الاستثمار في أزمة غزّة… شطرنج القوى الإقليميّة!

يوسف بدر

ما إن انتهت الهدنة في قطاع غزة، حتى عبّرت حكومة بنيامين نتنياهو للجانب الأميركي عن رغبتها في فتح جبهة حرب جنوب القطاع، بذريعة تحقيق الهدف الأكبر، وهو القضاء على “حماس”، بينما الأمر يمضي في إطار توازنات السياسة الداخلية لإسرائيل، بخاصة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الخاسر سياسياً وعسكرياً يخشى من إعلان انتهاء الحرب ومحاكمته سياسياً، فضلاً عن عجزه عن القضاء على “حماس”، وهو ما يجعله يضع جنوب غزة نصب عينيه.

أيضاً هناك توازنات خارجية تتعلق بالولايات المتحدة الأميركية ومخاوفها من اتساع دائرة الحرب، وكذلك من تنامي التهديدات التي تطال حليفتها إسرائيل، الشرطي الخاص بها في المنطقة، وهو ما أتى بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لزيارة إسرائيل يوم الخميس 30 تشرين الثاني (نوفمبر)، وذلك للمرة السادسة منذ اندلاع عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لتوجيه إسرائيل نحو عمليات حكيمة في جنوب غزة، بما لا يقضي على الاستراتيجية الأميركية التي تهدف إلى الحفاظ على الحرب داخل حدودها، ورسم مستقبل غزة بما يدعم التموضع الأميركي في المنطقة. وهو ما دفع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، إلى التصريح بالقول: “أوقفوا الهجمات على غزة قبل فوات الأوان”!

وهذا يعني التهديد بالعودة إلى المربع الأول قبل إعلان الهدنة المنتهية، وتحميل أميركا المسؤولية عن استمرار هذه الحرب، ولذلك فإن الاتصال الذي جمع وزير الخارجية الإيراني بنظيره العماني بدر البوسعيدي، الجمعة 1 كانون الأول (ديسمبر)، حمل رسالة تحذير للجانب الأميركي بأن الرد الآتي من جانب محاور المقاومة سيكون أشد وتيرة من سابقه، وربما يطال هذه المرة دولاً داعمة لاستمرار هذه الحرب؛ ما يفتح المنطقة على احتمالية الذهاب إلى مربع أبعد!

لعبة شطرنج!

أيضاً هناك استثمار في السلوك الإسرائيلي، بالبحث عن إثبات دور إقليمي، فلقد تبدلت هذه الحرب إلى لعبة شطرنج واستعراض بطولات من قوى إقليمية، لدرجة أن الخطاب الإعلامي الشعبي تباين عن الخطاب الرسمي لدى البعض، والخطاب الرسمي تباين عن الأفعال لدى البعض الآخر، لكن الجامع بينهم هو ادعاء البطولة في أي إنجاز على الأرض مع عدم التورط في ما يضر بمصالحهم الدولية، وبات التأثير على مجريات هذه الحرب دليل إثبات لمكانتهم الإقليمية!

لم يكن الأمر يعبر عن وحدة هدفهم تجاه غزة، بقدر ما يعبر عن تنافس في ما بينهم على الاحتفاظ بموقعهم في أي تغيير في المعادلة الإقليمية، وهذا يستلزم تحديد طريقة تعاملهم واستجابتهم للولايات المتحدة، بخاصة أن الحرب لم تنته، وجولات الإدارة الأميركية تركز على الاحتفاظ باستراتيجيتها، وهو ما يحتاج إلى جهود هذه القوى الحليفة لواشنطن والتي تحاول أن تثبت قدرتها على امتلاك دور إقليمي.

ويبدو أن الولايات المتحدة بدأت تستشعر جدية انفلات الأمر من يدها بعد الهجمات التي استهدفت السفن المحسوبة على المصالح الإسرائيلية، بما هدد حركة التجارة الدولية في منطقة البحر الأحمر وباب المندب، ما دفعها إلى إرسال مدمرتها العسكرية لحماية الممر البحري الذي يعبر منه خمس النفط العالمي.

تباين إيراني – تركي

على سبيل المثال، دلّ التباين بين إيران وتركيا إلى توحيد مواقفهما من أزمة غزة، على واقعية لعبة شطرنج المصالح باسم غزة، إذ كان من المقرر أن يجتمع الطرفان في قمة مشتركة في أنقرة، في 28 من الشهر الماضي، من أجل التنسيق للخروج بخطاب موحد رداً على إسرائيل، بخاصة أن الاتصالات التي دارت خلال الأيام الماضية بين طهران وأنقرة على مستوى وزيري الخارجية والرئيسين، هدفت إلى أمرين: الأول، إطالة أمد الهدنة، وهو أمر متفق عليه، والثاني، التعاون في الضغط على الولايات المتحدة، حتى لا تنفرد برؤيتها حيال مستقبل قطاع غزة، وهو أمر غير متفق عليه.

وهو ما أدى في النهاية إلى إعلان إلغاء القمة التركية – الإيرانية من كلا الجانبين.

وقد قالها صراحة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، خلال اتصاله بنظيره التركي رجب طيب أردوغان، الأحد 26 تشرين الثاني، من أن “أبناء غزة هم مَن يقررون مستقبل غزة في ظل حركة حماس باعتبارها حكومة شرعية وقانونية ونابعة من أصوات سكان هذه المنطقة”.

وهو أمر موضوع خلاف في المرحلة المقبلة، بل ستجند الولايات المتحدة حلفاءها ومن بينهم تركيا للمشاركة في إعادة منظور الحكم في غزة بما يدعم أمن إسرائيل، وهو ما لا يتوافق مع الرؤية الإيرانية.

وتدل المواقف بشأن مسألة الإفراج عن الرهائن الأجانب، إلى أن كل طرف كان يدّعي أنه صاحب الدور الفاعل والمؤثر في مدى استجابة حركة “حماس” لوساطته ومطالبه للإفراج عن هؤلاء الرهائن، فبينما كانت الطائرات الدبلوماسية تتبادل الهبوط بين مطاري الدوحة وبن غوريون، لبحث خطة تبادل الرهائن والأسرى، خرج وزير الخارجية الإيراني، الأربعاء 29 تشرين الثاني، ليعلن أن ثمة مبادرة مطروحة لوقف “دائم” لإطلاق النار مقابل إطلاق سراح الأسرى والرهائن كافة من جانب إسرائيل و”حماس”.

وفي اليوم ذاته أيضاً، أعلن الرئيس التركي أن بلاده ستكثف جهودها من أجل إطلاق سراح الرهائن وتحقيق هدنة دائمة لوقف إطلاق النار في غزة!

يبدو أن الجميع يعمل على صفقة كبرى تتمثل في تسليم الرهائن مقابل هدنة طويلة الأمد في غزة، لكن يبقى التباين حيال الضغط للحفاظ على حركة “حماس”، فالهدنة بالنسبة إلى إيران، إثبات من جانبها أن “حماس” لا يمكن القضاء عليها، وهذا في حد ذاته انتصار لمحورها!

استثمار في الأزمة

بينما كانت إيران تلوح بتوسيع دائرة الحرب خارج حدود غزة، كانت على جانب آخر تستثمر ذلك في طمأنة مخاوف قوى إقليمية تقلق من عودة التوتر مع إيران في المنطقة، بخاصة بعدما دخل الحوثيون على خط الأزمة باستهدافهم السفن التجارية، إذ أتى الاتصال الهاتفي بين رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية محمد باقري بوزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان، الخميس 30 تشرين الثاني، في إطار التقارب العسكري بين هذين البلدين على خلفية المخاوف من اتساع دائرة الحرب.

ويأتي هذا بعدما كشفت وكالة “بلومبرغ” الأميركية، الأربعاء 29 تشرين الثاني، أن السعودية تحركت لتوسيع تعاونها الاقتصادي مع إيران، بهدف تحييدها عن توسيع دائرة الحرب خارج غزة. ما يعني أن طهران استفادت من هذه الحرب في إثبات موقف السعودية تجاهها، إذ ركزت الرياض على وقف التصعيد معها.

بل حتى الاتصال الذي أجراه وزير الخارجية الإيراني بنظيره الإماراتي عبد الله بن زايد، الأربعاء 29 تشرين الثاني، والنقاش الذي دار خلاله بشأن أزمة غزة وضرورة إيصال المساعدات الإنسانية، هو دليل إثبات لتطور الاستراتيجية الإيرانية بأنها لا تريد التراجع عن سياسة الانفتاح على دول الجوار، وأنها بدأت التعامل مع دول الجوار بطريقة أكثر براغماتية!

بل إن أزمة الرهائن الممتدة على طول البحر الأحمر، جعلت الفيليبين تلجأ إلى إيران للتفاوض معها بشأن إطلاق سراح 17 بحاراً فيليبينياً كانوا على متن سفينة الشحن الإسرائيلية غلاكسي ليدر التي استولت عليها جماعة الحوثي الموالية لإيران، الأمر الذي بلغت أهميته أن قرر الرئيس الفيليبيني فرديناند ماركوس عدم التوجه للمشاركة في قمة دبي بشأن المناخ والتفرغ لهذه المسألة.

أيضاً، بينما يتصاعد الدخان من غزة، كان نائب وزير الدفاع الإيراني مهدي فرحي، يعلن أن طهران وضعت اللمسات الأخيرة على اتفاق شراء طائرات سوخوي سو35 الروسية، وهي الصفقة التي تواجه ضغوطاً إقليمية وغربية على روسيا لعدم إتمامها مع إيران.

لكن من الواضح أن الأزمة في غزة، عززت من التعاون العسكري بين إيران وروسيا، بخاصة أن الأخيرة تدرك أن العالم الغربي يسارع لإسكات صوت الحرب في غزة، من أجل التفرغ للمعضلة الكبرى في أوكرانيا!

براغماتية إيران!

يدور التساؤل الآن عن هذه البراغماتية التي تُدير إيران بها مصالحها استثماراً في أزمة غزة، فهل ليس لديها قضية أيديولوجية؟

والإجابة، أن ثمة فرقاً بين القضية والأداة، لأن الأولى مسألة قِيَمِيَّة، بينما الثانية مسألة تتعلق بخدمة المصالح وتحقيقها، ولذلك تمثل القضية الفلسطينية أداة ناجعة بالنسبة إلى إيران بتشكيلها محوراً مقاوماً للولايات المتحدة الأميركية ونموذجها المصغر (إسرائيل)، بوصفهما عاملين رئيسيين في معادلة التوازن الإقليمي التي فقدتها منذ اندلاع ثورة 1979.

ولذلك نجد المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي يعلق على عملية “طوفان الأقصى”، الأربعاء 29 تشرين الثاني، بأنها عطلت من سياسات أميركا في المنطقة، وأنها تقود إلى التخلص منها. ويقصد بذلك مشاريع أميركية تتعلق بالشرق الأوسط الجديد والاتفاق الإبراهيمي الذي يربط المصالح الإسرائيلية بالدول الخليجية.

لذلك، استطاعت إيران أن تمزج بين البراغماتية والأيديولوجية، فسمحت للفصائل الموالية لها في المنطقة بمساندة “حماس” بما لا يتجاوز الخطوط الحمر التي قد تقود إلى حرب واسعة، تقضي على منجزاتها كافة في المنطقة.

بل إن خامنئي أثناء كلمته أمام تجمع لقوات التعبئة (الباسيج)، تبرأ من دعوات إلى رمي اليهود في البحر، معتبراً أن الحل للقضية الفلسطينية يتعلق بالفلسطينيين أنفسهم، إذا ما قاموا بالاستفتاء على إقامة دولة واحدة.

قد تكون إيران غير راضية عن صيغة حل الدولتين التي تبدو مستحيلة في ظل وجود عقليات مثل التي تحكم إسرائيل الآن، لكن مثل هذه التصريحات والتعاطي البراغماتي، يساعد الإدارة الأميركية على خطتها الإستراتيجية لتحقيق أمن إسرائيل على المدى الطويل، والتي تعتمد على فرض حل الدولتين، وهو ما جعل واشنطن تكرر حديثها عن هذه المسألة طوال أيام الحرب في غزة، كما شجع دولاً عربية على تبني هذا المشروع، ومنها مصر التي تشجع رئيسها على إعلان دولة فلسطينية مستقبلية منزعة السلاح، لكن يبقى السؤال: ما هي حدود هذه الدولة وما هو شكلها؟

تصعب الإجابة، لكن أميركا التي تفكر لإسرائيل الآن، وضعت خطتها لأمن إسرائيل بما لا يسمح بتكرار خطأ “طوفان الأقصى” الذي هو نتيجة لسياسة خاطئة، فقد قدم الرئيس الأميركي جو بايدن رؤيته في صحيفة “واشنطن بوست”، نشرته الاثنين 20 تشرين الثاني، ترتكز على خمسة عناصر وقائية لمستقبل ما بعد الحرب، وإن كانت تركز على غزة أولاً، تشمل: 1- عدم التهجير القسري. 2- عدم إعادة الاحتلال. 3- عدم تقليص حجم أراضي غزة. 4- عدم استخدام غزة لأغراض عسكرية. 5- عدم فرض حصار على سكان غزة.

في النهاية، تبقى سيناريوات المستقبل مرهونة، ليس بالولايات المتحدة وحدها، بل بحسابات مَن يمكنه أن يتفاعل معها في دعم أي خطط مستقبلية، بخاصة من دولة مثل إيران، في إطار التوازنات والمصالح الإقليمية، لا سيما أن بايدن في مقالته قد دمج “حماس” بروسيا، لكن الأولوية الآن للصراع مع روسيا بتقديم السلاح لأوكرانيا. أما مع “حماس” فهناك معالجة أخرى تحتاج إلى معالجة الوضع الفلسطيني، فقد قال في مقالته: “نحن نعلم من حربين عالميتين شهدهما القرن الماضي أنه عندما يستمر العدوان في أوروبا من دون رد، فإن الأزمة لن تنتهي من تلقاء نفسها، بل ستتسبب بجر أميركا مباشرة، ولهذا السبب فإن التزامنا تجاه أوكرانيا اليوم هو استثمار في أمننا، فهو يمنع نشوب صراع أوسع نطاقاً مستقبلاً”!

المصدر: النهار العربي

تعليق واحد

  1. قراءة بانوراميا لمواقف الأنظمة الدولية والإقليمية من حرب غزة كلعبة الشطرنج ، كل نظام تعامل مع الحدث بما يحقق مصالحه كنظام وكدولة لتباين الخطاب بين الشعبي والرسمي والتعامل على الواقع ، لتبقى سيناريوهات المستقبل مرهونة، ليس بالولايات المتحدة وحدها، بل بحسابات مَن يمكنه أن يتفاعل معها في دعم أي خطط مستقبلية من الدول الإقليمية والعربية .

زر الذهاب إلى الأعلى