لم يشعر الكيان الصهيوني وحده، بخطر المقاومة الفلسطينية على وجوده، بعد عملية طوفان الأقصى، وانما بالدرجة نفسها، وربما أكثر، حلفاؤه من حكام الردة العرب. فاذا حققت المقاومة انتصارا مؤزرا وهزمت الجيش الصهيوني، او اجبرته على التراجع، او صمدت امامه، فان هذا الانتصار سيشكل من جهة، بداية النهاية لهذا الكيان الغاصب، ومن جهة أخرى، سيشجع الجماهير العربية المظلومة واحزابها الوطنية على الاقتداء بطوفان الأقصى، والقيام بمقاومة شعبية سلمية او مسلحة لإسقاطها. بل ان طوفان الشعوب ضد الطغاة أكثر وقعا، من طوفان المقاومة المسلحة ضد المحتل.
اذن ليس غريبا ان يستخدم الكيان، كل ماكنتيه العسكرية ويرتكب جريمة الإبادة الجماعية، للبقاء على قيد الحياة. في حين تكفل حكام الردة، بحشد عدد كبير من السياسيين والمثقفين والكتاب والصحفيين، إضافة الى المرتزقة والاقلام المأجورة، بهدف تقزيم الانتصار الفلسطيني والحط من قيمته، وافراغه من محتواه، واحباط الآمال، بالنفخ في صورة الكيان وتضخيم قدراته العسكرية الصهيونية، التي ستجبر المقاومة، اما على رفع الراية البيضاء او الهروب خارج غزة. ولو كان بإمكان حكام الردة، مشاركة الكيان الصهيونية بقوات عسكرية، لألحاق الهزيمة بالمقاومة الفلسطينية، واسكاتها الى الابد، لما تأخروا لحظة واحدة. فهؤلاء الحكام تاجروا لعقود طويلة من الزمن بالقضية الفلسطينية، وادعوا انها قضيتهم المركزية الأولى، واتخذوا منها سلاحا لقمع اية معارضة شعبية ضدهم، او محاولة لإسقاطهم، تحت شعار لا صوت يعلو على صوت المعركة.
لكن المقاومة الفلسطينية ردت، على هذه الخيالات المريضة في الميدان. حيث ما زالت تقاتل الجيش الصهيوني، وتكبده خسائر مادية وبشرية، لم يشهد مثلها طيلة حروبه ضد الجيوش العربية. الامر الذي دعا هؤلاء الأشرار الى استخدام، وسيلة أخرى، تنطوي على قدر كبير من الخسة والدناءة. وذلك بتحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الخراب والدمار، الذي حل بغزة، وسفك دماء عشرات الألوف من المدنيين. وطالبوها بألقاء سلاحها والخروج من غزة، كما فعل ياسر عرفات ومنظمته، بموافقته على الخروج من لبنان، بعد اجتياحه من قبل القوات الصهيونية سنة 1982. لكن سرعان ما سقطت هذه الاتهامات دون جهد يذكر من المقاومة. حيث حملت شعوب العالم كافة، عبر مظاهرات مليونية، الكيان الصهيوني كامل المسؤولية، وطالبت بمحاكمته بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة. وقد خضع الكيان قبل يومين، ووافق على المثول امام محكمة العدل الدولية، للدفاع عن نفسه. بصرف النظر عن ماهية الحكم الذي سيصدر بحقه. اما أكثر الاتهامات تفاهة، ترويج معلومات كاذبة، عبر وسائل الاعلام، تفيد بان الكيان الصهيوني قد اتفق مع المقاومة على هذه الحرب، لمنح الكيان الصهيوني مبررا لاحتلال غزة بكاملها، وتهجير أهلها الى سيناء، وان مصر على علم بهذا الاتفاق. لكن هذه التهمة لم تحصد غير السخرية والاشمئزاز.
كما فشل هؤلاء في استغلال جانب من العلاقات الإقليمية للمقاومة الفلسطينية في غزة، واشكالية صلتها بإيران بهدف تأليب الراي العام العربي ضدها، بالإشارة الى سياسات إيران العدوانية ضد عدد من الدول العربية، وتأسيس مليشيات موالية لها، وفرض مشروعها التوسعي في المنطقة. خاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ووصف معارك المقاومة ضد الكيان الصهيوني، بانها تصب في خدمتها، او تعينها في صراعها مع الامريكان حول ملفها النووي، او رفع الحصار الاقتصادي عنها، او حتى مراعاة اجندتها الخاصة. وبصرف النظر عن حجم المبالغة التي تنطوي عليها هذه الاتهامات، فأنها لا تبرر الوقوف ضد المقاومة في المعركة المشرفة التي تخوضها، ضد الكيان الصهيوني الغاصب، او حتى الوقوف على الحياد. فالخلاف مع حماس او غيرها من فصائل المقاومة، مهما كان شكله ونوعه، لا يرتقي الى مرتبة صراع الوجود مع الكيان الصهيوني. فالأول يمكن إيجاد حل له في أي وقت، في حين ان الثاني لا يمكن حله الا بطرد هذا الكيان من كامل التراب الفلسطيني. بمعنى اخر، فان رفض سياسة حماس وعلاقاتها بإيران، لا يعطينا حق الوقوف ضد نخبها المقاتلة، او التفرج عليها. فهي فلسطينية أصلا قبل ان تكون لها هوية سياسية قابلة للتغيير، او التحول وحتى الزوال. كما ان من حق الجميع الاختلاف مع حماس وعلاقاتها مع النظام الإيراني. لكن لا ينبغي التفريط باي جهد مقاوم ضد الكيان الصهيوني.
لم يبق في جعبة حكام الردة، سوى السهم الأخير، الذي ظنوا بانه الأكثر نفعا، للخروج من مازقهم. حيث حمل خطابا مغايرا، من شانه ان يحدث جدلا واسعا في صفوف المؤيدين لعملية طوفان الأقصى، ويشغل تفكيرهم، وربما يدعوهم لإعادة النظر في تأييد المقاومة الفلسطينية، او التقليل من حماسهم للوقوف الى جانبها، او التفكير في المساهمة في تحقيق انتصار مؤزر. مفاده، ان المقاومة الفلسطينية ارتكبت أخطاء عديدة من أهمها، انها لم تضع في حساباتها قوة عدوها، وردود فعله المدمرة. خاصة ان هذا المحتل يمتلك جيشا يعد الأقوى في المنطقة، ومدعوم من الولايات المتحدة الامريكية، التي تعد أكبر قوة عسكرية عرفها التاريخ. إضافة الى دعم حلف الناتو، الذي ينضوي تحت خيمته، دول غربية قوية، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ولديه الاستعداد لاستخدام أسلحة ذات دمار شامل، إذا شعر بان كيانه مهدد بالزوال. في حين لا تمتلك المقاومة غير أسلحة بدائية، قياسا بأسلحة الجيش الصهيوني.
الى جانب ذلك، لجا أصحاب هذا الخطاب لقدر كبير من التدليس، لتشويه هدف عملية طوفان الأقصى، بالقول ان حركة حماس تحديدا، أرادت من هذه العملية العسكرية تامين عدد كبير من الاسرى، لاستخدامهم ورقة ضغط، تجبر الكيان الصهيوني على القبول بأطلاق سراح جميع السجناء الفلسطينيين، مقابل إطلاق سراح اسراه. ليختتم هذا الخطاب عادة بسؤال استنكاري، يراد منه تغليب العاطفة على العقل. مفاده هل يستحق إطلاق سراح مئات السجناء الفلسطينيين، تدمير غزة، واستشهاد عشرات الألوف من شبابها ونسائها واطفالها، وأكثر من مئة ألف جريح؟ في حين يعلم القاصي والداني، بان هدف اية مقاومة ضد المحتل، هو تحرير ارضها من نير الاحتلال. وهذا لا يعني استبعاد المقاومة من حسابتها، في مرحلة من مراحل كفاحها، الحصول على مكاسب من ضمنها إطلاق سراح السجناء، او الحصول على هدنة، او مكسب معين.
هذا الخطاب، لا يخلوا من قيمة. فهو تضمن لغة سياسية لا يستهان بها، او في الأقل يمكن وضعها في خانة الاستنتاجات او التحليل السياسي، او كلمة حق يراد بها باطل. حيث حاز على الاهتمام، ما بين فريق تأثر به، واخر لزم الصمت تجاهه والعقلاء رفضوه. لكن المقاومة ردت عليه وابطلت مفعوله، من خلال سير المعارك. حيث اثبت ابطال عملية طوفان الأقصى، ان من ارتكب الأخطاء، ليست المقاومة الفلسطينية، وانما قادة الكيان الصهيوني وحكام الردة والموالين لهم. حيث تمكن ابطال الطوفان أولا من التأكيد، على قدرة الشعوب الضعيفة على الوقوف بوجه قوات المحتل العسكرية. حيث وجهت عملية طوفان الأقصى، ضربة عسكرية موجعة، وبأسلحة بدائية، وبعدد صغير من المقاتلين، هزت اركان الكيان الصهيوني. وقد اعترف بها كافة الخبراء العسكريين في العالم. بل اعترف بها، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في كلمته التي القاها في الاجتماع الطارئ، الذي عقده مع حكومته، بعد ساعات من بدء عملية الطوفان. قال وبالحرف الواحد” نحن في حالة حرب، وليس في عملية ولا في جولة قتال، شنت حماس هذا الصباح هجومًا مفاجئًا ضد دولة إسرائيل ومواطنيها. منذ الصباح عقدت اجتماعًا مع قادة المؤسسة الأمنية، وأمرت بتطهير البلدات من المخربين. هذه العملية تنفذ في هذا الوقت وبموازاة ذلك، أمرت بتجنيد احتياط واسع، العدو سيدفع ثمنًا لا يتصوره”.
وثانيا بان نتنياهو لم يتمكن من الوفاء بوعده، بأنهاء المقاومة واخراجها من غزة بشهر على أكثر تقدير. واجبار حماس على الاستسلام او الهروب. على الرغم من ان المعركة دخلت شهرها الرابع. وثالثا ان نتنياهو اعتقد، بان أطلاق سراح عدد من السجناء الفلسطينيين، سيقنع المقاومة بالخروج من غزة بماء الوجه. في حين لم تربط حماس طيلة المفاوضات، تبادل الاسرى بسير المعركة. بل ان المقاومة تحكمت بعملية التبادل، وفرضت شروطا تصب في صالحها. اما الرابع، فقد فشل توقع نتنياهو، بان تدمير غزة وقتل المدنيين، سيخلق حالة شعبية عدائية ضد المقاومة. حيث تلقى الرد من اهل غزة، والناجين من بين ركام البنايات، بالهتافات باسم المقاومة، وتأكيد اصرارهم على البقاء في غزة، حتى لو هدمت عن بكرة ابيها. بل ان هذا الدمار خلق حالة من الإصرار العنيد على مواصلة المقاومة. اما الخطأ القاتل فهو الهجوم البري والحصاد المر لنتائجه الكارثية حتى يومنا الحاضر. فبدلا من احتلال غزة بكاملها، وتهجير أهلها خارج حدودها، تكبد الجيش الصهيوني خسائر مادية وبشرية، أكثر من جميع الخسائر، التي تكبدها في كل حروبه مع الجيوش العربية، الى درجة خرجت فيها الوية مدرعة مشهورة بتفوقها في القتال من الخدمة، مثل لواء الجولاني. والحبل على الجرار.
باختصار لقد وضعت المقاومة نصب العين، كل ما قام به المحتل من جرائم وابادة جماعية، ولم تغفل، لا شاردة ولا واردة، لمعرفتها الدقيقة بنهج الكيان الصهيوني العدواني وهمجيته، ولم تغفل احتمال الهزيمة. حيث اعدت العدة للعودة مجددا، إذا حدث وانتصر العدو، كما عادت مرات عديدة، على الرغم من الهزائم التي لحقت بها. وكما يقول اهل الذكر، إذا ظلت المقاومة متمسكة بسلاحها فهي منتصرة. وان الاحتلال زائل مهما بلغ من قوة. وان المقاوم عندما يختار رفع السلاح، فانه يختار العيش في ظرف عصيب. وهو بذلك، يدفع مجتمعه الى مشاركته كل المحنة، بأقسى معانيها
إذا لم تكن الا الاسنة مركبا فما حيلة المضطر الا ركوبها.