فيما تتوالى فصول الصراع في القطاع، بات من الضروري معرفة المزيد عن المسارات المحتملة.
غداة الهجمات في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم أشعر بالصدمة فحسب، بل كنت غير متيقّن على الإطلاق مما قد يحدث بعد ذلك. كانت بعض الأمور واضحة. فقد انكفأت القوى السياسية على الفور، كلٌّ في فقّاعته، وتبدّد أي شعور بالإنسانية المشتركة. وكنت على يقين من أن هؤلاء الأفرقاء سيتصرفون بالطريقة نفسها من خلال تجاهل التداعيات الطويلة الأمد، وهذا تحديدًا ما زجّ بهم في الوضع الراهن.
ولكن لم يكن واضحًا بالدرجة نفسها إلى أين يمكن أن تقودهم اندفاعاتهم، وما الذي سيستطيعون فعله في الواقع. نتيجةً لذلك، لم أستطع أن أرى نتيجةً واضحة سوى ما يلي: “حينما ينقشع غبار هذه الجولة من الصراع، سيكنّ الفلسطينيون والإسرائيليون مرارة أكبر لبعضهم البعض، لكن لن تكون لديهم بعد الآن الوسائل اللازمة لبناء مستقبل أقل عنفًا”.
بعد مرور شهر، باتت الأمور أوضح بقليل. فمعظم تلك الشكوك الأولى تجسّدت على أرض الواقع إلى حدٍّ أقلقني. الأسبوع الماضي، كتبتُ مقالًا تشخيصيًا للأوضاع استنادًا إلى فكرة أن الغبار قد لا ينقشع في غزة. وأحد الدوافع وراء المقال كان نمطًا مؤسِفًا رأيته يتمظهر: فعندما صبّ المحلّلون أخيرًا اهتمامهم على مسألة النتائج، اقترحوا ترتيبات استندت إلى آمال غير واقعية وأحيانًا إلى سوء فهم عميق. (كالدعوات مثلًا إلى تولّي السلطة الفلسطينية من جديد السيطرةَ على غزة، وكذلك إلى وضع منهاج مدرسي جديد – ولكن بالطبع، المناهج المدرسية في غزة هي من الوسائل القليلة المتبقّية التي تمارس من خلالها الوزارات في رام الله مهام فعّالة في القطاع).
لذلك، إن لم يكن السؤال “أخبرني كيف سينتهي كل ذلك”، بل “أخبرني كيف ستتطوّر الأمور”، فالإجابات لا تزال ضبابية بعض الشيء. ثمة الكثير من النقاط الملتبسة المعروفة: ماذا ستحقّق إسرائيل في الواقع؟ وكم من الأشخاص سيُقتلون بعد؟ وما مدى خطورة المؤشرات المتزايدة على توتّرٍ أميركي إسرائيلي؟ ولكن من أجل معرفة المزيد عن المسارات المحتملة، أودّ لفت الانتباه إلى خمسة أسئلة وحده مسار الأحداث قد يكون كفيلًا بالإجابة عنها.
أولًا، هل تُنشئ إسرائيل جيوبًا أصغر وأكثر كثافة داخل غزة عن سابق تصور وتصميم أو بصورة غير متعمّدة؟
تحثّ إسرائيل المدنيين في شمال غزة على الانتقال إلى الجنوب. وتدمّر عددًا كبيرًا من المنازل هناك أيضًا. تلمّح بعض التعليقات الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين إلى أن أمرًا منهجيًا يتحضّر – ولكن حتى لو وُضعت الخطط والنوايا جانبًا، من الواضح أن شيئًا ما يحدث. يُرغَم سكان القطاع ذي الكثافة السكانية العالية إلى التوجّه جنوبًا، ويتكدّسون في جيوب أصغر مع ترتيبات مؤقتة للسكن وتأمين الحاجات الأساسية. لا أُفق للعودة إلى الشمال بانتظار “اليوم التالي”، فهو غير واضح المعالم ويبدو بعيد المنال، وقد لا يأتي أبدًا.
ثانيًا، هل سترتكب القوات البرية الإسرائيلية الفظائع؟
كان خطاب القادة الإسرائيليين في الأيام التي أعقبت مجازر 7 تشرين الأول/أكتوبر مخيفًا. لقد انحسرت التصريحات الشديدة التطرّف، وعوقِب الوزير الذي صرّح أن أحد خيارات إسرائيل هو إبادة غزة بإلقاء قنبلة نووية عليها. وخفّت بعض الشيء أيضًا حدّة الخطاب المتطرّف بالدرجة نفسها، لا بل الدموي، الصادر عن القادة الأميركيين، والذي هدّد بجعل غزة أشبه ببرلين وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية؛ وقتل جميع عناصر حماس؛ وإرسال الجنود “من دون قواعد اشتباك”.
ولكن الخطر الفعلي الذي يمثّله هذا الخطاب الصادر عن المسؤولين ليس في أن الكلام قد يُترجَم إلى أوامر عمليات، بل في أنه يوجّه رسالة إلى الجنود المشاركين في القتال البرّي العنيف بأن جميع الفلسطينيين هم أهداف مشروعة، وبأن ما من عواقب ستترتّب على أولئك الذين يمارسون الانتقام.
ثالثًا، ما الذي ستصبح عليه حماس؟
لقد أشار محلّلون إلى أن حماس هي “فكرة”، وأوضح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن المهمة هي “إلحاق الهزيمة بفكرة، فكرة منحرفة”، فيما يشكك آخرون في إمكانية القضاء على فكرة.
هذا الكلام مضلّل. لدى حماس بعض المواقف والتصريحات العقائدية، ولكنها مبهمة. إنها نتاج حركة تتطوّر، إلا أنها لم تصنع تلك الحركة. إن كان من فكرةٍ خلف حماس، فهي حماس نفسها، أي أنها تجسيدٌ لأمل الشعب الفلسطيني بالتحرّر ولذلك يجب الحفاظ عليها. في محادثاتي الشخصية مع عناصر في حماس، لاحظت أنهم في الكثير من الأحيان يختلفون في هذه النقطة عن عناصر الفصائل الأخرى: فهم يولّدون انطباعًا بأنهم جزءٌ من شيء أكبر منهم. أما عناصر فتح فيميلون بدرجة أكبر بكثير إلى الحديث عن طموحاتهم وأفكارهم الشخصية.
حماس هي أيضًا حركة كبيرة ومعقّدة ذات فروع كثيرة عسكرية ودبلوماسية وسياسية وإدارية، وأخرى متعلّقة بالتجنيد والتدريب والاتصالات. ويخوض عناصرها اليوم ما يوصَف أحيانًا بأنه حرب وجودية مع إسرائيل. ربما يكون الصراع مصيريًا، ولكنه ليس وجوديًا على الأرجح. قد يفقد الناشطون دبلوماسيًا مكانتهم؛ وقد يلقى عددٌ كبير من مقاتلي حماس مصرعه؛ ويُطرَد كبار مسؤولي الحركة في غزة من مناصبهم. ولكن السؤال، كيف ستتغير الحركة نتيجةً للحرب وما هي خطواتها المقبلة، مفتوحٌ على احتمالات كثيرة.
رابعًا، ماذا سيحلّ بحركة فتح؟
السلطة الفلسطينية قوةٌ بائدة. ومنظمة التحرير الفلسطينية مجرّد قوقعة فارغة. ولكنْ ثمة فريق سياسي فلسطيني آخر لا يزال حيًّا، ولو كان خاملًا. فحركة فتح، ولا سيما في الضفة الغربية، لا تزال منظمة منقسمة حول الأشخاص والسياسة. وقد خسرت أيضًا جزءًا من صدقيتها، وليس لديها توجّه واضح. ولكنها حاضرة ليس على مستوى القيادة فحسب إنما أيضًا على مستوى القواعد الشعبية. إذًا، هل ستلجأ أجزاء من حركة فتح إلى المقاومة المسلّحة؟ هل ستبرز فتح من جديد في غزة، بعدما كانت حماس قد أبقتها تحت السيطرة؟ يبدو مستبعدًا أن يتمكن القادة الشباب في الحركة من إعادة إحيائها على نحو كامل، ولكنهم قد يمنحونها جرعات صغيرة من الحيوية – أو على العكس، قد يستنسخون نزعة مَن سبقوهم إلى الخصومات الشخصية والمناورات القصيرة الأمد.
خامسًا، مَن سيتخذ القرارات في إسرائيل؟
تخوض إسرائيل الآن العملية العسكرية الأطول أمدًا والأوسع نطاقًا منذ احتلالها لبنان في العام 1982، وربما منذ حرب 1973. وفيما تتواصل العملية العسكرية، أصوات مَن ستسود؟ هل ستبرز استراتيجية ما أم قرارات ظرفية فقط؟ ثمة قيادة سياسية منقسمة على رأس السلطة؛ ومجموعة من الهيكليات العسكرية والأمنية التي تتعرّض للاستهداف من بعض أعضاء تلك القيادة السياسية؛ ومعسكر ديني قومي لا يزال يمتلك بعض أدوات النفوذ. يمكن أن تتنوّع ردود فعل الناخبين الإسرائيليين، وسيُضطَرّ القادة السياسيون إلى مواجهة هذا الواقع في مرحلة معيّنة.
سيتوجّب على إسرائيل اتّخاذ قرارات مصيرية. وفي حين أن توجهات الأفراد واضحة أحيانًا، الأمر الأقل وضوحًا، حتى في الأزمنة الأكثر هدوءًا، هو ما إذا كانت السياسة تعكس استراتيجيات معيّنة أو انعدام الاستراتيجية. وفي الأجواء الراهنة، المسائل أكثر ضبابية. فهل الأعمال العسكرية الحالية هي مثلًا جزءٌ من مشروعٍ لتحويل قطاع غزة إلى منطقة “ب” منفصلة، على غرار ذلك الجزء من الضفة الغربية حيث تعمل المؤسسات المدنية الفلسطينية لصالح الفلسطينيين، ولكن إسرائيل تتحرك عسكريًا وأمنيًا كما تشاء؟ أم هل أن الأعمال العسكرية الإسرائيلية مدفوعةٌ ببساطة بالأهداف المُعلنة للحرب الإسرائيلية، والتي تتمثّل في طرد حماس من السلطة وإلحاق الهزيمة العسكرية بها؟ هل رفض الكشف عن أي مقاربات في المدى الطويل هو غطاء لهذه السياسة تحديدًا، أم أنه ينمّ عن عجز حقيقي عن التفكير أبعد من الغد؟ وهل تصاعُد العنف ضدّ الفلسطينيين في الضفة الغربية هو مأزقٌ لا تريد القيادة أن تُضطرّ إلى التعامل معه، أم أنه يتيح فرصةً لتثبيت الضمّ بحكم الأمر الواقع؟
غالب الظن أن الإجابات عن هذه الأسئلة ستتبلور مع مرور الوقت. وفيما تركّز النقاشات على الخيارات في السياسة – وهذا ما يجب أن يحدث – فإن القوى التي أطلقتها الجهات الفاعلة السياسية كبيرة إلى درجة أن الإجابات لن تكون على الأرجح رهنًا بالأحداث فحسب، إنما أيضًا بالعمل السياسي الواعي.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط
ماذا ستنتج #طوفان_الاقصى وحرب غزة ؟ يعود على كيفية نهاية هذه الحرب المتوحشة وخذلان حلف المقاولة والمماتعة للمقاومة الوطنية الفلسطينية بغزة والضفة ، الشيء الوحيد يكون بأن الغرب أسقط آخر ورقة توت تخبئ عنصرية لشعبنا ودعمه اللامحدود لصنيعته الكيان الصه.يون ، وإن المستقبل لن يكون أقل دموية لأنها خلقت جيل عاش العهر السياسي والقذارة الصه.يونية .