في الوضع العربي الراهن لا نعاني من شطط دولة الحق والقانون كما في المجتمعات الغربية الحديثة، بل نعاني من افتقادنا للمشروع التنويري أولاً، ومن غياب دولة الحق والقانون، أو لنقل من غياب الدولة ثانياً. ذلك، لأنّ الدولة، أيَّة دولة يُعلَّق فيها الدستور وتُستبدَل القوانين المدنية فيها بقوانين الطوارئ تكفُّ عن كونها دولة، وتتحوُّل إلى مجرد سلطة غاشمة للحزب الحاكم، أو الطائفة، أو العائلة، أو العشيرة.
ومع غياب الحرية تتجه أغلب الدول العربية نحو اكتساب صفة الدولة الفاشلة، أي أنّ الدولة عاجزة عن فرض سيطرتها على كامل ترابها الوطني، بسبب الصراع بين مكوِّناتها. وهذا الفشل نتيجة للعجز عن تكوين الدولة الوطنية من خلال المشاركة العادلة في السلطة والثروة.
ومن أخطر ما يواجه أغلب الدول العربية، أنه مع غياب الحريات والتعددية السياسية يُعَبَّرُ عن كلِّ أنواع الخلافات باعتبارها نزاعات دينية أو عرقية، لأنه مع القمع السياسي يعود المواطنون إلى بعث خلافات ومرجعيات بدائية، كان يُفترض أن تنقرض لو كان تطوُّر العرب السياسي والاجتماعي طبيعياً. والمظهر الآخر لفشل الدولة العربية هو فقدانها للشرعية الدستورية والشعبية، فأغلب الحكَّام العرب لم يصلوا إلى السلطة عن طريق انتخابات حرَّة ونزيهة، وما زالت أكثرية الدول العربية لا تعرف التداول السلمي على السلطة، ولا تنتهي ولاية الحاكم إلا بالموت غدراً أو قدراً.
وهناك دول تحكم بمفهوم شرعية الأمر الواقع وليس الاختيار الشعبي الحر، وفي مثل هذه الحالة يخفت بريق المسؤولية الوطنية والشعور بها، وتبهت ملامح الدولة الوطنية، ويكون ما هو كائن ما تبقَّى من الدولة الوطنية وليست هي، تتكاثر فيها كل مسبِّبات الإحباط واليأس، أو اللامبالاة، أو صراخ الحائرين مما يدور ويجري، غير مصدِّقين أن يكونوا هم دون بقية العالم أسرى أوضاع سقطت مشروعيتها منذ سقوط الأنظمة الأم في أوروبا الشرقية، والتي استوردت واقتبست منها أشكال منظماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وممارساتها في التعامل مع شعوبها.
وهكذا يتمزق النسيج الاجتماعي في أغلب الدول العربية بطرق مختلفة، فهي لم تنجح في تحويل التنوُّع الثقافي والديني والإثني الذي تعيشه إلى ميزة وإضافة. ويعود ذلك إلى غياب الديمقراطية وعدم كفالة الحقوق للجميع، لكي يعبِّروا عن اختلافاتهم، التي غالبا ما تُقمَع وتُصنَّف ضمن مؤامرات تسعى لإضعاف الدولة وإحداث الفرقة في المجتمع. ذلك لأنّ السلطة في الدولة العربية الراهنة لا تملك في حقيقتها عقيدة ذاتية خاصة بها، لا قومية ولا تنموية ولا تحديثية. عقيدتها الحقيقية هي سلطتها ووجودها وأجهزتها، أي وجودها كأداة ضبط وسيطرة. في حين أنّ المواطنة هي حلقة وصل في الدول العصرية، حيث يتمُّ من خلالها تأكيد وظيفة الدولة بحراسة الجماعة الوطنية والسهر على مصالحها الكلية وتأمينها، إزاء أخطار الخارج وتحقيق الاستقرار والتنمية في الداخل وضمان حقوق مكوِّناتها المختلفة.
وهكذا، يتحول التحدِّي الذي يواجه سلطة الدولة العربية من معضلة تبرير شرعية الوجود إلى كيفية التعامل الأمثل مع شؤون المجتمع، في ظل وعي عامٍّ ما عاد يقبل القهر بدعوة مواجهة أعداء الأمة ولا تهميش هذا الطيف أو ذاك باعتباره يد العدو الخفية في الداخل. وأمام هذه السلطات فرصة تاريخية لتثبيت شرعيتها، من خلال الانتقال من الأنموذج الأحادي القامع للتنوُّع، بغض النظر عن مصادره، إلى الاعتراف به وإدارته سلمياً من خلال آليات تعددية للتمثيل السياسي وتوزيع عادل للموارد بمعناها الشامل. والأمر جدُّ خطير فقد تراكمت عهود الظلم في دولنا وتبلورت رغبة عارمة لدى المواطنين للمشاركة في الشأن العام ورفض الاستبعاد بجميع أشكاله، وإن لم تستجب السلطات العربية لتطلعات الشعوب سينفجر من الصراعات العرقية والدينية وصراعات الموارد بين الأغنياء والفقراء ما يفوق قدرتنا على التخيُّل، ويعيد شرعية الدولة إلى موضع المساءلة والتهديد من جديد.
إنّ هذا التشخيص السياسي – الاجتماعي يجعل الديمقراطية خياراً حتمياً لا بدَّ من الولوج إليه حتى تتحول الأزمة العامة، التي تعرفها أغلب الدول العربية، إلى نقاش علني وسلمي يشارك فيه الجميع، ويسهم بالتالي في تحقيق البدائل السلمية عن طريق التداول السلمي على السلطة.
الوضع العربي الراهن نعاني من افتقادنا للمشروع التنويري أولاً، وغياب دولة الحق والقانون أي الدولة ثانياً ، لغياب الحرية تكتسب صفة الدولة الفاشلة، لعاجزها عن فرض سيطرتها على كامل ترابها الوطني ، ليتمزق النسيج الاجتماعي بطرق مختلفة لأنها فشلت بتحويل التنوُّع الثقافي والديني والإثني الذي تعيشه إلى ميزة وإضافة .ليكون الحل بدولة المواطنة انطلاقا من الديمقراطية .