التجديد الثقافي والتنمية.. ملاحظات حول التاريخ الثقافي المصري في عالم متغير

نبيل عبد الفتاح

شكلت الثقافة المصرية الحداثية أحد محركات الإصلاح الاجتماعي والتطور السياسي في مصر، منذ بناء الدولة الحديثة، وطيلة المرحلة شبه الليبرالية، وحتى الآن. وكان المكون الثقافي أحد عوامل تشكيل النخبة السياسية والثقافية، والاجتماعية، خاصة الطبقات الوسطى، وساهم في الارتقاء بنوعية التعليم العام والجامعي، قبل تدهوره في عهدي السادات ومبارك. وساهمت الثقافة في الحراك الاجتماعي لأعلى، وتشكيل طلب اجتماعي تاريخي عليها، بعد تراجعه في نهاية عقد السبعينات، وما بعد ذلك، لصالح الثروة كركيزة للمكانة الاجتماعية والنفوذ! وأدى الانفصال بين المكون الثقافي وسياسة ومناهج التعليم والإعلام إلى تراجع دور الثقافة في التنمية، وفي الحوافز الاجتماعية، وأثر ذلك سلبا على دور المفكرين والمثقفين في الحياة العامة، وتراجع أدوارهم التاريخية، سواء في إطار حركات التحرر الوطنى، أو بناء الدولة الوطنية، والأهم في بناء المكانة الثقافية المصرية في الخارج، على نحو أدى إلى بروز مواقع جديدة منافسة.

ومع تنامي الوفورات المالية لدى بعض الدول العربية اتجهت هذه الدول إلى التوسع في توظيف المثقفين المشرقيين، ثم المراكز الثقافية المغاربية، وهو ما يكشف عن أن الثقافة ومراكز الإنتاج الثقافي العربي باتت جزءاً من سياسة هدفت إلى جذب الجماعات الثقافية العربية.

غالب المثقفين والمبدعين في مجتمعات الوفرة المالية يعتمدون في نشر أعمالهم، ونقدها، على خارج بلدانهم! ومن الملاحظ أن هناك انفصال بين الثقافة، والتنمية، والحرية في عديد من هذه البلدان، وبين سياساتها في مجال التنمية النيوليبرالية، والفوائض المالية الضخمة التى تعتمد عليها هذه البلدان، التي حولت الثقافة من مجال حرية الرأى والتعبير والبحث، والتدين والاعتقاد، إلى مجال الترفيه. لا شك أن هذه السياسات الثقافية أثرت سلبا على تطور الجماعات الثقافية العربية -وعديد أجيالها- وعلى العلاقة وثيقة العرى بين الثقافة والحرية، وبين الثقافة والتنمية، والثقافة والسياسة في العديد من الدول العربية.

من هنا نحاول في هذه الدراسة الوجيزة إبداء بعض الملاحظات حول أزمات الانفصال بين الثقافة والحرية، وبين الثقافة والسياسات الاقتصادية والتنموية، وبين الثقافة وإعاقات إيجاد حلول خلاقة للثنائيات المتضادة تاريخيا التى أثرت سلبا على فتح الطرق أمام تقدم المجتمع المصري،  وإعاقة محاولات تطوره التاريخي. ونطرح فيما يلي أهم هذه الملاحظات.

1- منذ نهاية القرن التاسع عشر، والسؤال الرئيس الذى يواجه العقل المصري، والعربى، لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟ الذى صاغه شكيب أرسلان. هذا السؤال أُعيدت صياغته في عديد الكتابات، أيا كانت توجهاتها الفكرية والسياسية، وذلك سعيا وراء تشخيص حالة التخلف التاريخي المركبة، التى تراكمت عبر مسارات المراحل التاريخية المختلفة، بدءا من الاحتلال العثمانى.

2- تعددت الإجابات المختلفة حول سؤال لماذا تقدم الغرب، وتخلف العالم العربى؟ كانت غالب التشخصيات لحالة التخلف التاريخي، تركز على ما أطلق عليه الثنائيات أو الضدية، بين العقل والنقل، بين الحرية والاستبداد، بين العلم الحديث والتراث الدينى، بين التقليدية والحداثة، بين الدين والدولة، بين دولة التعبئة وأزمة الحريات العامة والشخصية، بين الأصالة والمعاصرة ، وبين الإسلام السياسي والدولة الحديثة.

3- غالب الثنائيات المتضادة كانت علامة على النزعة التعميمية في صياغة المقولات السياسية والفكرية والفلسفية التى وسمت العقل والفكر المصري، والعربي. الميل إلى المقولات العامة الحاملة لبعض التبسيط في التشخيص والتحليلات العامة، والسائلة وغير المنضبطة إصطلاحيًا وتحليليا، وغياب الدراسات الميدانية والتاريخية النقدية، كانت ناتجة عن الملاحظات العامة، وميل بعض من رواد الفكر العربي إلى دمج بعض من الترجمات المنتحلة من بعض الكتابات الغربية داخل كتاباتهم دونما إسناد مرجعى لهذه الكتابات، وهي ظاهرة كانت سائدة لدى بعضهم آنذاك.

4- بعد نشأة الجامعة المصرية، والبعثات إلى أوروبا -خاصة فرنسا- بدأت بعض تقاليد البحث الأكاديمي والمنهجي تستمد من بعض التقاليد السائدة في الدرس المنهجي الأوروبي، ومن المناهج والنظريات والمفاهيم، ويستعاد بعضها في الكتب الجامعية في علوم الاجتماع، والفلسفة، والجغرافيا، واللغات الأجنبية، ومعها حركة الترجمة التى كانت رائدة وسباقة منذ بدايات مشروع النهضة المجهضة.

5- في الدرس القانوني التاريخي، وفى فروع العلوم القانونية، تشكلت ثقافة قانونية حديثة، مع استمداد القانون الغربي الوضعي الحديث وبعض نظرياته في عهد محمد على باشا، وغالبه في عهد إسماعيل باشا، وذلك لدمج تجارة القطن ضمن النظام الاقتصادى الدولى آنذاك. وهو ما اقتضى إنشاء المحاكم المختلطة، من خلال توحيد القانون -على النمط الإيطالى، والبلجيكى والفرنسى- وهى المهمة التى قام بها المحامى السكندرى المتمصر مانوري، ثم إنشاء المحاكم المختلطة حتى توحيد جهتى القضاء بعد اتفاقية مونتريه 1937.

6- استمداد الهندسات القانونية والاجتماعية الحاملة لها أدت إلى تحفيز الديناميات الاجتماعية الحديثة، وإلى إنتاج فكر قانوني حداثي، وهو ما ساهم في تطوير وتحريك عمليات التحديث السلطوى للقيم، والنظام الاجتماعي في مصر. وعلى الرغم من أهمية هذا الدور، إلا أن الفكر القانوني المصري، والقضائى، حاول تطبيع المصطلحات القانونية الغربية، من خلال اللجوء إلى بعض المواريث الإصطلاحية لأصول الفقه، والنظام القانوني للشريعة الإسلامية من خلال إستراتيجية لغوية وإصطلاحية رمت إلى بناء جسور بين التراث القانوني والفقهى للشريعة، والقانون الوضعى الغربى الحديث. ومن الملاحظ أن البعثات العلمية إلى الجامعات الفرنسية ساهمت في تكوين بعض أساتذة كليات الحقوق على النمط الفرنسى، وهو ما ساعد  في استمرارية الجسور مع مصادر المعرفة القانونية اللاتينية –أساسا- وخاصة في المرحلة شبه الليبرالية، وحتى منتصف ستينات القرن الماضى.

7- لا شك أن تراجع حركة البعثات إلى فرنسا وإيطاليا –ومعهما الدول الغربية- منذ عقد ثمانينات القرن الماضى، أدى إلى فجوات بين العقل المصري القانوني، وبن التحولات في الفكر القانوني العالمى، والمقارن، وذلك مع بعض التوجه الجزئى إلى الفكر القانوني الأمريكى، وأحكام ومبادئ المحكمة العليا بالولايات المتحدة في بعض أحكام المحكمة الدستورية العليا بعد إنشائها وتطور أحكامها ومبادئها العامة.

8- لا شك أن هيمنة فكر الإسلام السياسي في العقود الأخيرة من القرن الماضى، والعقود التالية من القرن الحادى والعشرين، ودراساته الشكلية المقارنة مع الفكر القانوني الغربى، ومصادره التقليدية وفلسفته، أثرت على العقل القانوني والقضائى المصري، وعلى الأحكام والمبادئ القضائية. لا شك أن ذلك مرجعه التأثير والتأثر بين الجماعات القانونية والقضائية، والمحامين، وبين البيئة السياسية والدينية السائدة في المجتمع المصري، وتحولاته السوسيو- دينية، والاقتصادية في ظل تفاقم أزماته اللاحقة حتى المرحلة الحالية.

9- أدت هذه التغيرات المختلفة إلى عديد القيود على الحريات العامة، والشخصية، والأخطر محاصرة العقل النقدى الحر، مع تنامى رفع بعض الجمهور، والدعاة الدينيين المتشددين –وحركيو الجماعات الإسلامية السياسية- لدعاوى الحسبة، ضد بعض المثقفين، والكتابة والكتب والآراء المغايرة لأفكارهم الدينية والتأويلية الوضعية، بدعوي مخالفة الشريعة الإسلامية.

10- ساعد إنشاء الجامعات الإقليمية المتعددة -ومعها كليات الآداب والحقوق وكليات التربية والعلوم الإنسانية- دون مقومات موضوعية لها، على تدهور إنتاجها العلمي، خاصة في ظل منحها للدرجات العلمية –الماجستير والدكتوراة- وندرة البعثات الخارجية إلى الجامعات الغربية، وهو ما أدى إلى تراجع كبير في مستويات الإنتاج العلمى، الذى بات محليًا، ويفتقر غالبه إلى الجدة والفكر الخلاق في مجال العلوم الإنسانية، وخاصة الفلسفة، وعلم الاجتماع والعلوم القانونية، وغياب رؤى تربط بين هذا الإنتاج وبين التنمية وسياستها ومشكلات المجتمع المصري المتراكمة. من ناحية أخرى، حدث انفصال  بين التدريس والبحث الاجتماعي، وباتت الكتب ذات طابع مدرسي تدور حول الدرس “الأكاديمى”، مقابل تركيز الأساتذة على الكتب المدرسية -المقررة على الطلاب- بديلا عن متابعة البحث في التخصصات المختلفة وتطوراته في الفكر العالمي والمقارن.

11- لوحظ أيضا تراجع نسبي لمتابعة الفلسفات الجديدة في الغرب من منظور نقدي – وأيضا الفلسفات الآسيوية- ومعها تدهور بعض الإنتاج الفلسفي المصري مقارنة بالإنتاج الفلسفي والترجمات في المنطقة المغاربية –تونس والمغرب والجزائرً- ناهيك عن انفصال الدرس الفلسفي عن الحياة ومشكلاتها الوجودية والسياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع والدولة المصرية، وأيضا على المستوى العالمي والعربي إلا قليلا.

الإشارات السابقة عن أزمات الإنتاج العلمى في الجامعات، وفق الواقع الموضوعى المصري والعربى الراهن، مرجعها أزماته المتعددة، مقارنة بالمراحل التاريخية السابقة، منذ إنشاء الجامعة المصرية، وفى المرحلة شبه الليبرالية إلى أوائل نظام يوليو 1952، وفوائض المرحلة شبه الليبرالية، ومفكريها البارزين، والارتكاز عليها.

12- في عقود نظام يوليو 1952 المختلفة من الناصرية إلى الساداتية، شهدت الحياة الثقافية المصرية والعربية حالة من هيمنة الإيديولوجيات -أيا كانت مصادرها الماركسية، والاشتراكية العربية، والفكر القومى العربى، ثم الإيديولوجية الرأسمالية الاقتصادية في عهد السادات- وهو ما أثر سلبا إلى حد ما على العقل النقدى الحر، وتحول التفكير حول مركزية الشعار الإيديولوجى والتعميمات المفرطة، والأحكام القيمية، على الخطابات السياسية، والثقافية، المنفصلة عن أسسها الفلسفية والاقتصادية والسوسيولوجية، وهو ما ساهم في إفقار بعض هذه الخطابات معرفياً.

13- لا شك أن السياسة الثقافية في كل مرحلة من هذه المراحل تأثرت بالتوجه الإيديولوجى للسلطة السياسية، ومعها الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، والثقافى، ومن ثم أدت إلى عمليات تبسيط وتسطيح للعقل العام. من ناحية أخرى، أثر ذلك على مناهج التعليم العام، والتنشئة التعليمية على وجه الخصوص، وعلى تأليف المقررات التعليمية، والأخطر على كتابة التاريخ في هذه المناهج، التى تغيرت مع كل مرحلة، وهو ما خلق حالة من بعض  التشوش، والتخليط اللا تاريخى، والأخطاء العلمية حول تاريخ مصر العام، وتاريخ المرحلتين شبه الليبرالية، ومراحل نظام يوليو 1952، والنزعة إلى أدلجة تاريخ الشعب المصري، والإفراط في الأحكام اللاتاريخية، التى تعتمد على التبسيطات المخلة.

14- أدت بعض القيود التاريخية على الحريات العامة، والشخصية، وخاصة حريات الرأى والتعبير والبحث العلمي، إلى تقييد العقل النقدى الحر، على نحو أثر سلباً على الفكر النقدى الحر، وعلى المحتوى المعرفى للإنتاج العلمى في مجال العلوم الاجتماعية بمختلف فروعها القانونية، والسياسية والفلسفية والأدبية..الخ، وعلى الإبداع الأدبى الروائى، والقصصى، والشعرى، بل وامتد إلى الفنون الجميلة في التصوير، حيث الامتناع عن رسم “الموديلات” العاريات كما كان يحدث في كلية الفنون الجميلة. بعض ذلك مرجعه تمدد الفكر الدينى الإسلامي السياسي، والقيم الاجتماعية المحافظة، والمتشددة في الوسط الجامعي، والمجتمع المصري الذي مال إلى المحافظة والتدين الشكلي في أعقاب هزيمة يونيو 1967 ثم في العقود التي تلت حرب أكتوبر 1973.

15- تزايدت بعض الفجوات بين الدرس الأكاديمى في الجامعات، وبين الحياة الثقافية، وحدث صدع بين الدراسات والبحوث، وبين مشاكل الثقافة المصرية، وبين الحياة الأكاديمية، والحياة الثقافية، وعلى نحو مغاير للتقليد التاريخي في المرحلة شبه الليبرالية، وبعض فوائضها في المرحلة الناصرية، من التفاعل بين الجامعة والمجتمع، والجامعة والثقافة والجماعات الثقافية، وذلك على الرغم من أن بعض قيادات وزارة الثقافة كانوا من المنتدبين من الجامعات الكبرى، خاصة جامعتي القاهرة وعين شمس، ثم امتد إلى بعض الجامعات الإقليمية الأخرى.

16- الانفصال بين التكوين التعليمي والثقافى الذي بات يشكل ظاهرة عامة، وتحول إلى واحدة من مشكلات تشكيل العقل العام للمتعلمين –في التعليم العام والجامعى- على نحو ساهم في هامشية الطلب الاجتماعي على الثقافة، والإنتاج الثقافي الفكرى والإبداعى، ثم إلى غيابه منذ عقد التسعينات في عهد الرئيس الأسبق مبارك، وصولا إلى الانتفاضة الجماهيرية “الثورية” الطابع، في 25 يناير 2011، وما بعدها، ووصول جماعة الإخوان والسلفيين إلى سدة السلطة.

17- تراجع الاهتمام السياسي بالثقافة والجماعات الثقافية لأسباب عديدة، ما أدى إلى ما سبق أن أطلقنا عليه “صمت المثقفين”، إلا قليلاً منهم!

18- في أعقاب 25 يناير 2011، وحكم الإخوان، و30 يونيو 2013، حدثت حالة من الانفجار الروائى، من بعض الأجيال الشابة -وبعضها من أجيال سابقة- إلا أن غالبه اتسم بالسطحية، وضعف البنيات، والركاكة الأسلوبية، والأخيلة الضحلة، وبعضها على قلته اتسم بالموهبة، والملكة الإبداعية، والتخييلات الخصبة، والاستثنائية.

ويبدو لى أن هذه الحالة سوف تتبلور مستقبلا، وتنضج بعض تجاربها الروائية الجديدة، والشابة، وتنضج بعيداً عن صخب الوضعية الحالية، والسرديات التى ينحسر عنها عمق التجربة الإبداعية، والنضج الإسلوبى، والبناء السردى المحكم، وصخب الدعاية والترويج من بعضهم، وبعض من دور النشر، والمجموعات “الشللية” المحيطة ببعض الكتاب الجدد، من نوادى القراءة على الواقع الرقمي أو الفعلي، وبعض الصالونات الثقافية!

19- مع تراجع توزيع الصحف والمجلات الورقية، في ظل الثورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، تحولت غالب الأجيال الجديدة –وبعض سابقيها- إلى القراءة الرقمية فائقة السرعة، وانحصر غالب النقد في الدوائر المدرسية بالجامعات، وقلة قليلة في بعض المجلات الثقافية -محدودة التوزيع- ورقيا، ورقمياً. في هذا الإطار، بدا عدم فاعلية بعض الخطاب النقدى، وتأثيره على الحركة السردية الروائية والقصصية والشعرية، وذلك لظهور نمط من القراءة الومضة السريعة – كما سبق أن أطلقنا عليها- والوجيزة جدا، والمكثفة، ولكنها لم تؤثر حتى هذه اللحظة في الخطاب النقدى الأدبى، والسوسيو- سياسى، والسوسيو- قانونى، والفلسفى عموماً، من حيث إيجازه، وكثافته ومحموله، واصطلاحاته  ولغته، وهو ما أدى إلى تهميشه لمستهلكى خطاب المنشورات والتغريدات، والانستجرام، والفيديوهات الطلقة.

20- تعانى الحركة التشكيلية المصرية –التصوير والنحت والأعمال المركبة- من عديد المشكلات التى تؤثر على مسارات الثقافة المصرية والعربية، وعلى رأسها ما يلى:

أ- هامشية المكون الفنى –الرسم والنحت والموسيقى- في مناهج التنشئة التعليمية في التعليم العام، والفنى، وأيضا التعليم الجامعي، في العلوم الإنسانية، والطبيعية، على نحو أدى إلى عدم تشكيل ذائقة فنية وجمالية لدى الطلاب، تستطيع مقاومة ذائقة القبح وثقافته في حياة الأفراد والمجتمع، ومن ثم غلبة الانفصال بين المجتمع والفنون التشكيلية، وحركتها وابداعاتها المتعددة، وأجيالها المختلفة من الشيوخ والشباب. من ثم، اقتصارها على مجموعات صغيرة جدا ومحدودة من متذوقي ومقتني الفن التشكيلي على قلتهم القليلة جدًا، وخاصة من الطبقات العليا، وقلة نادرة من الوسطى العليا.

ب- غياب الثقافة التشكيلية، وتطورات مدارسها الفنية عن بعض الوعي الاجتماعي شبه الجمعي للمصريين بالفنون التشكيلية، على نحو تبدو بعض اللوحات والقطع التحتية غريبة وغير مفهومة لدى غالبيتهم الساحقة.

ج- الانفصال شبه الجماعي بين غالب الجماعة الثقافية بالفنون التشكيلية، وتذوقها، واقتنائها، وعدم ارتياد المعارض المختلفة، كجزء من التكوين الثقافي، وقلة قليلة جدا هي من ترتاد المعارض للفرجة.

د- قيام بعض الشيوخ المتشددين دينياً من السلفيين ودعاة الطرق –بتعبير الأستاذ العميد/ طه حسين- وغيرهم بتحريم اللوحات التشكيلية والقطع التحتية، كجزء من خطاب التحريم، والتكفير السياسي، الذى يهدف، ولا يزال، إلى تأثيم الإبداع عموما، والفنون وبعض السرديات الروائية والقصصية، وبعض الأشعار، وذلك في إطار الهجمة الممتدة على الجماعة الثقافية، والحد من تأثيرها الثقافي والاجتماعي والسياسي.

بدا هذا الاتجاه تاريخيا مع رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” والتي نشرتها جريدة الأهرام، وظلت ممنوعة عن الطباعة والنشر في مصر، واقتصر نشرها على بيروت عام 1962، ومنها للقراء في العالم العربى. ثم مع تمدد الحركة الإسلامية السياسية والراديكالية توسع الهجوم على بعض الأعمال الفنية، والغنائية، والسينمائية مع خطاب الشيخ عبدالحميد كشك –وآخرين- وتوظيفه لثورة الكاسيت في توزيع خطاباته الهجومية على بعض المطربين، والمطربات، والممثلين والممثلات. استمر هذا الاتجاه، مع أزمة رواية “وليمة لأعشاب البحر” التى نُشرت بالقاهرة عام 2000 وصدرت عام 1982 في بيروت، ثم أزمة الروايات الثلاث –”أحلام محرمة” لمحمود حامد، و”أبناء الخطأ الرومانسي” لياسر شعبان، و”قبل وبعد” لتوفيق عبدالرحمن- وصدروا عن هيئة قصور الثقافة، حيث تقدم 13 نائبا من الإخوان المسلمين والمستقلين والحزب الوطني بطلب عاجل لاستجواب وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى، وتم سحب الروايات الثلاث من الأسواق. تمددت هذه الظاهرة التى تم الخلط فيها بين الواقع الموضوعي، وبين الواقع في السرد، والتخييل، والمجازات في الفن، وأيضا في الفن التشكيلي.

21- لا شك أن خطاب التحريم، والتكفير الدينى، المتشدد سياسيا وتأويليا وضعي بامتياز، ويخالف الاتجاه الإسلامي الإصلاحي الممتد من الأستاذ الإمام محمد عبده، وبعض تلاميذه في الإفتاء بشرعية فن التصوير والذي حُوصر بعد ذلك في ظل عهدي السادات ومبارك. هذا الخطاب التشكيكي التكفيري والتحريمي كان جزءاً من السياسة الدينية للتيار الإسلامي السياسي، والجهادى الراديكالي، وأثر على نحو بالغ السلبية على الفنون التشكيلية في مصر، وبعض دول المنطقة.

22- الفاعليات الثقافية في بعض الدول العربية النفطية باتت تستأثر باهتمامات الجماعات الثقافية العربية، من حيث المشاركة فيها، والرغبات المحمومة لدى بعض الكتاب للحصول على بعض جوائزها. بعض هذا الاهتمام مرجعه الأوضاع الاقتصادية لبعض الروائيين، والقصاصين والشعراء والأكاديميين، على نحو أثر على مستويات الإبداع، والإنتاج الفكرى والكتابة الدورية.

23- مشكلة بعض الفاعليات الثقافية العربية إنها رمت إلى أن تكون مركزاً لجذب المثقفين والمبدعين والفنانين التشكيليين، والمطربين والمطربات، والممثلين والممثلات، والملحنين، ومخرجي السينما، وذلك بهدف الحصول على العوائد المالية، أو لتوسيع قاعدة انتشارهم الجماهيرية تحقيقا للشهرة والذيوع. هذه الفعاليات الثقافية تهدف إلى “الترفيه” للقواعد الاجتماعية من الطبقات الوسطى. الملاحظ أن أنشطة ثقافة الترفيه يبدو المكون الغالب لها ذو طابع يتسم بقدر من مخاطبة الحواس كالموسيقى والغناء المرقص، والأغانى القصيرة؛ والسريعة -المصرية أو اللبنانية أو السورية وبعض من الأغانى المغربية والجزائرية- بإيقاعاتها السريعة على النمط الغربى في ظل تراجع الأغانى والموسيقى الطويلة التى شاعت في منتصف القرن الماضي وحتى الثمانينات، وذلك لمخاطبة مشاعر وحواس، وذائقات الأجيال الجديدة، خاصة جيل زد/Z في بداية عقدى القرن الحالى الأول والثانى، والثالث الذى نحياه.

24- هذا النمط من ثقافة الترفيه، يعكس بعض التحولات في الثقافات العالمية والغربية، وفى ذات الوقت يُعد تحولاً كثيفاً، ومواكباً ومساوقاً للتحولات في الثقافات النيوليبرالية الوحشية، التى ارتكزت على مفهوم الإنسان المستهلك، ومن ثم ثقافة الاستهلاك والاستعراض، والتمثيل وحالة النهم والولع بكثافة عمليات الاستهلاك للسلع، والخدمات، والاستدانة من المصارف، في شبكة من دوائر الاقتراض لتمويل الاستهلاك المفرط.

25- لا شك أن ثقافة الاستهلاك باتت كونية، ويعاد إنتاجها وتشكيلها مع الثقافة الرقمية، والأخطر أن الشركات الرقمية تُخضِع الفضاءات الرقمية وتفضيلات المشاركة في وسائل التواصل الاجتماعي للرصد والتصنيف، وتبيعها للشركات الرأسمالية الكبرى، لكى تغذى رغبات مئات الملايين، بل والمليارات، من البشر من الثقافات المتعددة كونيا، وتعيد تشكيل أنماط السلوك الإنسانى الاستهلاكى وفق هذه الرغبات والتفضيلات، بل وتعيد صياغتها وتوليدها، وفق مصالح وإنتاج هذه الشركات الرأسمالية على اختلاف تخصصاتها الإنتاجية والخدمية.

26- مع هيمنة أنماط السلوك الاستهلاكي المكثف تراجعت جزئياً، ونسبيا، ما كان يطلق عليها الثقافة الرفيعة -الأوبرا، والسيمفونيات، ومشاهدة معارض الفن التشكيلي، والكتب الفكرية والفلسفية..الخ- وذلك لصالح ثقافة الاستهلاك، والترفيه في الأغانى، والموسيقى المرقصة السريعة، والتحول إلى استهلاك الثقافة المرئية الوجيزة، من الفيديوهات الطلقة، في طقس المشاهدات، والفرجة الومضاتية (من ومضة) ومعه المشاركة المرئية عبر الفيديوهات في عديد تفاصيل الحياة اليومية، في المأكل، والمشرب، والعقائد الدينية، والمواقف والآراء السياسية، وفى القيم الاجتماعية، وفى النزعة الحواسية، وإظهار بعض مكامن الإثارة في الجسد الأنثوي لبعضهن، وفى نظام الزي.. الخ! تجلت ثقافة الاستهلاك والترفيه والإثارة الحواسية في توسع مشاهدات الزيارة للمواقع الإباحية، ووصلت نسبتها في مجمل الإنترنت 12% في عام 2018، ووصل عدد الزيارات للمواقع الإباحية إلى 91 مليار زيارة، ويدخل إلى هذه المواقع حوالى 28 ألف مستخدم كل ثانية، ويتم إنفاق أكثر من 3 آلاف دولار في الثانية الواحدة على الإباحية، ويصل عدد المواقع الإباحية على الإنترنت إلى حوالى 4.2 مليون صفحة، وحوالى 66% منها لا تتضمن إنذار يخبر المتداول إنها للكبار فقط.

27- ومن المثير أن قائمة الدول الأكثر دخولا إلى هذه المواقع شملت الولايات المتحدة، بنسبة دخول بلغت 25.2٪، ثم إيران بنسبة تصل إلى 7.3%، والإمارات العربية المتحدة بنسبة 7.1٪، ومصر بنسبة 5.5٪ تقريبا، والبحرين بنسبة 4٪، وكندا بنسبة 3.6٪، والكويت بنسبة 3.4٪، والهند 3.3٪، وفى فيتنام وصلت النسبة إلى 3.3٪ المائة، وفى قطر وصلت إلى 3.2٪، وفى السعودية وصلت النسبة إلى 2.5٪، والصين وصلت إلى 2.2٪، وفى فرنسا 2.1٪، وفى فلسطين 1.8٪، وفى إندونيسيا 1.5٪. ووصل إجمالي القيمة السنوية لصناعة الإباحية في العالم 12 مليار دولار أمريكى، وهو رقم يتزايد سنويا (أنظر موقع المرسال https://www.almrsal.com/post/345044).

أعداد مستهلكى هذه المواقع تتزايد كونيا وعربيا، وتعيد تشكيل السلوك الجنسي لمستهلكيها، وفى ذات الوقت تنتج إدراكات ورغبات عصية على التحقق في الواقع الفعلي، سواء في نطاق مؤسسة الزواج أو المساكنة، على نحو يخلق حالة من عدم الإشباع الحواسي والحميمي. من ثم، يبدو استهلاك الأفلام والمواقع والصور والفيديوهات الإباحية هروبا من الواقع الاستهلاكى المفرط، إلى نمط من الفرجة والاستهلاك الجنسى البصرى.

28- لا شك أن هذا الانفجار الإباحى على الواقع الافتراضى هو أحد أنماط ثقافة الاستهلاك المكثف عالميا وعربيا. وتؤثر ثقافة الاستهلاك الجنسى في عدم التحقق الذكوري والأنثوي، والتصدع الأسرى، وازدياد العلاقات الموازية للزواج، والخيانات الزوجية، وارتفاع سن الزواج، وأيضا لأسباب اقتصادية واجتماعية ودينية أخرى.

ثقافة الاستهلاك المفرط، أدت إلى توليد متزايد للرغبات وتوسعها، سواء كانت تفضيلات ورغبات حقيقة، وإنسانية متوازنة، وأيضا مصطنعة من قبل الشركات الرأسمالية، وقامت بعمليات لتشيؤ الإنسان، وتحويله إلى كائن استهلاكي، وشيئ من الأشياء، يتم توليد الطلب الاجتماعي والاستهلاكى لديه من قبل هذه الشركات الرقمية الكونية العملاقة، وتبيعه كسلعة، وشئ إلى الشركات الرأسمالية الكبرى في مجال إنتاج السلع والخدمات.

29- ثقافة الاستهلاك المفرط وتسليع الإنسان أدت إلى نزع وشل المشيئة والإرادة الإنسانية، ومن ثم تعلية الفردية والفردنة في المجتمع الرأسمالى فائق التطور، التى تحولت إلى محض صفة ومجاز سياسي، حيث تم تحويل الإنسان/ الفرد/ الفاعل الاجتماعي، إلى مفعول به سياسيا، من خلال الإعلام التقليدي -التلفاز، والقنوات الفضائية، والإذاعة، والصحف والمجلات الورقية- إلى كائن رخو يتم صياغة توجهاته السياسية والحزبية دون مشاركة فعالة، والأهم ازدادت السلعية السياسية للفرد في النظم الليبرالية الغربية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، التى يتم استخدامها في وظائف إعادة تشكيل وصياغة الاتجاهات والمواقف السياسية. بعض استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي لدى بعض المشاركين تحاول التخلص من سياسة إعادة التوجيه.

من الملاحظ أن نظم المراقبة الرقمية يزداد حضورها سياسيا على المستوى الكوني، وأخطرها في بقايا الدول والنظم السياسية، والشمولية والتسلطية، حيث تهيمن ثقافة المراقبة الرقمية على الرغم من تحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى فضاءات سياسية واجتماعية ودينية للتعبير عن الغضب السياسي والاجتماعى والدينى.

30- تشكل ثقافة الترفيه محاولة لإعادة صياغة الطبقة الوسطى في العديد من الدول، من أجل إنتاج حالة من الاسترخاء الاجتماعي، وتفريغ وتبديد بعض الغضب الاجتماعي والسياسى، من ثم يتم الاتفاق الكثيف على أشكال ثقافة الاستهلاك المفرط في مجال الفنون. من ناحية أخرى، بدأ عصر نهاية الخصوصية التى شكلت أحد وأبرز الحقوق الشخصية في إطار القيم الغربية والإنسانية.

31- من أبرز مشاكل الثقافة العربية علاقة الدين بالتنمية، وخاصة في ظل النظم الرأسمالية النيوليبرالية، وثقافة الاستهلاك المفرط، والترفيه، حيث ظهرت في إطارها ثقافة الاستهلاك الدينى الوضعى، والأحرى ثقافة التدين الوضعى الشعبى، وبعض قيمها التى تناهض الحرية وحقوق الإنسان، والحياة الفردية، والخصوصية. وفرض التدين الشعبي والإسلاموي السياسي والسلفي الوضعى الفعلى، والافتراضى سياجات تعتقل الفرد وحرياته الشخصية والعامة في أطرها، وهو ما يعيق حرية المبادرة الفردية، ومن ثم الفاعلية الفردية في إبداع الأفكار، ويعيق إمكانيات المشاركة السياسية والمجتمعية الفعالة.

32- أعاق العقل التوتاليتاري، والعقل التسلطى السياسي، بما في ذلك داخل بعض قوى المعارضة السياسية، وأحزابها العلنية، إمكانيات تحفيز العقل العام والوعى شبه الجمعي، بقدرة المجتمع على الانطلاق، وذلك من خلال تعزيز قيم العمل الخلاق، والمسؤولية، والعدالة كمحركات للتنمية والازدهار الاقتصادى. شارك العقل الشمولي والتسلطي العقل الديني الوضعي الداعم له في حصار الانسان بين سياحات العبادة الطقسية الشكلية واللغة الدينية والطاعة والخضوع الذي يستغلها العقل المستبد والطغياني.

ثمة دمج بين قيمة العمل الفردى/ الشخصي، والطاعة والانصياع لسلطات العمل من أعلى لأسفل، وهو جزء من الثقافة البطريركية، والنيوبطريركية السائدة في الثقافة الشعبية، على نحو عرقل المبادرة، والحوار بين العاملين ورؤسائهم في علاقات العمل.

33- أدى غياب النظرة الإيجابية السياسية والدينية إلى حرية الفرد، وإرادته الحرة ومشيئته كجزء من الثقافة السياسية السائدة في النظم السياسية الشمولية والتسلطية ما بعد الاستقلال، إلى هامشية مفهوم العمل الإيجابى وذلك خلال عقدى الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وذلك كنتاج لهيمنة السياسات السلطوية، وقراراتها، وعدم مساءلتها لغياب آليات المساءلة على نحو أدى إلى انفصال الثقافة الحرة عن ثقافة العمل التابع والسلطوي، ومن ثم بين مشروعات التنمية، وبين ثقافة وقيم الطبقة العاملة، والبروليتاريا، والبورجوازية الرثة، حتى بعد سياسة الانفتاح، ثم الإصلاح الاقتصادى، والخصخصة.

34- أدت مشروعات العودة إلى الطريق الرأسمالي اقتصاديا، والعودة إلى بعض النظم الليبرالية الغربية، دون الإصلاح السياسي، إلى استمرارية الثقافة السياسية التوتاليتارية، والتسلطية، وانعكاساتها في المجال العام السياسي، والثقافى، وقمع العقل النقدى الحر، والإبداع والمبادرة الخاصة أو الجماعية.

35- كانت الثقافة الشعبية الموجهة للطبقات الشعبية المعسورة منذ خمسينات القرن الماضى إلى ما قبل وما بعد هزيمة 5 يونيو 1967، هى ثقافة تعبوية، من خلال توظيف انتقائى للفنون الشعبية في عمليات التعبئة السياسية والاجتماعية ثم تراجع هذا الاهتمام في عقود الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وحتى عقود الألفية الحالية، نظراً لتراجع القوة الاجتماعية لهذه الطبقات، وارتفاع معدلات البطالة في العديد من المجتمعات العربية، وإدخال بعض التكنولوجيات الجديدة التى تحتاج إلى عمالة فنية محدودة العدد، وذات كفاءة نوعية، وهو ما سوف يتمدد ويتسع في عصر الذكاء الاصطناعى، ودمج بعضه في اقتصادات الدول العربية، حال حدوث ذلك في الآجال القريبة والمتوسطة والبعيدة، وتزايد أعداد العاطلين في عديد المجالات الصناعية، والاقتصادية، والتجارية، وفى الهندسة والتصميم، والنظام الصحى، وإجراء العمليات الجراحية، بكفاءة تتجاوز العنصر البشرى في هذه المجالات، وسيدخل الذكاء الإصطناعي في الفنون والتعليم عن بعد وفي القضاء والمحاماة وعالم الهندسة المعمارية والتخطيط وفي تفاصيل الحياة.

36- كانت ولا تزال ثنائية الدين والتقدم، والتراث والعصر، من أبرز الثنائيات المتضادة التى طرحها العقل العربى والتى تمحورت حولها عديد الإجابات والخطابات التاريخية حول سؤالها الرئيس: هل الدين عائق أمام التنمية والتطور الثقافي والسياسى؟ أم أن الدين محرك من محركات الثقافة والتنمية؟

37- لا شك أن أنماط التدين الوضعى، والفكر الدينى النقلي الموروث تاريخياً، شكلوا أبرز العوائق البنائية في التطور الاجتماعي والسياسى، نظراً لأن المواريث الدينية الثقافية والقيمية، ومحمولاتها السياسية، كانت جزءاً من أسئلة عصورها التاريخية الماضوية، وهيمنة عقل الحكام تاريخياً، وتوظيفهم للقيم والتأويلات الاجتماعية في حماية الملك العضوض، وساندهم في ذلك رجال الدين التابعين لهم. وفى الوقت نفسه ركزوا تفسيراتهم، وتأويلاتهم الدينية على قيم الطاعة والولاء والامتثال للحكام، وأيضا على الثقافة الميتاوضعية، وتناسلت معها سرديات دينية، تنفى الإرادة الحرة للمؤمن، وتكرس الجبرية الدينية، ومن ثم السياسية، ولرجال الدين بوصفهم وكلاء عن الله عز وجل سبحانه وتعالى!

كانت قيمة الحرية والإرادة الحرة موضوعاً للطمس في بعض هذا الفكر الدينى الوضعى، وساد في أنماط التدين الشعبى، لاسيما في الأرياف، حيث تسود الثقافة القدرية في الحياة اليومية، والحكايات والأساطير المنسوبة للدين، وليست لها علاقة بالنص المقدس تعالى وتنزه.

38- شكل التدين الشعبى الوضعى، ومحمولاته من الثقافة الريفية الشعبية عائقاً سوسيو- دينى، وثقافى إزاء ثقافة وقيم الحرية والمساواة والإرادة الحرة، وارتكز على الاتكالية في العمل ونفى وتهميش المسؤولية الفردية عن الفعل الاجتماعي.

هذا التراكم التاريخي لمواريث التدين الشعبى ومحمولاته، تضخم في مراحل التدهور الحضارى، وفى المراحل الاستعمارية. ومع صدمة الغرب، والحداثة والتحديث مع الحملة الفرنسية، لعب الدين دوراً في مقاومة المستعمرين، إلا أن سؤال: لماذا تخلفنا؟ لم يكن مطروحاً بقوة، وإنما حالة المقاومة عبر الدين، والأحرى التدين الدينى الشعبى الوضعى، ووُظف من رجال الدين ومؤسساته في مواجهة التغريب، والنزعات شبه الحداثية، وخطابات بعض مفكريها، على الرغم من بعض النزعات الإسلامية الإصلاحية، من جانب المشايخ الكبار مثل خليفة المنياوى، ورفاعة رافع الطهطاوى، والأمام محمد عبده، ومصطفى المراغى، ومحمود شلتوت، ومحمد عبدالله دراز وآخرين. هذا الاتجاه الإصلاحى واجه صعوبات من داخل الجماعة الدينية، بحيث لم تواصل مساراتها في إصلاح الفكر الدينى الوضعى، وتجديده من داخله، حول محاور الحرية والعدل، والإرادة الحرة، والمساواة بين الأفراد، أيا كانت صراعاتهم الاجتماعية، والمذهبية، والدينية.

39- حدث بعض التحول الوظيفى للدين في عهد الرئيس الأسبق السادات، في استخداماته للدين، التى استمرت من عصر جمال عبدالناصر، وأضاف إليها وظائف جديدة في استخدام الفكر الديني المحافظ والمتشدد، وفي بناء تحالفات جديدة مع التيار الإسلامى السياسي- الإخوان والسلفين، ودعاة السوق– في مواجهة اليساريين، والناصريين، والليبراليين المستقلين، وأيضا لإعادة بناء علاقاته السياسية بالدول العربية النفطية المحافظة في المنطقة، والولايات المتحدة، وأيضا في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد، لتبرير وتسويغ  وشرعنة التسوية السياسية مع إسرائيل، بدعم من شيخ الأزهر آنذاك وبعض كبار مشايخه (أنظر مؤلفنا: المصحف والسيف: صراع الدين والدولة في مصر، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1984). لقد تمددت الحركة الإسلامية الراديكالية، وسرديات الغلو الدينى المحافظ، ومعها خطابات الإخوان المسلمين، والجماعات السلفية، ودعاة السوق، والدعاة الجدد في عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك. في ظل هذه المرحلة، انفجرت الأعمال الإرهابية مصريا، وفى المنطقة، والعالم على نحو غير مسبوق، ووصل الإسلاميون إلى سدة السلطة في أعقاب الانتفاضات الجماهيرية العربية واسعة النطاق في تونس، ومصر، وفشلهم في إدارة الدولة والمجتمع، وفق خطاباتهم الشعارية التى تناقضت مع الواقع الموضوعى داخل كل دولة على نحو أدى إلى انتفاضات ضد حكمهم!

40- لم يستطيع الفكر العربى الحديث والمعاصر إيجاد حلول لثنائية التراث والمعاصرة، نظرًا للصياغات التوفيقية، ولهيمنة التدين الوضعى المحافظ، وفي ظل الدور الأمريكى في توظيف الدين في مواجهة الكتلة السوفيتية السابقة، وأيضا نتيجة لدور الجماعات الدينية الراديكالية في الإقليم العربي.

41- يبدو لى أن التجديد الديني من داخل المؤسسة الدينية الرسمية، ومشروعات أخرى من خارجها، يمكنها أن تشكل سردية مغايرة عن السرديات الدينية الوضعية التاريخية، والانتقال من الجبر إلى الحرية، ومن الخضوع والإتكالية إلى الإرادة الحرة، ومن التواكلية إلى الإيمان الحر وحرية التدين والاعتقاد، ومن العمل الكسول إلى العمل الخلاق، ومن ثقافة الإجابات الماضوية الجاهزة إلى ثقافة السؤال، ومن الاتباع إلى الإبداع، ومن الاتكال والقدرية إلى العمل المسئول المنتج، ومن الاستغلال الاجتماعي إلى العدل الاجتماعي، ومن التمييز الدينى والمذهبى إلى حرية الاختيار والمساواة بين المواطنين. إن هذا التجديد سوف يسهم في إنتاج ثقافة دينية عصرية قادرة على المساهمة الفعالة في تنمية المجتمع. وأيضا في إحداث نقلة كيفية في تحويل قيم الخضوع والامتثال إلى قيم الحريات الفردية والعامة.

42- إن سرديات تجديدية تأويلية جديدة تمثل ضرورة في عصرنا المتحول، مع الذكاء الإصطناعى، والأسئلة التى يطرحها على الوجود الانسانى ذاته، بل والشرط الإنسانى، ومركزية الإنسان في الكون والوجود.

43- ثورة الذكاء الإصطناعى ستؤدى إلى تحولات كبرى، من الأناسة الروبوتية إلى ما بعد الإنسان، والإنسانية. من ثم ستفرض أسئلة استثنائية، ومختلفة، وتحتاج إلى إجابات مغايرة لما ألفناه في التاريخ الإنسانى كله. لا شك أن حال حدوث هذا التجديد الدينى المختلف، سيساهم في مواكبة هذه التحولات المذهلة. ومن خلال متابعة الأنشطة الثقافية الرسمية، يلاحظ أن ثمة سياسة ثقافية نمطية، واستعراضية تتركز أساسا حول العاصمة –في معارض الفن التشكيلى، والحفلات الموسيقية والغنائية، والأدب والمسرح، والنشر، والندوات- وبعضها في الإسكندرية، وبعض مدن المحافظات، ولا تمتد هذه الأنشطة إلى الريف المصري، حيث القواعد الاجتماعية العريضة للشعب المصري. مرجع ذلك غياب رؤى وفلسفة للثقافة –وفق معناها العام- تربط بين التنمية، وبين الثقافة، وذلك كأحد مكونات، أيه سياسات تنموية –آيا كانت- وكمحفز لها، ومحرك لدينامياتها، ولقيم العمل، والمسؤولية، والمساواة، والمواطنة، واحترام القانون وقواعده.

44- ثمة أزمة ضعف فاعلية الهيئات الثقافية الرسمية، خاصة في ظل التغيرات الجيلية في المجتمع المصري، وخاصة في العقدين الماضيين، وأثر الثورة الرقمية، وثقافة وسائل التواصل الاجتماعي، واللغة الرقمية على الجيل الشاب، والأصغر سنًا. من ثم، تتمدد وتتزايد الفجوات الجيلية بين السلطة الثقافة الرسمية، وهيئاتها، وبين الأجيال الجديدة، وبين بعض طرائق تفكير قادة هذه المؤسسات، وبينهم!

45- يبدو الفكر المسيطر على السلطة الثقافية الرسمية يدور حول بعض الفكر الذى ساد في العقود الماضية، التى تجاوزها الواقع الاجتماعي والثقافى والجيلي والعالمي، وفى ذات الوقت لا يزال يُستعاد مصطلح القوة الناعمة –استعارة من كتاب جوزيف ناى- لوصف وضعية الثقافة المصرية في المنطقة العربية، على الرغم من تراجع المصطلح إلى القوة الذكية، والأهم مفارقة الوصف لحالة الثقافة المصرية الراهنة، وبروز مراكز ثقافية عربية أخرى في المنطقة المغاربية، وفى ذات الوقت بروز أوعية ثقافية في إقليم النفط، تستوعب عديد الأنشطة –الممولة- من خلال المهرجانات، والجوائز، والمؤتمرات والمعارض والندوات الثقافية.

46- الثقافة المصرية لاتزال تتمركز حول ذاتها، دون الانفتاح على مصادر الثقافات الإنسانية، في آسيا الناهضة، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وتتركز اهتمامات بعض المثقفين والأكاديميين على المركزية الأورو- أمريكية، وهو ما يشكل نقصًا كبيرًا في اهتمامات النخبة الثقافية، والسلطة الثقافية المصرية.

47- ثمة إهمال لثورة الذكاء الإصطناعي في المجالات العلمية، وأثرها الكبير في إحداث تطورات نوعية في غالب العلوم الطبيعية، والتقنيات، وفى العلوم الاجتماعية، والفنون، وفى مجال الثقافة، والتنمية للدول الآخذة في النمو، وليس فقط الدول المتوسطة، والأكثر تطورًا في عالمنا علميًا واقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا.

لاشك أن آفاق التحول في الحياة الإنسانية لا تزال بعيدة عن غالب العقل المصري والعربي،  وعن الثقافة المصرية والعربية في كافة مستوياتها، ومكوناتها، وثنائياتها المتضادة، وهيمنة العقل النقلى الدينى، وشبه العلمانى -في كافة مصادره وتوجهاته السياسية والاجتماعية، والثقافية/ ومناهج تفكيره، وماضويتة، وجموده- والاستثناءات محدودة جدًا.

48- من هنا تحتاج الثقافة المصرية العالمة، والوسيطة والشعبية، إلى تبلور رؤى جديدة تستصحب معها المشاكل المتراكمة تاريخيًا، والتحولات في عالمنا، والإقليم المضطرب، وإعادة دمج الثقافة في سياسات ومناهج التعليم، وإصلاح جذري في المؤسسات الثقافية الرسمية، والأهلية، وأيضا ضرورة إيلاء أهمية لتطوير اللغة العربية، وتجديدها في نظامها النحوى وأساليب تدريسها في سلاسة ودون تعقيد للطلاب، وترجمة المصطلحات العلمية الجديدة في الفكر العالمي، وفى تعليمها للطلاب في المدارس والجامعات من خلال سياسة لغوية جديدة.

49- إن تجديد الثقافة المصرية وربطها بالتنمية في رؤي جديدة تمثل أهمية استثنائية على الصعد السياسية والاجتماعية والتنموية، وعلى صعيد مكانة مصر في الإقليم. لا شك أن التجديد الثقافي يعتمد على الحراك السياسي، وإعلاء دور ومكانة العقل النقدى الحر، من خلال حريات الرأى والتعبير، والبحث العلمي.

50- إن تجديد الثقافة المصرية رهين بالرؤى الحرة، والفكر الخلاق المختلف، وتجاوز إشكاليات وأسئلة الماضي وإجاباته النقدية، وثنائياته الضدية، والتفكير المستقبلي الذى يستوعب التحولات الكبرى في عالمنا؛ العلمية والتقنية والثقافية، وفى مجال الذكاء الإصطناعى، وذلك في حرية، وتحرر من غالب الإرث الماضوى الفكري الذى أعاق تجديد الدولة والمجتمع، والجماعات الثقافية والأكاديمية.

المصدر: مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى