا يخطر على البال ، من أول الماء الزلال، و إلى السموم التي تكون قد تراكمت في الأجواء، و تكون في الوقت ذاته محمولة على رياح من الصعب التحكم، أو التنبؤ في اتجاهاتها، و أين تلتف حول نفسها و هي تقتلع تراب الأرض و تنثره في الأجواء تحجب الرؤيا.
و لعل الواقع الموضوعي في الوطن العربي، و المركز منه بخاصة (مصر)، في عين العاصفة هذه الأيام حيث يمر العديد من مواطنيه بهذه المرحلة من فقدان الرؤيا فيتنادون لاستبدال الرمضاء بالنار، أو العكس، عوضاً عن البحث في معرفة الطريق القويم للخروج من زمن الرمضاء و النار معاً إلى زمن الربيع و الأجواء المطهرة من شتى أنواع السموم الجهنمية .
و في هذا السياق جاءت رسالة السيدة هدى جمال عبد الناصر إلى الفريق السيسي حيث خاطبته قائلة: ( ما أعنيه هو أن تتقدم بثقة إلى العمل السياسى و ترشح نفسك في الانتخابات الرئاسية، و تأكد أن الثلاثين مليونا الذين خرجوا فرحين منبهرين يؤيدونك يوم 26 يوليو، سيعطونك أصواتهم فى صناديق الاقتراع؛ فإن المواقف و المبادئ هى التى تصنع القادة.. أتدرى أنك حققت فى أقل من شهرين ما لا يستطيع السياسيون أن يحققوه فى عشرات السنين؟!، ألا و هو التأييد الشعبى الكاسح.. انظر إلى المعارضة المصرية؛ إنها مفككة، و زعماؤها ليسوا على مستوى هذه اللحظة الفارقة العظيمة التى تعيشها مصر، إنني أسمع من يتكلمون عن الحكم العسكرى و يقولون: كفانا ستين عاما من البدلة العسكرية! أرجوك ألا تلقى بالاً إلى هؤلاء؛ فهم مغرضون و مغالطون! لقد وضع جمال عبدالناصر مبدأ منذ بداية ثورة 23 يوليو 1952 و هو؛ عدم تدخل الجيش فى السياسة، و أن من يرغب من الضباط الأحرار فى أن يعمل بالسياسة فعليه أن يخلع البدلة العسكرية، و قد تحقق ذلك فعلا بالممارسة.) .
( 52 )
لم تكن السيدة هدى أول من شجع وشبّه السيسي بجمال، فقد سبقها كُثر، ولحق بها الكثير أيضاً، وهاهو الأستاذ محمد فؤاد المغازي يعقبّ على رسالة السيدة هدى، ويستكمل توجيه الرسالة للفريق السيسي فيخاطبه قائلاً : ( لن أبعث لك برسائل إلا إذا كانت رسالتي تتضمن تهنئة وعلى عنوان المرسل إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية. مبني الاتحادية. القاهرة. __) . أما نحن ، فمن جهتنا كان يحدونا الأمل أن يكون المرسل إليه في قصر الاتحادية مستقبلاً : رئيس جمهورية مدني منتخب ديمقراطياً من الشعب العربي في مصر . بموجب دستور عصري يحدد مدى إقامته ومهامه يؤديها ويمضي، لا أكثر من ذلك ولا أقل .
وحتى يكون موقفنا واضحاً لا لبس فيه ، فإننا نحيي الموقف الوطني للمؤسسة العسكرية في مصر من ثورة 25 يناير 2011 ومن ثورة 30 يونيه 2013 ومن قرار تكليف رئيس المحكمة الدستورية بمهام رئيس الجمهورية لفترة انتقالية محددة يتم الانتقال منها بموجب خارطة طريق محددة إلى حياة دستورية ديمقراطية سليمة لكن الذهاب أبعد من ذلك يؤدي إلى استمرار الكارثة المصرية والعربية عموماً التي بدأت منذ 47 عاماً بوصول السادات المعتوه إلى سدة الرئاسة في مصر فحولها من قاعدة للنهوض والتقدم والتحرر العربي والعالمي والإنساني إلى قاعدة صهيونية محكومة باتفاقية “كامب ديفد” ، واستمرت المأساة بخلفه الأبله الذي استكمل مهمة نشر المافيات والمفاسد ، واستكملت بغباء مرسي وأوهامه هو وجماعته أن بإمكانهم اغتصاب ثورة 25 يناير واستبدال استبداد العسكرتاريا وأجهزة المخابرات باستبداد يدعي المرجعية الألهية وتناسوا أن الله سبحانه وتعالى لم يفوض أحداً من البشر كائناً من كان في التحكم برقاب البشر حتى أنبيائه فقد أرسلهم لمقاومة الطواغيت ، وليس لممارسة الطغيان .
( 53 )
لقد استندت السيدة هدى في خطابها للسيسي على أربعة مستندات كما قالت: “1” صفتها العلمية. “2” تجربة جمال عبد الناصر. “3” الجنرال شارل ديغول. “4” الجنرال أيزنهاور .
و نحن لن نقف طويلاً أمام المستندين الثالث و الرابع للاختلاف البيّن في الظروف و البيئة و المؤسسات الديمقراطية في البلدين كما أن الرجلين لم يدخلا الحياة السياسية من خلال المؤسسة العسكرية و مدرعاتها، و إنما بموجب برنامج سياسي و تنظيمات سياسية أعقبت بفترة طويلة مغادرتهما للمؤسسة العسكرية، و وصل كل منهما إلى مقعد الرئاسة بموجب تنافس حقيقي و صندوق اقتراع، و ليس استناداً على قوة عسكرية من أي نوع، يكفي التذكير بإن التاريخ المقاوم للجنرال ديغول لم يغفر له عندما طرح مشروعاً لتعديل نظام البلديات و أعلن أنه إذا لم يوافق الشعب عليه في الاستفتاء بنسبة كبيرة سيتقدم باستقالته، و هذا ما حصل، فاحترم الرجل كلمته و تقدم باستقالته و اعتزل العمل السياسي، و غني عن القول أن الواقع الموضوعي في الوطن العربي بعد عقود من الاستبداد المديد شهد تعطيل كامل للحياة الديمقراطية، ولصندوق الاقتراع ، وتم تحويلهما إلى فلكلور هزلي لتزوير إرادة الشعب ، و تسيير مسيرات العبيد للاحتفال باستفتاءات التسعات الشهيرة…و التي نأمل أن يكون الربيع العربي خطوة على الطريق لتجاوز مرحلة الزيف و تزوير إرادة الشعب العربي، و أن تبدأ الخطوة الأولى للتجاوز من المركز، مصر، يبدأها عرب الكنانة .
( 54 )
أما عن المستند الأول الذي استندت عليه السيدة هدى في خطابها للسيسي فيستحق التدقيق و التمحيص حيث تخاطب السيدة هدى الفريق السيسي فتقول: ( إننى أدعوك بصفتى الشخصية و العلمية – كأستاذ علوم سياسية – أن تتقدم و تتحمل المسؤولية التى وضعك القدر أمامها، و لا تلقى بالاً للدعايات المغرضة؛ فتلك فرصة فى التاريخ لا تتكرر كثيراً و لا تملك القرار فيها وحدك، و إنما الفيصل هو الشعب صاحب الكلمة العليا.).
و نحن يا سيدة هدى، و احتراماً لصفتك الشخصية كحاملة لأسم جمال عبد الناصر، و لصفتك العلمية – كأستاذ علوم سياسية – نخاطبك كي تسحبي خطابك للفريق السيسي لأنه تجاوز خطير على جمال عبد الناصر و على المبادئ التي استقرت عليها العلوم السياسية الحديثة التي تؤكد على الفصل بين السلطات و أن المؤسسة العسكرية مؤسسة من مؤسسات السلطة التنفيذية تخضع للقوانين و الأنظمة و اللوائح التنظيمية و تنفذ قرارات الحكومة السياسية، باختصار شديد فأن أركان الدولة: الشعب و الوطن و السلطة التي تمثل إرادة الشعب تكون فيها المؤسسة العسكرية مؤسسة من مؤسسات تلك السلطة، و ليست مؤسسة تتحكم بمؤسسات السلطة، و الخطاب الموجه للفريق السيسي ليس خطاباً لضابط متقاعد أنهى خدمته العسكرية و انخرط في الحياة المدنية وإنما لرئيس آمر للمؤسسة العسكرية و بصفته هذه لا يحق له أن يخوض انتخابات رئيس الجمهورية أساساً .
إننا نقدر تسليم مقاليد الأمور لرئيس المحكمة الدستورية، لكن كنا نتمنى أن يترافق ذلك بصلاحيات كاملة للحكومة الانتقالية تنفيذاً لخارطة الطريق دون اعتقال الرئيس السابق، بل دون اعتقال أحد، و دون حالة طوارئ، و تجنب إراقة قطرة دم واحدة فالخطوة الأولى للانعتاق من المأساة تبدأ بتحريم العنف داخل المجتمع، و الكف عن حملة الاعتقالات التي تذكرنا بزوار الفجر، و رغم ذلك يمكن سماع التبريرات لما حصل طالما أنه يتم استثنائياً بصورة مؤقته و محدودة، و لظروف قاهرة، لكن أن يتوج ذلك بعودة طغيان العسكرة و أجهزة القمع، فهذا ليس عودة لنظام المخلوع مبارك، و حسب، و إنما لما هو أسوأ، و إذا كان الفريق السيسي يصرح عن محدودية دوره بتنفيذ إرادة الشعب، و حسب، و عدم طوحه للسلطة، فلماذا نشجعه نحن على الخطيئة؟، و نطالبه بتسلم السلطة؟.
( 55 )
أما المستند الثاني في خطاب السيدة هدى للسيسي، و هو بيت القصيد، فقد تمثل بتجربة جمال عبد الناصر، و هنا أرجو من السيدة هدى ان تسمح لي بالوقوف سريعاً عند محطات ثلاث :
الأولى: أنتِ تعلمين يا سيدة هدى أن “الناصرية” ولدت في سورية “الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة” على أثر الانفصال 1961 و المشكلة التي كانت تواجهنا و مازالت هي المفارقة بين طبيعة النظام الشمولي البوليسية الهدامة، و بين الغائية النبيلة لمشروع التحرر و النهوض العربي، و قد كان جمال عبد الناصر الذي ننسب ناصريتنا إليه بالنسبة لنا هو تلك الغائية النبيلة، و ليس النظام البوليسي، و قد أمضينا أعمارنا في التبرير، و أن ذلك النظام كان نظام الضرورة بسبب طبيعة الوصول إلى السلطة عام 1952 و بسبب المعارك المتلاحقة، لكن بعد الغياب الحزين تحولت المشكلة إلى فاجعة، فعلى صعيد الوطن العربي برزت ظواهر تسلط و قهر و استبداد تستند إلى ما كان في مصر، و في مصر ذاتها أنتج ذلك النظام أنور السادات، و كامب ديفد، و حسني مبارك، و حتى محمد مرسي يمكن اعتباره في ذلك السياق، فهل من المقبول أن نطالب بإعادة انتاج النظام البائس الذي انقلب على جمال عبد الناصر، و غائيته النبيلة ؟ .
الثانية: إن زمن الانقلابات العسكرية و نتائجها الكارثية قد ولى يا سيدة هدى، و أن الشعب العربي في مصر، و في الأمة العربية عموماً دفع أثماناً باهظة من حريته و كرامته و افتقاد السيادة على وطنه، أما الحكم المدني الذي تحدثتي أنه كان حلم جمال عبد الناصر منذ عام 1956 فقد سدت السبل إليه أجهزة المخابرات و المؤسسة العسكرية طيلة العقود الماضية، و لم يلوح هذا الحكم المدني في الأفق إلا بفعل ثورة 25 يناير 2011، و بالتالي فإن شباب ميادين التحرير العربية هم الحامل الموضوعي لحلم جمال عبد الناصر، و كان من الأجدى أن تتوجهي إليهم بالخطاب لبناء مؤسساتهم السياسية و التمسك بالقرار و الإرادة و عدم التنازل عنهما لأحد كائناً من كان، أما واجب المؤسسة العسكرية الوطني فيكمن في حماية ميادين التحرير، و ليس في احتلالها، و استلاب قرار، و إرادة الثوار .
الثالثة: أن التشبيه بين جمال و السيسي ظالم لهما معاً، فالثورة عند جمال و لدت أولاً من رحم الحصار في فلوجة فلسطين، و بعد ذلك ثانياً من تحالفه و ضباطه الأحرار مع الفدائيين الأحرار الذين أفرزتهم القوى الوطنية، و الحزب الوطني “حزب أحمد عرابي و مصطفى كامل و محمد فريد و عصمت سيف الدولة” لمقاومة الاحتلال الانكليزي في مدن قناة السويس، و بعد ذلك تحرير مصر ثالثاً من تحكم السفارة البريطانية بالقرار المصري و من فساد الطبقة السياسية التقليدية، و بعد ذلك رابعاً الثأر من مرارة النكبة في فلسطين و التي ساهم فيها حكام العرب بالدور الرئيسي، و بعد ذلك خامساً الانطلاق بالثورة من رحم موجة الغضب العربي الجارف على الخيانات، و هكذا جاء جمال عبد الناصر كحامل لمشروع تحرر عربي و إنساني مقاوم، و لهذا قال: ( أنا لم أخلق القومية العربية هي التي ….) الحلم يا سيدتي كان يشمل الإنسانية جمعاء و الأدوات كانت محدودة بين يديه، لم يكن قائداً لمعارك التحرر العربي، و حسب، و إنما كان رمزاً للتحرر الإنساني على صعيد العالم، لكن نظام الضرورة خذله حياً، و انقلب على مشروعه فور غيابه؛ أما الفريق السيسي فجاء من زمن الردة، زمن “كامب ديفد” و فساد مبارك و لم نسمع منه كلمة واحدة حتى الآن ضد كامب ديفد، أو المشروع الصهيوني، و رغم ذلك كنا نامل أن يلتزم دوره بتنفيذ الإرادة الشعبية و ليس التحكم بها، حماية ميادين التحرير و الحرية و ليس احتلالها، أن يقوم بدوره كوزير في حكومة انتقالية مؤقته تنفذ خارطة طريق لا أكثر من ذلك و لا أقل .
يا سيدة هدى، لقد خرج المارد العربي في مصر من القمقم، و هو المعني بأن يعيد لمصر القرار المركزي للأمة، و الإرادة التي غيبّها الطغاة لعقود، و هو الأولى أن نتوجه إليه بالخطاب ليأخذ مقاليد الأمور بيديه، و نحذره من تسليم مصيره لطاغية بعد الآن كائناً من كان ولا تصدقي يا سيدة هدى مصطلح “المستبد العادل” فالاستبداد و العدل لا يجتمعان في مكان واحد أبداً .
لقد قال أجدادنا يوماً: أن التراجع عن الخطأ فضيلة، و أنتِ يا سيدة هدى جمال عبد الناصر أهل لذلك… فهل تلبي النداء .
و صباح الياسمين يا جمال…!
المصدر: صفحة الراحل حبيب عيسى