الولايات المتحدة و”حزب الله” يريدان الشيء نفسه من الحرب بين إسرائيل وحماس، والخطابات “المتعارضة” لحسن نصر الله وأنتوني بلينكن تُظهر أنهما يفهمان آليات نموذج “سلم التصعيد” في الشرق الأوسط. لا ينبغي أن يكون هناك أي شك في أن “حماس” تسير على الطريق نحو النصر، وإن لم يكن ذلك النوع من النصر الذي قد يتخيل المراقب العادي أنه هدفها النهائي. وعندما يُكتب التاريخ النهائي للصراع بين “حماس” وإسرائيل، كونوا مطمئنين إلى أن الخطاب الذي ألقاه حسن نصر الله سوف يُسجَّل كواحدة من اللحظات الحاسمة في تشكيل الصراع.
* * *
ألقى زعيم “حزب الله”، حسن نصر الله، خطابًا طال انتظاره والتكهن بمضامينه، حدّد فيه نهج منظمته تجاه الصراع الجاري بين “حماس” الفلسطينية وإسرائيل في غزة. وفي الوقت نفسه الذي كان فيه نصر الله يتحدث، أدلى وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ببعض الملاحظات الخاصة به وتلقى أسئلة من الصحافة حول الصراع الدائر في غزة، والأزمة الإنسانية الناتجة عنه التي أطبقت على الفلسطينيين هناك.
وكان “حزب الله” قد أصدر في الفترة التي سبقت خطاب نصر الله عددًا من مقاطع الفيديو التي توحي بأن شيئًا بالغ الأهمية سوف يخرج من خطابه. واعتقد العديد من المراقبين، الغاضبين من المذبحة المستمرة في حق المدنيين الفلسطينيين الأبرياء -وكثير منهم من الأطفال- من خلال القصف العشوائي لغزة على يد سلاح الجو الإسرائيلي، بأن هذه هي اللحظة التي سيطلق فيها نصر الله العنان لجبروت مقاومة “حزب الله”، وينتقم من أمة إسرائيلية عملت خارج إطار القانون الدولي لفترة طويلة جدًا.
واعتقد مراقبون آخرون أن نصر الله لن يرتقي إلى مستوى الحدث، وأنه لن يقدم للشعب الفلسطيني، الذي يقول إنه يدافع عن قضيته، أكثر من تفاهات فارغة عندما يحتاج الفلسطينيون إلى فتح جبهة ثانية.
على الناحية أخرى، لم تكن تصريحات بلينكن معدة مسبقا، وإنما كانت بالأحرى نتيجة ثانوية لتدخل دبلوماسي أميركي يهدف إلى استباق أي عمل محتمل قد يقوم به “حزب الله”. ولم تكن حقيقة أن بلينكن ونصر الله أدليا بتصريحاتهما في وقت واحد مصادفة -من الواضح أن بلينكن كان يسعى إلى صرف الانتباه عن “لحظة” زعيم حزب الله.
لكن الرسائل المتزامنة أشارت إلى شيء آخر أيضًا -أن الرسالة التي ينقلها كل طرف لم تكن مشروطة بمحتوى خطاب الطرف الآخر، وإنما كانت قد وُضعت قبل كلمة نصر الله (في الواقع، تؤكد حقيقة أن نصر الله لم يعمد إلى إلقاء خطاب حيّ، بل سجل خطابه مسبقا، أن ما يحدث كان مسرحًا مُعدًّا بعناية).
على السطح، يبدو أن لهجة ومحتوى هذه العروض المتنافسة تشير إلى أهداف غير متوافقة بشكل متبادل. قال نصر الله إن أهداف “حزب الله” هي “وقف العدوان” على غزة، وضمان أن حماس “ستحقق النصر” على إسرائيل، وأنه للمساعدة في ذلك، قيدت قواته جزءا من القوات الإسرائيلية في مناوشات على الحدود اللبنانية. ومن جانبه، حذر بلينكن كلاً من “حزب الله” وإيران من “استغلال الوضع” وفتح جبهة ثانية.
مع ذلك، إذا نظر المرء في الخطابين بشكل أعمق، فإن الحقيقة هي أن كلاً من نصر الله وبلينكن كانا يسعيان بنشاط إلى تجنب تصعيد الصراع بين “حماس” وإسرائيل، ليس عن طريق التراجع عن مواقفهما التي يتبنيانها بقوة، وإنما من خلال تطبيق عملية إدارة للتصعيد مُدارة بعناية، حيث صنع كل جانب الفرصة لأن تجد العواطف التي ولَّدها الصراع في غزة منافذ كافية لتخفيف الضغط، بينما يتم في الوقت نفسه تجنب أي تصعيد سريع للعنف أو توسيع جغرافي لمنطقة الصراع.
باختصار، كان كل من الولايات المتحدة و”حزب الله”، وما يزالان، يطبقان نموذجا لإدارة الصراع يعرف باسم “سُلَّم التصعيد”. وعلى الرغم من أن هذا الواقع قد يكون محبطًا لأولئك، على أي من جانبي هذا الصراع، الذين يسعون إلى تحقيق نصر حاسم من جانب واحد، فإنه المسار الوحيد المسؤول الذي يمكن اتباعه لتجنب تحويل صراع محلي إلى حرب إقليمية يمكن أن تكون لها تداعيات عالمية.
تركز عملية سلَّم التصعيد على الكيفية التي تدير بها الأطراف المعنية التصعيد وخفض التصعيد ضد المنافسين، ومعايرة هذه الإجراءات على مستويات التصعيد المختلفة التي تعادل “الدرجات” على “سُلَّم” المستخدمة لتصور النموذج. ومن خلال تقييم المسار التصاعدي أو الهبوطي المحتمل للتصعيد على كل مستوى، بناء على الأعمال التي يقوم بها كل طرف ونتائجها، يساعد النموذج المشاركين على التنبؤ بالنتائج المعقولة، وبناء على ذلك رسم السيناريوهات المستقبلية. والتعبير الأكثر شيوعًا عن سلم التصعيد هو ما يعرف باسم “التصعيد الخطي”، حيث يتم رسم خط تسلسلي من الإجراءات من الأدنى إلى الأعلى، ويتم تقييم العلاقة بين قوتين متنافستين وفقًا لذلك.
يعمل التصعيد الخطي كنموذج إذا كان هناك مشاركان فقط في الأزمة المعنية. والمشكلة في الصراع الدائر في غزة هي أن هناك العديد من أطراف النزاع، وكلها لها أهداف وغايات مختلفة. ولأن الحال كذلك، فإن نموذج التصعيد الأكثر قابلية للتطبيق على هذا السيناريو هو ما يعرف بـ”التصعيد الأفقي”، حيث يمكن فصل المشاركين المختلفين داخل متجه تصعيد معين بناء على أهدافهم وغاياتهم، مما يسمح بإجراء مجموعة فرعية من الحسابات التصعيدية المقارنة، التي يمكن أن تخضع بدورها لعوامل تؤثر على قضايا التصعيد المعيّن، وخفض التصعيد والإدامة الخاصة بها، منفصلة عن مسارات إدارة التصعيد الموازية الأخرى.
على سبيل المثال، يمكن الحديث عن نموذج “التصعيد الأفقي”، حيث يتم إقران مسار أميركي/ إسرائيلي بمسار “حماس”/ “حزب الله”. ومع ذلك، فإن المسار الأميركي/ الإسرائيلي يقترن أيضًا بنفسه، لأن الولايات المتحدة وإسرائيل تبدوان على خلاف حول خيارات وقف إطلاق النار، وتوفير هدن إنسانية، وتكتيكات عسكرية محددة. وينطبق الشيء نفسه على “حماس”/ “حزب الله”، حيث قد تتعارض أهداف “حماس” الخاصة بالفلسطينيين مع التطلعات الإقليمية لـ”حزب الله”. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤثر الإجراءات المحددة للولايات المتحدة وإسرائيل، عند التنافس، على حسابات التصعيد بين “حماس” و”حزب الله” بشكل مختلف، مما يتسبب في فقدان هذين المسارين توازنهما من خلال قيام أحد الطرفين بالتصعيد بينما قد يسعى الطرف الآخر إما إلى إدامة مستوى، و/أو خفض التصعيد.
بل إن نموذج التصعيد الأفقي يصبح أكثر تعقيدًا عندما تشارك مسارات أخرى، مثل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وإيران واليمن والميليشيات الشيعية العراقية والسورية. وعند النظر إليه في ضوء ذلك، يصبح نموذج التصعيد الأفقي معقدًا بشكل فظيع، مما يتطلب من جميع الأطراف أن تكون على دراية بالمصالح المتنافسة لجميع المعنيين، وتطوير فهم سليم للتعقيدات المرتبطة بكل جانب من جوانب علاقات السبب- النتيجة المعنية.
عند فك رموز الخطابات وعروض الموقف التي قدمها كل من بلينكن ونصر الله، قد يضطر المراقب العادي إلى انتقاد المحتوى المقدّم الأقل حسمًا من المتوقع. لكن التحليل الدقيق للغة التي استخدمها كلا الرجلين يظهر أن كلاً منهما يدرك، بطريقته الخاصة، تعقيد القضايا المطروحة، والحاجة المطلقة إلى إدارة الضغوط الناتجة عن عواطف جميع الأطراف المعنية بحيث تظل أزمة يمكن أن تتوسع بسهولة إلى حرب إقليمية، في إطار المحلية.
ومع ذلك، لا يمكن للمرء أن يهرب من حقيقة أنه في نهاية المطاف، لا يمكن أن يكون هناك حلٌّ مُرضٍ لجميع الأطراف. من جانبها، تسعى إسرائيل إلى تدمير “حماس” ككيان عسكري وسياسي. وتسعى “حماس” إلى وطن فلسطيني مبني على صورتها. وهاتان الرؤيتان للنصر غير متوافقتين بشكل متبادل. وسيسعى كلا الطرفين إلى التلاعب بسلّم التصعيد بطريقة تعزز النتيجة المرجوة على أفضل وجه. والمفتاح للأطراف الأخرى هو كيفية منع هذا التناقض المتأصل من الخروج عن نطاق السيطرة، وإدارة الهزيمة -وكذلك إدارة النصر.
هذا هو الجانب من عملية إدارة التصعيد حيث تتمتع “حماس” بالأفضلية. وكما أشار نصر الله مرارًا وتكرارًا في عرضه، فإن أهم جانب من جوانب المقاومة ضد إسرائيل هو قدرتها على المثابرة والصمود. وفي المقابل، تجد إسرائيل نفسها في وضع يتطور بحيث يصبح أقل قابلية للدفاع عنه باطراد، حيث يرفض مؤيدوها بشكل متزايد المنهجيات السياسية والعسكرية التي تتبعها. وكان الاحتكاك بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي واضحًا في خطاب بلينكن. وسوف يزداد هذا الاحتكاك فقط إذا استمر الصراع بين إسرائيل و”حماس” في السير على مساره الحالي. والفرصة الوحيدة أمام إسرائيل لكسر هذا النموذج هي، إذا ما تصاعد الصراع، إجبار الولايات المتحدة على إعادة تقييمها لنموذج حل الصراع مع وجود مخاوف جيوسياسية أكبر، مثل خوض حرب مع إيران. وقد أوضح بلينكن أن إدارة بايدن لا تسعى إلى مثل هذه النتيجة.
كما لا يريدها حسن نصر الله أيضًا.
في ضوء ذلك يجب على المرء أن يدرس مجمل خطاب نصر الله، وتعقيد حجته. لا يوجد جانب واحد من الصراع بين إسرائيل و”حماس” تركَه من دون فحص. وبالإضافة إلى ذلك، لم يقتصر الأمر على أنه ناقش كل واحد من هذه الأمور على حدة فحسب، بل قاربها أيضًا من حيث كيفية ارتباطها بعضها ببعض بشكل عام. كان خطاب نصر الله تجسيدًا لكيفية إدارة نموذج تصعيد أفقي معقد وتحقيق نتيجة مرجوة.
لا ينبغي أن يكون هناك أي شك في أن “حماس” تسير على الطريق نحو النصر، وإن لم يكن ذلك النوع من النصر الذي قد يتخيل المراقب العادي أنه هدفها النهائي. وعندما يُكتب التاريخ النهائي للصراع بين “حماس” وإسرائيل، كونوا مطمئنين إلى أن الخطاب الذي ألقاه حسن نصر الله سوف يُسجَّل كواحدة من اللحظات الحاسمة في تشكيل الصراع، بحيث تم تجنب انفجاره إلى حرب أوسع، والسماح بدلاً من ذلك لمختلف الأطراف بالتركيز على القضايا الأكثر محدودية، وإن كانت معقدة باعتراف الجميع، المتعلقة بالأمور الجوهرية كما حددتها حماس -تبادل للأسرى، وحرية العبادة في المسجد الأقصى، وإقامة دولة فلسطينية. هذه الأهداف المحدودة، وليس تدمير إسرائيل، هي النتائج الأكثر احتمالاً لهذا الصراع. وعلى هذا يمكننا جميعًا أن نشكر حسن نصر الله، الرجل الذي يعرف كيف يدير بفعالية تعقيدات نموذج التصعيد الأفقي.
*سكوت ريتر Scott Ritter: ضابط مخابرات سابق في سلاح مشاة البحرية الأميركية ومؤلف كتاب “نزع السلاح في زمن البيريسترويكا: الحد من الأسلحة ونهاية الاتحاد السوفياتي” Time of Perestroika: Arms Control and the End of the Soviet Union. خدم في الاتحاد السوفياتي كمفتش لتنفيذ معاهدة الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وفي طاقم الجنرال شوارزكوف خلال حرب الخليج، ومن 1991-1998 كمفتش أسلحة تابع للأمم المتحدة.
*نشر هذا التحليل تحت عنوان: The US and Hezbollah want the same thing from Israel-Hamas war
المصدر: الغد الأردنية/(روسيا اليوم)