سورية 2024 بنكهة إيرانية أقوى

إياد الجعفري

يذهب السوريون إلى أشغالهم بانتظام، ورغم تكاليفه المرتفعة، إلا أن الوقود متوافر لمن يريده في السوق السوداء، ولم يشهد كانون الأول/ديسمبر الجاري أي عُطلٍ استثنائية للدوائر الحكومية، تحت وطأة نقص المحروقات، ذلك إذا تجاهلنا تكرار حكومة النظام لسابقة العام الفائت، بتعطيل الدوائر الحكومية لأسبوع كامل بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة. أي باختصار، يبدو السوريون في نهاية العام 2023، في حال أفضل، بالمقارنة مع أسوأ أزمة محروقات في ذاكرتهم الحيّة، تلك التي عاشوها في الشهر الأخير من العام 2022.

وما بين نهاية عامٍ يمضي، ونهاية العام الذي سبقه، جرى تحوّل نوعي جنّب البلاد تكرار أزمة الوقود الكارثية التي شلت أشغال الحكومة والناس، قبيل سنة من اليوم. وكانت الترجمة لهذا التحوّل، خضوعاً أكبر من جانب رأس النظام السوري، بشار الأسد، للإرادة الإيرانية. وهي الخلاصة التي ميّزت العام 2023، سورياً. والتي ستؤسس للعام التالي.

وكي نفهم كيف وصلت “سوريا الأسد” إلى هذه الخلاصة، يجب أن نفهم تسلسل الأحداث بدءاً من أزمة الوقود نهاية العام 2022. فخلال تلك الأزمة، فقدَ النظام إتزانه الإعلامي المعتاد حيال الحلفاء، وأتاح لمحللين مقرّبين منه، أن يصوّبوا على الحليف الروسي، وعبر الإعلام الرسمي، بوصفه تخلياً عن مسؤولياته تجاه النظام، وتجاهل الشلل الذي أصاب مؤسساته جراء الأزمة، وتركه تحت رحمة الإيرانيين، الذين كشفوا عن وجه آخر، لا تسهيلات ائتمانية “مجانية” فيه، بعد اليوم.

وفي معرض التصريحات حول السبب الدقيق لأزمة الوقود تلك، مرّر وزير النفط، حينها، بسام طعمة، تصريحاً أرجع فيه الأزمة إلى التعليق المؤقت لشحنات النفط الوارد من إيران. وبعد أسبوعين فقط من مطلع العام 2023، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن أن إيران قيّدت بالفعل، توريد النفط الرخيص إلى سوريا، وتركت حليفها في أزمة غير مسبوقة. وضغطت طهران بأقوى أسلحتها، على الأسد، مطالبةً إياه، بدفع ثمن النفط، وفق السعر العالمي، لا وفق سعرٍ متدنٍ يتناسب مع طبيعة تحالفهما. وكانت تلك إشارة استثنائية لتردّي العلاقة العميقة بين الطرفين. واستدعت تحركاً عربياً وإقليمياً، مدعوماً من جانب واشنطن، بصورة غير علنية، لاختبار القدرة على الانخراط في المشهد السوري، ومقارعة النفوذ الإيراني فيه. وتُرجم هذا التحرك في الأشهر التالية، انفتاحاً رسمياً عربياً على الأسد، وصولاً إلى إعادته لعضوية جامعة الدول العربية، واستقباله في العاصمة السعودية الرياض، والإعلان عن مبادرة عربية للتفاهم معه، تستند إلى مجموعة خطوات ستُقدم عليها الدول العربية، لقاء خطواتٍ منتظرة من النظام. وتم التلويح باستثمارات خليجية.

وخلال الفترة ذاتها، تحرك النظام نحو روسيا، في زيارة “دولة” وُصفت بالاستثنائية، مقارنةً بسابقاتها في العقد الأخير. لكنها خيّبت رهانات النظام على الصعيد الاقتصادي. لتليها بعد شهرين، زيارة “دولة” استثنائية أيضاً، من جانب الرئيس الإيراني، إلى دمشق، مثّلت مرحلة متقدمة من الضغط على رأس النظام، للاعتراف رسمياً باتفاقات الديون “السرّية”، وتحويلها إلى اتفاقات علنية بين “الدولتين”.

وأياً كان التفسير، هل حدث ذلك بإرادة الأسد، أم أُجبر عليه؟، فإن رأس النظام أجهض المبادرة العربية حياله، ولم ينفّذ أهم مطلبين فيها، لجم تهريب المخدرات إلى الأردن، وتشجيع اللاجئين السوريين على العودة. وأطلق الأسد رصاصة الرحمة على المبادرة في مقابلته مع قناة “سكاي نيوز عربية”، في آب/أغسطس، والتي فجّرت حنق الشارع الموالي. ولم تسعفه زيارته “الاستثنائية” إلى الصين، في الحصول على مددٍ اقتصادي بديل، رغم كل الضجيج الذي أثير حولها. وهكذا بقي الأسد تحت رحمة الإيرانيين. وفيما كان الإعلام الموالي وذاك المعارض، وحتى العربي والدولي، يتحدث بكثافة عن كل تحرّك للأسد على صعيد السياسة الخارجية، مع العرب وتركيا وروسيا والصين، على أنه مفصليّ وحاسم، كان كل ما سبق مجرّداً من أي ترجمة اقتصادية فعلية له، فيما بقي القول الفصل على هذا الصعيد لإيران، التي كثّفت ضغوطها على الأسد، فحصدت جملة اتفاقات نوعية، سيطرت فيها على ما تبقى من موارد البلاد وقطاعاتها الاقتصادية، ولعقود تالية.

ولفهم كيف حدث ذلك، يجب العودة مجدداً إلى نقطة البداية: أزمة المحروقات التاريخية في نهاية العام 2022. فمناطق سيطرة النظام تحتاج يومياً 200 ألف برميل نفط، 20 ألف منها فقط، إنتاج محلي. ووفق أرقام وسطية، تموّل إيران النظام بنحو 5 ملايين برميل نفط، كل ثلاثة أشهر، أي بوسطي 20 مليون برميل سنوياً. أي أن الواردات الإيرانية لا تغطي إلا ثلث احتياجات الاقتصاد السوري لتحقيق نشاط طبيعي. تكلفة هذه الواردات بسعر برميل وسطي، 70 دولاراً، نحو 1.4 مليار دولار. وهي تكلفة تتجاوز نصف ميزانية البلاد للعام 2024.

وقبل نهاية العام 2022، كانت إيران ترسل هذه الواردات بأقل من نصف القيمة (30 دولاراً للبرميل)، وبالدين. لكنها تراجعت عن هذه السياسة منذ نهاية العام 2022، للضغط على النظام، كي يصبح أكثر انصياعاً لإرادتها، على صعيد السياسة الخارجية، وعلى صعيد تسديد ديونها عليه، داخلياً. وهو ما تحقق بالفعل، خلال العام 2023.

وبذلك، تعزّز وضع سوريا، بوصفها رهينة في قبضة طهران. وأصبح اقتصادها أكثر ارتباطاً بالمصالح الإيرانية، برفقة نظيرتها الروسية. وأصبح الأسد أكثر ضعفاً، وأقل استقلالية، مما كان عليه قبل العام 2023. وأصبح النفوذ الإيراني أكثر سطوة، ومباشرةً، وشراسة. وهو ما سيُترجم في العام 2024. فسوريا أصبحت بنكهة إيرانية أقوى.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى