منذ البداية، يرمي بشّار الأسد ضحاياه على حدود برّية بعينها: تركية وأردنية ولبنانية. مستثنياً الحدود العراقية، وحدوده البحرية، على شواطئ اللاذقية. لدى كل من الدولتين الأوليين، تركيا والأردن، رئيس وجيش وحكومة. تتصرّف كل واحدة منهما حسب نظامها ومصالحها وعقليتها. استقرّ عدد اللاجئين السوريين في البلدين منذ بداية الحرب، أي أكثر من عشر سنوات.
يبقى لبنان، الذي لم يتوقف لحظة عن استقبال المطرودين من سورية. ولبنان بالذات، لأسباب معلومة. نظامه الممسوك أمنياً من حزب الله، دولته وقوانينه وحربه الأهلية “الباردة”، وسيَبان اقتصاده، فضلاً عن “حرّاس” حدوده، الذين يمارسون كل أنواع الانتهاكات للقوانين، ويطعنون يومياً بكل مقوّمات الدولة الحامية الضابطة.
دع الجيش جانباً والذي لا “يسيطر”، إن سيطَر، إلا على نقاطٍ محدودة، لا يؤتمن لجوانبها، فيبقى مهرِّبون وعصابات تتداخل فيها أنواع الجرائم والابتزازت والمغانم وتجارة الأعضاء والاغتصاب وشبكات العبودية الجنسية، فضلاً عن تهريب كل أنواع الاحتياجات من الجهتين، السورية، حيث الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، شقيق بشّار، واللبنانية، التي لا تغيب عن نظر حزب الله، الساهر على أمن حدود لبنان الشمالية والشرقية، وحيث تمر بضائعه ورجاله وسلاحه وأمنه وحلفاؤه … إلخ.
ولكن منذ فترة، بدأت موجة جديدة من الرمي على الحدود اللبنانية، بعد قراراتٍ اقتصاديةٍ اتخذها بشّار الأسد، كانت تضييقا إضافياً على معيشة السوريين الباقين ضمن أراضيه، المسمّاة “مفيدة”. فضاقت جحيمهم بهم، وبدأوا يهربون إلى الحدود اللبنانية، “السائبة” للرؤية بعين مجرّدة، والمضبوطة بعين المناظير المتطوّرة. هكذا، شهد لبنان ما سمّي “طوفانا” من اللاجئين السوريين. لم يُعرف عددهم بالضبط، وان كانت أخبارهم وصورهم ترمي إلى الإيحاء بالآلاف… بعدسات مكبِّرة، ولا مرّة ناقصة. مثلها مثل “أرقام” السوريين في لبنان، التي تتراوح، وحسب الطرف وحسب الظرف، بين ثمانمائة ألف وثلاثة ملايين سوري لاجئ. علماً أن اللبنانيين أنفسهم لا يعرفون إحصاء دقيقاً لعددهم منذ عقود.
المهم أن المزيد من السوريين يتدفّقون إلى لبنان، الذي يستقبلهم على وقع انهياره، وعلى وتيرة متناغمة مع بشّار. و”تاريخ” أصبح طويلا من الاكتشافات المتكرِّرة لـ”الأضرار” التي يلحقها “النازحون السوريون” بلبنان، باقتصاده، بأخلاقه (الرفيعة)، بإجرامه، بديمغرافيته التي تهدّد التوازن المختلّ لطوائفه. الحوادث التمييزية ضد اللاجئين السوريين لم تتوقف منذ لجوئهم. وإن كان بضعة لبنانيين يقفون ضدها، أو يصمتون عنها. ولكن الوضع الآن يختلف. كل الأفق مسدودة. واللاجئون موضوع دسم وسهل. وإثارته، بعد هذه الموجة الجديدة من التدفّق، تحرّك ركود انتخاب رئيس صديق لبشّار الأسد. فمن يطلق “المبادرة”؟
حسن نصر الله، المتسبِّب الثاني بعد بشّار برميهم في الربوع اللبنانية، يتساءل ببراءة في خطابه الأخير: “لماذا تمنعون النازحين السوريين من مغادرة لبنان في البحر إلى أوروبا، لماذا تمنعونهم؟ وعندما تمنعونهم ويذهبون تهريبًا، يضطرّون إلى أن يركبوا بهذه المراكب المطّاطية وكل يوم يومين ثلاثة عندنا مصيبة وغرق في البحر؟ (…) اتركوا الموضوع ودعوهم يصعدون بالسفن، وليس فقط بالمراكب المطّاطية…”. ونصر الله يعلم تماما أن أوروبا كلها تراجع قوانين الهجرة لديها، لتجعلها أكثر تشديداً، وتغلقها على الهاربين إلى شواطئها. ومن بينهم السوريون، هم الأكثر عدداً. أي أن نصر الله، بعدما رمى بشّار الأسد مواطنيه في لبنان، يستمر بالرمي هذا، ولكن هذه المرّة في البحر. ارموهم في البحر، إذا لم يسحبوا “قانون قيصر”، فنكسب معركتنا ضد الإمبريالية والصهيونية إلخ… (وقيصر هو اسم المصوّر الذي التقط آلافا من الصور لجثث ضحايا زنزانات النظام السوري، وعلى أساسها، فرضت أميركا وأوروبا العقاب على الكيانات والرجال مرتكبي تلك الجرائم).
طبعاً، الوزير اللبناني “السوري” الأول، عصام شرف الدين، المحسوب على “السوري- الدرزي” طلال أرسلان، يبْصم على خطاب نصر الله. ويضيف من عنديّاته صيحة منفّرة. يتوجّه إلى اللاجئين السوريين بالقول: “البحر من أمامكم وسورية من ورائكم!”؛ مكرّراً طلب إلغاء قانون قيصر، ومحمِّلاً الحكومة اللبنانية، التي هو عضو فيها، مسؤولية “التقاعس والتلكؤ في معالجة موضوع النازحين”، متهماً زميله وزير الخارجية بـ”تجنّب زيارة دمشق”.
أبواب أخرى من الرزق فتحها حسن نصر الله على الباقين من المنظومة، معارضين أو موالين أو “بين بين”. وزير الداخلية، بسام المولوي، المنْسوب إليه طموحٌ برئاسة مجلس الوزراء المقبل، يطلق سلسلة من قرارات، يعتقد أنها تكفل تحقيق هذا الطموح. يسلِّط الضوء على نسبة المجرمين السوريين في لبنان: هي 30% من العدد الأصلي. فيصدر أوامره لقوى الأمن بإيقاف كل الدرّاجات التي يقودها سوريون لا يحملون أوراق إقامة (علماً أن هذه الأوراق يتقاعس عنها الأمن اللبناني)، ولأن “بعضهم يستخدم هذه الدرّاجات للسرقة ولإطلاق النار وتجارة المخدّرات”. وقرار آخر “بمنع الشحاذة “، خصوصاً التي يمارسها الأطفال “غير اللبنانيين”. وهذا “التوضيح” مثيرٌ للسخرية: يعني من يكون هؤلاء الأطفال “غير اللبنانيين”؟ بريطانيين؟ إندونيسيين؟ أو، هل يكون الشحاذون اللبنانيون من الأطفال شيئا عاديا؟ طبيعيا؟ أطفال شوارع… ولكن لبنانيين…؟ وأصلاً، ما معنى “منع الشحاذة” نفسها؟
ولكن الإنجاز الأكبر الذي حقّقه نصر الله بخطابه “البحري” يأتي من عدوّه المحلي اللدود، سمير جعجع. هذا الأخير لا يذهب إلى الرمي في البحر، يرتدي هنداما “رسمياً قانونياً”. يريد أن يتصرّف الآن كرجل دولة، لا صاحب أقوى مليشيا في لبنان بعد مليشيا حزب الله. ولكنه يريد أيضاً، مثل منافسه جبران باسيل، أن يرضي غليان شارعه الخائف والغاضب، أن يغذّي قاعدته الطائفية، فيشتدّ بذلك عصبها من هذا الطوفان السوري… ولكن بأناقة: “الوجود السوري في لبنان غير شرعي”، يعلن؛ ممرِّراً، بمرونة، الرنّة الأنتي سورية التي ازدهرت أيام الوصاية السورية، فيمزج بين نظام الوصاية السالف واللاجئين السوريين. ويقرّر بذلك عدم شرعية هذا الوجود الذي يحمل صورة غازي كنعان أو رستم غزالة. وهو يملك إقتراحين لطرد السوريين من لبنان، سيقدّمه نوّابه إلى البرلمان: إيقاف كل أنشطة الهيئة العليا لللاجئين في لبنان، العاملة على التخفيف من أعباء لجوئهم. ثم الطلب من قوى الأمن “تنفيذ القوانين السارية” في ما يتعلق بأوراق إقامة الأجانب في لبنان، و”على رأسهم السوريون” (هو أيضا يتجاهل مسؤولية الأمن اللبناني عن القيام بهذه المهمة البديهية). طرحت الكتائب، ربما للمرّة الأولى، فكرة أخرى: توطين السوريين في لبنان مشروع أميركي واضح. فيما جبران باسيل، لا حساب لكلماته المرسلة. خذْ هذه: “المتآمرون على لبنان لا يتخلون عن أهدافهم وهم يحاولون تفكيك لبنان عبر النازحين السوريين…”.
جنبلاط وحده، الزعيم الدرزي، ربما لحساباتٍ أخرى، يخرج عن هذا “الإجماع الوطني”. دعا إلى “وقف التحريض” على السوريين، “درءاً لمخاطر أزمة النزوح السوري على الأمن الداخلي”. وسأل مسؤول وحدة الإرتباط والتنسيق في حزب الله، وفيق صفا، عن “ماهية دعوة حسن نصر الله البحرية”، وتوجّه إليه بالقول إنه بعد هذا الخطاب “تظهّرون أنفسكم أنكم شركاء في استقدام اللاجئين”.
اختلفت الأساليب بين الممْسكين بلبنان، من أتباع أصحاب الحسابات الدقيقة ومعارضيهم. وقد فتح خطاب نصر الله الباب على “وحدة وطنية”، نزلت إلى الشارع، فغصّ لبنان بما يشبه البوغروم ضد السوريين: ملاحقات “أهلية” ضد سوريين، وشجارات دموية، مداهمات وكشف عن أسلحة ومخدّرات في خيمهم البائسة، إغلاق محلات تجارية لسوريين عمرُها عشر سنين، إخراج عائلاتٍ من سكنها في بناياتٍ في الضاحيتَين الجنوبية والشمالية، إلى الشوارع، في الأحياء والبلدات ومدن مختلفة في العاصمة بيروت، في الجنوب في جبل لبنان في المتن… والأكثر رمزية، ذاك الاشتباك الذي وقع منذ أيام في مخيم البدّاوي، وهو أصلاً للاجئين فلسطينيين، يسكنه أيضا لاجئون سوريون. والإشتباك كان بين مجموعة منهم وأخرى من “سرايا المقاومة”، أي التنظيم غير الشيعي العامل على تنفيذ سياسة حزب الله في مناطق غير شيعية. فكان السؤال العميم: هل ستندلع الحرب بين السوريين واللبنانيين؟ حربٌ أقلّ شمولية من تلك المشتعلة الآن بين إسرائيل و”حماس”؟ أم تكون هذه الأخيرة، أي الحرب، ذريعة إضافية للفتكْ باللاجئين السوريين، يضيع فيها اسم “العدو”؟
المصدر: العربي الجديد