لعله أعظم مواسم تحطيم الأصنام. نعم ، قد لا تكون حوادث تحطيم تماثيل الزعماء وصناع التاريخ جديدة تماما ، وحتى على مرمى الزمن القريب ، فقد حطم الأمريكيون تمثال صدام حسين وقت غزو العراق ، وحطم الفنزويليون تمثال كريستوفر كولومبوس ، الذى يقال عنه “مكتشف الأمريكتين” ، فى أواسط تسعينيات القرن العشرين ، قبلها في أواسط الخمسينيات ، حطم المجريون تمثال القائد السوفييتي ستالين في بودابست ، وحطم بعض الأوكرانيين تمثال لينين نفسه قبل سنوات ، وإن عاد أوكرانيون آخرون إلى نثر الزهور على حطام تمثال قائد الثورة البلشفية .
وبدت القصص فيما مضى محصورة نسبيا ، إما في الشرق الأوروبي المحكوم طويلا بنظم استبداد ، أو في الجنوب المعاني بثوراته الموءودة ، لكنها زحفت هذه المرة ، وعلى نحو بدا كأنه اجتياح بعد جائحة “كورونا” ، يريد أن يقتلع ما تصوره الغرب شواهدا على حضارته وعلى عظمته ، واعترافا بصناع ديمقراطيته التي يباهى بها الأمم ، ورأسماليته التي ترنحت على دورات ، وبلغت أزمتها ذروة الاحتدام مع جائحة “كورونا” ، التى لم تنشئ عوار ما آل إليه الغرب المنتفخ غرورا ، بل كان قصارى أمرها ، أن كشفت الغطاء والسواتر المصنوعة ، وفضحت زيف التاريخ الأوروبى والأمريكى ، وجناحه الأنجلوساكسونى بالذات ، الذى قاد الغرب عبر خمسة قرون أخيرة ، بدأت مع سقوط “غرناطة” واكتشاف الأمريكتين ، وكشوف العلم والصناعة والبارود ، وحروب النار التى أتت على الأخضر واليابس ، وأبادت شعوبا ، واسترقت أخرى ، وجلبت فوائض قيمة نزحتها غضبا ، وأنارت مدنها ، ومدت بساط الثراء للقاتلين ، وراحت تزهو على الدنيا بما استملكت عبر مراحل الاستعمار “الكولونيالى” المتقادم ، ومراحل الاستعمار الجديد الملتبس بالأقنعة ، من امبراطورية بريطانيا التى كانت عظمى ، إلى الامبراطورية الأمريكية ، التى بنت أساساتها على إفناء الهنود الحمر واستعباد الأفارقة ، وتعلية أسوار الاستكبار العرقى والنووى والتكنولوجى ، وتغليف البضاعة الفاسدة بورق “سوليفان” مستعار ، يحدثك عن رسالة الرجل الأبيض وحملاته التنويرية ، وربوبيته “السوبرمانية” ، التى كادت تحل مكان ربوبية الله ووحدانيته ، وكأنه يستهدى بفكرة نيتشه الفيلسوف الألمانى عن “الإنسان الأعلى” ، التى كانت زادا للنازية من بعده ، ثم للصهيونية بعنصريتها الغربية المنشأ والأطوار ، التى كان فيلسوفها الأول الحاخام آحاد هعام يقول “علينا أن نسلم بوجود درجات متتابعة فى سلم الخليقة ، بدءا بالكائنات غير العضوية ، فالنباتات والحيوانات القادرة على النطق ، بنفدمها جميعا الجنس اليهودى” ، وليست القضية فى المعتقد الدينى الذى لاننكره على أحد ، بل فى المعتقد العنصرى ، وفى معتقد “السوبر أمة” أو “الأمة الأعلى” و”الجنس الأعلى” ، وقد تصادمت الفكرتان فى التاريخ الألمانى ووسط أوروبا بعامة ، لكن خلاصتهما ظلت دينا لتاريخ الأنجلوساكسون ، وكانت تبريرا باطنا وظاهرا لجرائم الاستيطان والاسترقاق واستنزاف واعتصار الأمم ، وتصويرها كمهمات ربانية مقدسة ، زحف تقديسها المصنوع إلى تبجيل صناع التاريخ الدموى ، وتزيين الميادين بتماثيلهم ، وتزوير روايات التاريخ كلها ، وهو ما دفع الغاضبين بشوارع أمريكا وبريطانيا فى لحظة انكشاف غير مسبوق ، إلى اجتياح الثماثيل وتحطيمها ، ومن دون أن تستثنى أحدا مهما كان بريقه المتواطئ على حجب حقيقته ، من تمثال “إدوارد كولستون” وغيره من تجار العبيد ، إلى رغبة بدت جامحة فى تحطيم تماثيل جورج واشنطن وونستون تشرشل ، فقد كان واشنطن رمز استقلال أمريكا من ملاك العبيد ، وكان تشرشل الذى قدمته عشرات السير والأفلام كرمز للعظمة البريطانية ، كان عدوا لدودا لحركات التحرير من المهاتما غاندى فى الهند إلى جمال عبد الناصر فى مصر ، ومات بحسرته الاستعمارية بعد قطع ذيل الأسد البريطانى فى حرب السويس 1956 .
إنه الاجتياح بعد ومع الجائحة الكاشفة ، اجتياح شامل لدورة الغرب كلها ، ترافق مع اجتياح لأسس وصور قوة الغرب المطلقة ، فنحن نعيش منذ عقود سلفت ، مع تغييرات حثيثة فى موازين الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا ، لم نشعر بها كما يجب فى منطقتنا المنكوبة بالذات ، فقد كنا فى قلب العالم ، وخرجنا من تاريخه الجديد ، كنا فى قلب الصراعات الفوارة ، وقت أن كانت السيادة المطلقة تذهب غربا ، وكنا مع غيرنا ضحايا لزمن “سيادة الغرب” ، ثم لم نتخلف كثيرا فى الالتحاق بزمن “تحدى الغرب” ، حين ضعفت قوة مركزه الأوروبى مع حربه “الكونية” الثانية بالذات ، وكنا فى الصف الأمامى لحركات وكيانات التحرير الوطنى ، ثم جرى الانكسار فالانهيار بعد نصرنا العسكرى فى حرب أكتوبر 1973، فقد خانت السياسة حد السلاح ، وانتهينا إلى خروج بالجملة من التاريخ ، فيما كان غيرنا فى عوالم الشرق والجنوب ، يوالى نهوضه ويصنع زمنا جديدا ، قد تحق تسميته بمرحلة “تجاوز الغرب” ، أى اكتساب ذات القوة المادية العلمية التكنولوجية التى صارت للغرب ، وبالذات فى الشرق الآسيوى ، وبالخصوص فى النهوض الصينى الأعظم ، كان بندول التقدم يتحرك إلى الشرق ، الذى والى قفزاته ، وكانت النجوم تعود إلى مداراتها الأصلية ، فنور الشمس يبدأ حضوره الصباحى من الشرق ، ونور التقدم عاد يمضى أخيرا مع حركة الشمس ، وعلى طريقة “زهرة عباد الشمس” ، التى تتبع دوران حركة الشمس فى النهارات المضيئة ، وتتبع موارد الإلهام الآتى هذه المرة من الشرق المتقدم ، فيما لم يعد الغرب موردا لإلهام أحد ، وبالذات بعد انكشافات جائحة “كورونا” ، التى جعلت من أمريكا “العظمى” بؤرة الوباء الأعظم .
ولعله التاريخ الذى يكتب من جديد ، وتتحطم مسلماته التى سادت قرونا واستبدت ، فلم يعد الغرب عنوانا وحيدا للقوة الكاسحة ، ولا عادت أمريكا قطب العالم الوحيد ، ولا عادت “رأسماليتها المتوحشة” وصفة مغرية ، ولا عادت ديمقراطيتها الموبوءة بنوازع طبقية وعنصرية قاتلة كذلك ، فقد صنعت عوالم الخراب المادى والروحى ، ثم عاد الخراب ينهش فى جسدها ذاته ، ويزيل فوائض الجمال المصنوع بمساحيق “هوليوود” ، فقد انتهت ديكتاتورية “الأمركة” والمثال الأمريكى الأعلى ، وقد يدفعها فوات الفرص إلى إشعال حرائق وحروب تجارية وعسكرية ، وإلى فرد ما تبقى من تفوق عضلاتها الحربية ، وإلى التحول إلى مخزن سلاح مكدس ، تصدره إلى نواحى البؤس ، وإلى منطقتنا المنكوبة بالذات، لكنها ـ أى أمريكا ـ لم تعد موردا لإلهام ، ولا محطا لأبصار تترامى وتنجذب ، فقد انتهى القرن الأمريكى قبل أن يكتمل، وصارت أمريكا مجرد “قوة عظمى” تخف موازينها ، ولم تعد تلك “القوة العظمى” المتقردة المنفردة بألف ولام التعريف اللغوى والتاريخى ، وصارت فى حكم “أمنا الغولة” لا الأم الرءوم .
ولابد أن اجتياح الأفكار، ومعها اجتياح الاقتصاد والسياسات ، بعد جائحة كورونا المذاعة بالصوت والصورة على مدى شهور منهكة ثقيلة ، لابد أن ذلك كله سوف يجعل منطقتنا العربية بالذات فى مهب ريحه ، فقد كانت دنيا العرب ، ومعها غالب أفريقيا ، هى الغائبة على نحو شبه كلى عن تحولات العالم لخمسة عقود مضت ، وإلى حد تحولها إلى ما يشبه حدائق الديناصورات ، ونظن أنها لن تبقى كذلك بعد اجتياحات الجائحة وانكشافاتها ، صحيح أن ثورات وانتفاضات توالت فى العشرية الأخيرة ، وعلى موجتين غاضبتين عاصفتين فى 2011 و 2019 ، أطاحت برءوس ، لكنها لم تغير النظم ، ربما لأننا لا نشترى الثورات التى نحب من “السوبر ماركت” ، فهى ثورات مجتمعات مأزومة ، فقدت أو كادت حس الاتصال بالعصر وتطوراته الكبرى ، وبدا طموح الثورات المشهر بأكثر مما تحتمل ظروفها ، وبأكثر مما يحتمل تكوينها ، الذى غابت عنه القيادة المطابقة لأشواق الثورات ، وغاب الحزب أو الحلف السياسى القادر على تطويرها ، ونقل غضب الميادين الساطع إلى مراكز السلطة المؤثرة ، وهو ما أفسح المجال لجماعات اليمين الدينى ، ولحروب عصابات الإرهاب مع نظم الفساد ، ولتحطيم هياكل أقطار المآسى ، وبما دفع فى المقابل إلى وعى نسبى مضاف مع موجة الثورات الثانية عام 2019 ، التى غاب عنها اليمين الدينى بعامة ، لكنها لم تكتسب بعد قوة الدفع الكافية لصوغ التغيير الجوهرى ، فلم تصل الدراما بعد إلى نهايتها ، ولا يزال الباب مفتوحا لثورات الموجة الثالثة ، ولأسباب موضوعية جدا ، أهمها تدهور الاقتصاد والمعايش وتوحش الفساد ، وتضاعف وتيرة الانكشاف مع جائحة “كورونا” ، وكما يتدفق غضب الشوارع فى عواصم العالم الكبرى ، وهى ظاهرة مرشحة للتزايد فيما نظن ، وبدواعى اشتعال تبدو عارضة ، وهو ما سيحدث عندنا من باب أولى ، مع تدهور اقتصادات الريع البترولى والسياحى ، ومع التعرية الكاملة للتناقضات الاجتماعية ووجوه النهب وشفط الثروات ، وبما يستعجل ظهور ميادين غضب طافح ، قد لا يستثنى أقطار الخليج هذه المرة الثالثة .
إنه الاجتياح الزاحف بعد الجائحة الكاشقة المتلكئة فى الرحيل .
المصدر: القدس العربي