تراجع الكثيرون عن وصف المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بأنها «محررة» لأسباب أبرزها أنها ما تزال في متناول القوة العسكرية للأسد بالقصف الجوي والبري، ولا سيما مع تضاؤل مساحتها ووقوعها على خطوط تماس عدة. وثانيها أن هذا الوصف كان مفعماً بالزهو والتفاؤل حين ظهر ابتداء من العام 2012، وصار الآن قريناً للفصائلية والفوضى والبؤس والتعثر، بل تراجع سقف الحريات المذكورة فيه حتى كادت تقتصر على «حرية شتم الأسد» وفق التعبير الحاذق لأحد الناشطين.
لكن الوصف الذي يفضّل البعض استخدامه بديلاً، وهو «المناطق الخارجة عن سيطرة النظام»، لا يؤدي الوظيفة المطلوبة بدقة. فهو يشمل الأراضي التي تسيطر عليها «الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا»، وما كانت تحكمه داعش لسنوات بعد إعلانها قيام «الدولة» ثم الخلافة. مما يعيد إلى وصف «المناطق المحررة» صلاحيته للتعبير عن الجغرافيا التي «حررتها» قوى ثورية من النظام ورفعت فيها «العلم الأخضر».
تقسم هذه المناطق الآن إلى كتلتين، مما يرجعنا إلى الالتباس؛ تتمركز الأولى في مدينة إدلب وتشمل بعض ريف حلب واللاذقية، وتقع تحت حكم «هيئة تحرير الشام» وريثة «جبهة النصرة» التي كانت إحدى القوى الرئيسية في السيطرة على إدلب في عام 2015. وقد عانى العلم الأخضر فيها طويلاً من الإقصاء والمزاحمة إلى أن صار يحظى بالتبجيل اليوم استجابة لطموحات زعامة «الهيئة».
أما الكتلة الثانية فتسيطر على المدن الرئيسية في ريف حلب، وتكاد تتمركز في اعزاز، وتخضع لإدارة «الحكومة المؤقتة» التابعة للائتلاف الوطني المعارض والمدعومة خارجياً ولا سيما من تركيا. القوى العسكرية في هذه المنطقة منضوية اسمياً تحت يافطة «الجيش الوطني» العريضة العامة، غير أنها تعبّر عن استقلاليتها داخله في مناسبات كثيرة. إذ لم يستطع هذا «الجيش» صهر عناصره وضبط قيادات فصائله.
في السنوات الماضية لم تخفِ «هيئة تحرير الشام» رغبتها في مد سلطتها لتشمل أرض الكتلة الثانية. وفي سبيل ذلك أشعلت المعارك، وأقامت الصلات السرية والعلنية مع زعماء فصائل من «الجيش الوطني»، وبثت دعاية قوية تتغزل بالسلطة المركزية في إدلب وما تحققه من «أمن وأمان» واستقرار اقتصادي وهيكلية إدارية تمثلها «حكومة الإنقاذ». وكان شهر تشرين الأول من عام 2022 ذروة هذه المساعي التي باءت بالفشل أخيراً نتيجة تدخل تركي حاسم ومقاومة محلية.
لم تنقطع المحاولات الشبيهة منذ ذلك الوقت، وإن بحشود أخف، فالأمر بالنسبة إلى «الهيئة» أقرب إلى أن يكون مسألة وجود. فبعد تصنيف أطوارها المتغيرة وأبرز قادتها على قوائم الإرهاب المختلفة لجأوا، في سبيل تعطيل ذلك أو تمييعه، إلى تعميمه بشكل يشمل الفصائل التي يمكن أن تصاب بالعدوى عبر الاندماج والتحالفات وغرف العمليات، وإلى محاولة الإمساك بورقة المناطق المحررة بالكامل. وهو ما يرمي إليه زعيم «الهيئة» حين أوعز إلى إعلامه المبرمج بدقة أن يقدّمه بوصف «قائد المحرر».
لم يكن أبو محمد الجولاني يخفي إعجابه بنموذج سلطة «حركة حماس» في غزة قبل معركتها الراهنة. وعلى نطاق أضيق من دائرة المقربين كان يعبّر عن تقديره لتجربة «حزب الله» الذي استطاع أن يبني دويلة معطِّلة هي الأقوى في لبنان. وقد أسعفه بعض السائرين في ركبه بتعبير «عصر الكيانات اللادولتية» كوصفة لتبييض سلطة الأمر الواقع الميليشياوية التي فرضها وتحويلها إلى كيان يحظى بتعريف ما.
لكن «قائد المحرر» يعلم أنه لن يستقر، نسبياً وراهناً، قبل أن يثبت أنه يستأهل هذا الوصف بتحقيقه على الأرض. وذلك بالسيطرة العسكرية والإدارية على كامل المناطق المحررة والتربع على سدة «الكيان السنّي» الذي يُكثر من ذكره في كلماته، والذي سيفرض نفسه بشكل حتمي على الفاعلين الدوليين لما تمثله الأغلبية السكانية العربية السنّية من ثقل سيجعلها أحد المتفاوضين النهائيين الثلاثة على مستقبل البلاد؛ النظام أو بقاياه، و«الإدارة الذاتية» الكردية، والكيان السنّي المنشود. وعن تلك الطاولة من المرجح أن يحظى قائد هذا الكيان الأخير بكل الخريطة السورية إن ظلت موحدة. وحينها ستضطر الدول، التي تحكمها مصالحها السياسية، إلى الاعتراف به وإزالته من قوائم الإرهاب، أو فلتبلّها وتشرب ماءها إن شاءت. فلقد اعتاد التمرد وأدمن المغامرة منذ أوائل عشريناته.
من جهتها أصيبت «الحكومة المؤقتة» و«الجيش الوطني» التابع لوزارة دفاعها بهزة قوية حين هدد الجولاني وجودهما في التاريخ المذكور. لكن أثر ذلك تخامد إلى حد بعيد مع مرور الوقت، فعادت الفصائل تتحالف أو تتصرف بشكل شبه مستقل حين تشاء، وتراجعت وعود الإصلاح الإداري التي هدفت إلى منافسة «نموذج إدلب» الذي زيّنه إعلام «الهيئة» في أعين سكان الشمال المحتقنين ضد الفشل الذي يلاحظونه على كل المستويات.
لكن الشعارات هي آخر ما يهم «قائد المحرر» الشغوف بالسلطة. فقد قاتل تحت راية التطرف ضد «الصحوات»، وتحت علم الانفتاح ضد المتشددين. انضوى في الجهاد العالمي ثم لاحق الجهاديين المهاجرين. رفع شعار الدولة الإسلامية وبنى دويلة من المولات. وحتى حين أصبح «نموذج إدلب» المزعوم منخوراً بوضوح بعد اكتشاف عدد كبير من العملاء، في مفاصل أمنية وعسكرية ومدنية، في صفوف «الهيئة» مؤخراً؛ لم يمتنع عن محاولة التمدد العارية من الشعارات تقريباً، مبدلاً حلفاءه من «القوة المشتركة» في العام الفائت إلى «القوة الموحدة»، بمكونات مختلفة تماماً، اليوم. فذلك ليس مفصلياً؛ المهم أنها قوة…
المصدر: موقع تلفزيون سوريا