بعد المآلات التي آل إليها حال حركات الربيع العربي وخاصة الربيع السوري. وبعد الانكشاف الصاعق للدور العولمي في منع هذا الربيع من تحقيق أهدافه الإنسانية النبيلة.
وبعد العديد من المراجعات التي تمت من قبل لفيف من المفكرين والمثقفين العرب برهان غليون، ميشيل كيلو، وائل حلاق، وضاح خنفر، اعتقد أنه لم يعد أمام الوعي الجمعي للشعوب العربية إلا العودة لتأسيس وإنتاج مرتكزات ومنطلقات جديدة للفكر والثقافة المستقبلية الصاعدة والتي تتمحور حول ثوابت لمفاهيم الذات الحرة السيدة المستقلة. إذ أن قرناً من الزمان مضى منذ تاريخ استقلال المجتمعات العربية ولم تتمكن خلالها هذه المجتمعات من تثبيت أوتحقيق ماتحلم به من الاستقرار أو التنمية أو الرخاء، بل كان خط التطور الذي يفرض نفسه يتحرك من سيئ إلى الأسوأ، بكافة المعايير وكافة المستويات وكافة المراحل.
حتى إذا ماجاء السابع من اكتوبر من هذا العام 2023 وإذ بهذا الانكشاف العولمي الذي تحقق أمام شعوبنا يلقي أرضاً ماكان يحمله من بقايا ستر أو غموض هنا أو هناك، فتظهر جميع موبقات هذا العولمي دون أدنى لبس أو مداورة.
لقد قدمت غزة الشهيدة نفسها قرباناً سينحفر في عمق الذاكرة البشرية التاريخية وإلى الأبد، لتعزز انكشاف هذا المكون أو الحامل النتن لمصدر المفاهيم التي وسمت منظومة القيم والأعراف والعادات والنظريات بل ولربما المسلمات التي قامت عليها ثقافة وفلسفة القرن العشرين، حيث تغنى إنسان هذا القرن وحلم بل ولهث خلف قيمه، الحرية وحقوق الإنسان والعدالة والديمقراطية وسيادة القانون، ومن ثم مفاهيم الحداثة والمعاصرة ومابعد الحداثة….الخ ، وغيرها من مفاهيم وصياغات نظرية وفلسفية لامجال للخوض فيها في هذه المساحة من القول، إلا أن ماحصل من انكشاف إنما أتى ليعيد الحقيقة التي ناضل الإنسان عبر التاريخ ليتجاوزها وينتج بديلاً لها. حقيقة أن التطور والصراعات الاجتماعية والبشرية إنما كانت تدين للقوة وحدها، والقوة الغاشمة في الكثير من الأحيان، فيما كان في الوقت نفسه يتطلع إلى عالم آخر مختلف أكثر إنسانية وأكثر عدلاً واستقراراً وأكثر سلاماً وأماناً، وحتى إذا ماوضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، بدأت أوهام وتصورات هذا التطلع الإنساني تتصاعد وتتنامى، وغدت لاحقاً مقولة نهاية التاريخ شبه لازمة وجودية وكأنما استقر التطور البشري عندها، كما بدأ وكان العالم تخلص من عنصر الصراعات العنفية القاتلة ليستقر في علائق دولية وبشرية تحت راية نظام عولمي وحيد أوحد سيجلب الرخاء والازدهار والسلام. لكن جميع ذلك مالبث أن بدأ يخبو وبات يظهر في فضاء عالمنا مايعكر هذا الشعور الإنساني الصاعد، فكان اقتحام أفغانستان ومن ثم تدمير العراق وماتلاه من أفعال دموية ووحشية في سورية واليمن، ولبنان، وليبيا، والسودان. واليوم هاهو حدث غزة يدوي في مساحات الوعي العربي اولاً والبشري ثانياً، معلناً حجم رياء وكذب أرباب النظام العولمي المتمثل برموز مفكريهم ومثقفيهم وفلاسفتهم. وظهر أن المفصل العولمي لازال يتكئ على عنصر القوة الغاشمة، بل يمكننا القول إنها القوة المتوحشة الحاملة لكل أنواع الرذائل البشرية التي عرفها الإنسان على مر التاريخ.
هذه هي غزة فلسطين، ربما بموتها شهيدة بعد حين، تنبئ بإعلان النهاية لحقب الزيف والتزوير الفكري والثقافي والفلسفي الذي طغى على ماض ملئ بأشكال الشقاء والعذاب والمعاناة للأكثرية من البشر وخاصة بشر منطقتنا العربية، ولتعلن كذلك بداية حقب جديدة يعود فيها الوعي البشري لإنتاج مرتكزات ومنطلقات لفكر وثقافة وخطاب مختلف يؤذن بإنتاج قوى اجتماعية تؤسس وتبني قيماً ومفاهيم إنسانية تصدح بالشفافية والحب والعدالة والمساواة الحقيقية.
ولعل كل ذلك سيكون منتجاً شعبياً عربياً يعيد مفاهيم وقيم وأخلاق عالم امبراطورية يشهد لها أرباب الفلسفة والفكر الإنساني بأنها كانت أكثر الامبراطوريات احتراماً لإنسانية الإنسان وحقوقه الوجودية في التاريخ.