أخي وسيم الذي قتله التحدّي الخلاق والثقة بالآخرين

إبراهيم الجبين

لم يكن أخي وسيم الذي بالكاد بلغ عامه الأربعين قبل فترة قصيرة، أحد الذين استهدفتهم الجندرما التركية على الحدود، ولم يكن من أولئك الذين قرّروا المغادرة على طريق اللجوء المجهولة، فغرقوا في أنهار أوروبا أو تاهوا في الثلوج، ولم تستهوه السياسة بمعانيها التقليدية ولا أحزابها ولا تياراتها، كان مع السوريين ضد القاتل الأول، قبل أن يؤمن بأن تركيا ماهي إلا جزء طبيعي من الشرق، مثلها مثل سورية، ويصدّق ما سيراه بعينيه من نهضة ديموقراطية ومدنية وصناعية وتجارية، معتبراً نفسه معنياً في الإسهام بها، ورفدها بطاقته وأفكاره، لكن ما قتله في النهاية كان ثقته بأن ما أبصره حقيقي بالفعل، وليس وهماً.

حين انتقل أخي، قبل سنوات، مع بقية أفراد أسرتنا من الجزيرة السورية إلى تركيا، وجدها خارطة تشبه شجرة العائلة التي نتداولها في ما بيننا، هو الشرق المتداخل ذاته، وهي المصائر المتشابكة ذاتها، رأى في نفسه امتداداً طبيعياً لا يحتاج الى تردد لجدّه لأبيه القاضي الشيخ حسين الجبين في الدولة العثمانية، وجدّ لأمه موسى الحاج الحديدي الذي كان حاكماً عسكرياً للمنطقة الواقعة من دير الزور إلى الموصل إلى جرابلس أيام العثمانيين بعد انحسار غزو إبراهيم بن محمد علي باشا عن بلاد الشام، ووضع على عاتقه مسؤولية التصرّف وفقاً لهذا الإرث وأخلاقياته، لم يكن يرى فارقاً يُذكرُ بين السوريين والأتراك، ولم تكن تنقصه الثقة بنفسه ليطرح مشاريع وابتكارات هدفها الأساسي ليس إنقاذ نفسه وأسرته من الحاجة، بل الانتقال إلى التأثير الكبير وترك البصمة في ذلك المجتمع الذي بات آنذاك يعيش فيه لا عالة عليه ولا عبئاً على أفراده ومؤسساته.

في عزائه تلقينا مصافحات مواسية كريمة من وجنات يغرقها الدمع لمئات السوريين والأتراك، الذين قدموا بقلوب مفطورة ليقصوا علينا كيف كان وسيم “أبو الجود” ذلك الشاب الشهم الذي لم يقصّر مع أحد ممن قصده في خدمة أو مساعدة، ولم يكن ليتحدث بما يفعله، سواء كان شأنا يتعلق بالثورة السورية ومؤسساتها ومنابرها الإعلامية أو في كافة شؤون حياة السوريين في أورفة وغازي عينتاب.

أخذوني إلى صالة العزاء في أورفا، بعد انقضاء أيام التعزية في غازي عينتاب، وهناك رأيتُ أناساً يبكون وسيم كما يبكون أبناءهم، وتتعجّب كيف تجمع الأقدار ذلك الشاب بهم؟ شرائح عديدة من المجتمع، أجيالٌ مختلفة، وأمزجة متفاوتة، هذا يهمس لي بأن الراحل هو من ساعده على الاستقرار في تركيا، وآخر يقول لي إن بيته من سنوات كان قد استأجره له وسيم، وثالث يذكر لي كيف درّبه وعلمه على أصول المهنة، ورابع وخامس، فكنتُ أسمع القصص التي لا تنتهي عن فارس لم أكن أعرف عشر ما احتوت عليه شخصيته ويومياته، مع أنه شقيقي.

كان وسيم يؤسس كل مرّة، ورغم الظروف الصعبة، لمشاريع خلاقة لفتت الأنظار، سواء في ترويج الاقتصاد أو الصناعات التركية، ونقلها إلى عصر التسويق الإلكتروني العالمي.

ولذلك أنشأ مشروعه “osmanbaba.net” ليكون منصة مخصصة للبيع الإلكتروني على نطاق دولي لمنتجات ثقيلة وتكنولوجيا تفخر بها تركيا، وكان يعتمد في ذلك كله على إبداعه الذاتي وعلى كوادر يختارها من السوريين والأتراك، بعضها يمتلك خبرات عالية وبعضها كان يدرّبه لتنفيذ هذه المهام. وكان ينهض كلما أخفق، ويستمطر الطاقة من السماء حين تجف الموارد، ولم يعرف اليأس طريقه إلى عقله وقلبه في يوم من الأيام.

كان وسيم نموذجاً للسوري الذي لا يتوقف، ولا يفكّر حتى مجرد التفكير في التوقف عن المحاولة؛ سواء في عالم البرمجة أو الميديا أو التصاميم التي ملأت أورفة وغازي عينتاب، حتى أن ظلاله وبصماته تكاد تصبغ كل مساحة في وسط المدينتين، فأينما تلفتت ستجد مشروعاً قدّمه وسيم، وأينما نظرت ستجد شعاراً قام برسمه، أو لوحة، أو مطبوعة، أو موقعاً إلكترونياً، أو قلماً أو حقيبة.

صنع معجزات ما كانت لترى النور لولاه، ومن دون همّته وروحه المغامرة، فمن كان ليصدّق أن آلاف الكتب المدرسية المخصصة للأطفال يمكن أن تطبع بجودة عالية كالتي ظهرت عليها، ويمكن أن تُهرّب عبر طريق صعبة تمر من تركيا إلى إيران ثم إلى العراق حيث القواعد العسكرية الأميركية التي سوف تنقلها إلى مخيم الركبان؟ أشرف بنفسه على ذلك كله، وتابع أدق تفاصيله، مع منظمة غلوبال جستس التي مولت المشروع وفريق الطوارئ السوري الذي استلم الشحنات في العراق، وسط دهشة الجميع من لجوء وسيم إلى عبور خطر للأراضي الإيرانية المعادية التي تحاصر بدورها هذا المخيم وسكانه الأبرياء. لكن هكذا كانت شخصية وسيم، مغامرة وجسورة وطموحة ولا تؤمن بالطريق المسدودة.

وبالتوازي مع ذلك نظّم وسيم، هذا الصيف، مؤتمراً ضخماً لغلوبال جستس جمع أكثر من 300 ضيف، بينهم أعضاء في الكونغرس الأميركي وسياسيون ودبلوماسيون ونشاطون وأطباء ورجال أعمال، دون ارتكاب خطأ واحد، وواكبه بالمواد البصرية والسمعية والمطبوعات، مضيفاً إليه مبادرة مبتكرة لمشاريع إنسانية وإنتاجية للشمال السوري المحرر صمّمها بنفسه ووضع أفكارها، وسترى النور بإذن الله تخليداً لذكراه. بالإضافة لتأسيسه حزمة مواقع مخصصة للمنظمة يتابعها الآلاف يومياً، مثل “سيريا ماترز” و”سيريان بايونير” وموقع غلوبال جستس الأم بتقنياته العالية. وترك خلفه شركة ناشئة طموحة للبرمجة وتأسيس وتطوير المواقع الاليكترونية في وسط غازي عينتاب، والعمل الإنساني والابتكار، وهناك يشكو كرسيّه خلف مكتبه من غياب صاحبه الذي تملأ روحه المكان كلّه.

ما كان يشغل تفكير وسيم أي شيء مما يهتم به الآخرون، وعلى الرغم من علاقاته الواسعة في الأوساط التركية، إلا أنه لم يطلب في يوم من الأيام طلباً واحداً لنفسه، كان يترفّع عن ذلك، ويقدّم مصلحة الناس على مصلحته، والمشي في حاجات الناس على اقتناص الفرص بأنانية.

أما أنا فقد كنتُ قاسياً عليه، لخوفي عليه كبيراً مثلما خفتُ عليه صغيراً، كما حين رأيته اول مرّة وليداً، وكما حين جلبنا له نثر الرصاص من الكنيسة لنصبّه على قماش فوق رأسه ونبعد عنه الشرور والأعين، حسب العادات القديمة لأهل الجزيرة والفرات، وكنتُ قاسياً عليه بعدها حين بدأ يمشي ويتجاوز الموت بعد حادث خطر تعرّض له، وكنت برفقته وحدي، فرحمني من تذوق مرارة فقده آنذاك، لكنه عاد بعد أربعين سنة يجرعني من تلك الكأس، كنت قاسياً عليه حين كان يتعلّم الأبجدية، والنحو والقرآن الكريم، ولا يمكنني منذ أن غادر عالمنا البائس أن أغمض عيني دون أن أرى نفسي وأنا أحاسبه بشدّة على الفاعل والحال والاختصاص والمضاف والمضاف إليه في سنوات دراسته الأولى.

كنتُ قاسياً عليه في استعجاله الدائم، ولم أكن أدرك أنه كان يعلم أن وقته ضيّق على هذه الأرض، وإنما كان أخي يريد تحقيق أكبر عدد ممكن من الإنجازات قبل أن تحين الساعة.

لم أكن وحدي في تلك القسوة، بل كنا جميعاً قساة على وسيم، لأننا كنا نضعه في حالة تشبه تحدياً دائماً، ليتجاوز كل العقبات والصعاب. ولعل تلك اللعبة كانت تستهويه صغيراً، لكنها في ما بعد باتت تلاحقه وتطارد راحته ومنامه، وكان يسأل نفسه كل يوم: كيف سيكسر توقعات الجميع غداً؟

وعلى مدى السنوات، أسّس لنفسه سيرة إنسانية ومهنية رفيعة، وجعل من ذاته مقصداً لأحسن الظنون والآمال. وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي ضربت السوريين في مابعد العام 2011 رفض أخي وسيم العمل تحت إدارة أي عقل غير عقله، وكان محقاً وسيبقى محقاً في استقلاله وأنفته. فيا لهذا الجرح الذي تركته يا وسيم، فحتى برحيلك هذا كنت تتفوّق على توقعات الجميع.

أما الثقة التي منحها للآخرين فكانت السبب المباشر في موته، والسبيل الوحيد الذي تسلل منه الخطر إلى حياته، حين ظنّ أن المؤسسات التركية هي بالفعل كما رآها ناهضة ومتطورة، وهي في الواقع ليست بحال أفضل من حال بقية مؤسسات الشرق.

قدّم نفسه باطمئنان وثقة إلى مشفى “DEWA ” الخاص في غازي عينتاب، ومديره السياسي التركي الطبيب بايهان طهماز أوغلو، وإلى طبيبة شابة صدّق أنها قادرة على إجراء عملية استئصال مرارة، يجريها الأطباء آلاف المرات كل يوم حول العالم، ولا تسفر عن موت المريض.

كانت تلك الجراحة التي وقع فيها خطأ طبي، بداية النهاية لوسيم في عالمنا هذا، وبوابة لرحيله إلى العالم الآخر، والخطأ الطبي يمكن أن يقع ويمكن تلافيه في ما بعد، لكن حين تداعت صحته وتراجعت حالته، رفضت تلك الطبيبة مساعدته، لاعتدادها بنفسها وغرورها ويقينها أنها لا يمكن أن ترتكب أي خطأ في مهنتها.

أهملته الطبيبة التي تتباهى على وسائل التواصل الاجتماعي بعرض أعضاء المرضى بعد عملياتها الجراحية، ولم تقدم له الرعاية اللازمة في حينها، ولم تأت لمعاينته وهو يتألم، وكان أكثر ما يشغل بالها وبال فريق المستشفى هو أن يتسلموا أجر إقامته ومعاينته نقداً، ولم يكن وسيم ولا أحد من أهله قد تأخر في ذلك، لكن هذا كان على رأس أولويات الفريق الطبي بدلاً من إسعاف المريض الذي أتاهم في وضع خطير.

وبينما كانت الطبيبة تجادل وسيم وإخوته وزوجته، وتطلب منهم عدم التدخل في اختصاصها، كان السائل الأصفر القاتل الذي تركته يتدفق في جسده، يسري ويذوّب أمعاءه، وحين تفاقم النزيف، نقلوه من هذا المكان القاتل إلى مشفى غازي عينتاب الجامعي، وبمجرد أن رآه البروفيسور المختص قال لمرافقيه “إن وضعه مميت”. ولم يلبث إلا ساعات قليلة في العناية المشددة حتى فارق الحياة.

يحقق النائب العام التركي في غازي عينتاب في قضية وسيم الآن، الشاب السوري الذي عومل بعنصرية وإهمال متعمّدين، على أيدي من وثق بهم، ومن علّق عليهم آماله، حتى أنه قدّم شريط عمليته الجراحية كإعلانٍ لهم، وصنعه بنفسه ليكون دليلاً على عنايتهم بمرضاهم. ولم يكن يدري أن هذا الشريط هو شريط موته.

أصدقاء وسيم ومحبّوه في كل مكان من العالم، سوريين وعرب وأتراك ومن جنسيات عديدة، صدمهم موته بهذه الطريقة التي تعكس الاستخفاف بحياة السوريين، وآلمهم تدمير حياته وحياة أسرته وتحطيم فؤاد أمه وأشقائه، وهم يتابعون ما جرى ويجري له، وقد تواصلوا جميعاً، مؤسسات حقوقية دولية ومراكز علمية وشخصيات مؤثرة، مصرّين على تحويل قضيته إلى قضية رأي عام، فأرواح السوريين ليست رخيصة لنهدرها هكذا، وننسى من أنجبناهم وكبروا أمام أعيننا ليخطف العنصريون المستهترون أعمارهم.

كثيراً ما حدثني وسيم عن البعد الخامس الذي أراد لأحد مشاريعه أن ينتظم وفقه، ولم أكن أفهم كثيراً من خوارزميات معقدة تقوم عليها أفكاره، واليوم كل ما أفهمه يا وسيم أنك صرت في ذلك البعد الخامس، ما بعد زماننا ومكاننا ودنيانا إلى حيث ترانا ولا نراك، سنحارب من أجل حقّك في اعتذار رسمي صريح بالتقصير في إنقاذ حياته، وسنحارب كي لا تحاسبنا بناتك الثلاث ذات يوم، على تهاوننا في التعامل مع من قتلوك، ولن نبرّئ أحداً من التواطؤ في دمك حتى يعود إليك حقّك واعتبارك الذي تستحقه.

المصدر: غلوبال جستس

تعليق واحد

  1. تأبين للشاب السوري “وسيم الجبين” “أبو الجود” مع بوح شخصي أخ لأخيه شاكياً العنصرية التي تعامل بهل بها من قبل أطباء وثق بهم ، ذلك الشاب الشهم الذي لم يقصّر مع أحد ممن قصده في خدمة أو مساعدة ولم يتحدث بما يفعله سواء كان شأنا يتعلق بالثورة السورية ومؤسساتها ومنابرها الإعلامية و شؤون حياة السوريين كافة بأورفة وغازي عينتاب لتكون سيرته كسوري تركي المتفاني بانتمائه .

زر الذهاب إلى الأعلى