بين يدي كتاب ” سورية والانتداب الفرنسي ” للكاتب البريطاني ستيفان هامسلي لونغريغ أحد المسؤولين البريطانيين الذي رافق الانتداب البريطاني على العراق وعمل هناك لعدة سنوات وزار لفترات طويلة سورية بين 1925 – 1950 وتعرف على العديد من المسؤولين الفرنسيين والسوريين واللبنانيين , وسنحت له الفرصة لمزج تجاربه ومشاهداته الشخصية بالإطلاع على الكثير من المراجع والوثائق التاريخية مما شجعه على وضع كتابه الذي يمكن أن يكون مرجعا في دراسة تلك المرحلة من تاريخ سورية الحديث .
الملاحظة الأولى التي تلفت النظر في مقدمة هذا الكتاب انطلاقه من مسلمة بوجود هوية سورية كامنة ذات محتوى عربي منذ فترة طويلة لتلك البقعة الجغرافية ” المحددة من الجنوب بالصحراء وبالشرق بالسهوب التي تفصلها عن العراق الأوسط ومن الشمال الشرق بالفرات الأعلى وهنا يستطرد الكاتب : ” مع أن المطالبات السورية بالجزيرة الشمالية والموصل نفسها معروفة جيدا قديما وحديثا ” وغربا بالبحر وعلى سطحها الشمالي والشمالي الغربي ترتفع سلسلة جبال الأمانوس ومن خلفها سهول ( كيليكية ) وقد اعتبرا أحيانا ومعهما مناطق عينتاب ومرعش وأورفه وحتى ديار بكر الأناضولية مناطق سورية . إن تضمين فلسطين في أية سورية جغرافية , أو تاريخية , أو اثنية ثقافية هو على الأقل منذ العصور القديمة المتأخرة أمر لانزاع فيه ” .
لكن الكاتب يستدرك بسرعة أن ذلك لايعني خضوع سورية التاريخية تلك لدولة واحدة مركزية في العهود التاريخية المتعاقبة ( طبعا فإن الكاتب لايأخذ بالاعتبار الدولة الأموية هنا ) فمقاطعة سورية الرومانية , وولاية دمشق التركية (في الحقيقة جرت تسميتها بولاية سورية في الحكم العثماني ) والجمهورية السورية في عهد الانتداب الفرنسي لم تشمل سوى جزء من الأراضي السورية .
ترسم تلك الصورة السابقة التخوم بين ماهو تاريخي – ديمغرافي للهوية السورية وبين ماهو سياسي ( الدولة – الحكم ) هذه التخوم التي لم لم تكن يوما متطابقة ويمثل ذلك أحد أوجه الدراما التي خضعت لها سورية عبر تاريخها الطويل .
يستعرض الكاتب بعد ذلك وضع الأقليات في سورية , فيذكر أنها عموما تتشارك مع الأغلبية في اللغة والثقافة والعادات الاجتماعية إلى حد كبير : ” من وجهة النظر السلالية فإن المسيحيين باستثناء الأرمن بالكاد كانوا يختلفون عن الأغلبية الاسلامية ” .
وأهم من كل ماسبق ماقرره الكاتب فيما يلي :
” إن الانطباع السائد حول سورية ” بوصفها فسيفساء من الأقليات ” يمكن أن يكون مضللا , وذلك ليس لتجاهله الغلبة الكبيرة للسكان المسلمين السنة فقط , بل ولتشديده على نحو غير مطابق للواقع على العناصر التي تفصل الأغلبية عن بقية السكان , وتقليله من شأن الأرضية المشتركة الواسعة التي يلتقي عليها الجميع , وإذا كان قد وجد حيز لسياسات الخصوصية المسيحية ( يمكن أن نضيف خصوصيات الأقليات الأخرى التي لم يذكرها هنا الكاتب وقد ذكرها لاحقا ) فقد وجد حيز كذلك للتفكير وفق خطوط سورية تعبر دون تجاوز الاعتداد بالنفس والحريات المشروعة للطوائف عن الوحدة الجوهرية للبلاد , والعهود الطويلة من التعايش المألوف , والأصول السلالية المشتركة , وتراث العروبة العظيم المشترك “.
بلاشك لو أن عربيا سوريا كتب ما سبق اليوم لخرج له عشرات المنتقدين ممن لديهم تهم جاهزة معلبة تبتدئ بالقومية الشوفينية ولاتنتهي باصطناع تاريخ مزيف لسورية يجعلها مجرد ” فسيفساء لشعوب مختلفة ” .
بل يمكن بثقة القول إن سورية بغالبيها العربية أكثر انسجاما من كثير من دول العالم ذات الهوية الراسخة التي لايفكر أحد في التعرض لها , فايران تتكون من مجموعة شعوب مختلفة اختلافات عرقية ولغوية ودينية بحيث لايشكل العنصر الفارسي فيها أكثر من 51 % من عدد السكان ففيها إضافة للفرس الأذريين والكرد والعرب والبلوش وأقليات أخرى .
أما تركيا فيشكل الأتراك بين 70 -75 % حيث يبلغ عدد الأكراد فقط بين 18- 20 مليون وهناك أقليات أخرى أقل عددا منهم العرب والأبخازيين والألبان والشركس واللاز واليهود واليونانيين .
وبالمقارنة فإن نسبة العرب في سورية تزيد عن 90 % من عدد السكان , فكيف تكون سورية فسيفساء ؟
الهوية العربية – السورية ليست مسألة بحاجة إلى اكتشاف فهي واضحة وضوح الشمس , لذلك فلم تكن موضع التباس بالنسبة لباحث بريطاني كان جزءا من جهاز الانتداب البريطاني على العراق , فهل يمكن أن لايستطيع رؤيتها بعض السوريين حين يجادلون في أن سايكس بيكو أوجدت سورية بدل أن تكون قد قسمتها وسلخت أجزاء واسعة منها خدمة لأغراض استعمارية بعيدة المدى والأهداف .