كيف تحوّل انتصار أكتوبر إلى هزيمة سياسية عربية شاملة؟

حسن نافعة

تطلّ علينا، بعد أيام، ذكرى خمسين عاماً على الحرب التي اندلعت في 6 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1973، وهي ذكرى تستحقّ التوقف عندها طويلا، لعلنا نستطيع أن نستخلص مما جرى في ذلك اليوم وبعده دروسا قد تفيد في استكشاف معالم الطريق نحو مستقبلٍ أفضل. ففي الساعة الثانية والربع من بعد ظهر ذلك اليوم، شقّ الجيش المصري طريقه لعبور قناة السويس في اللحظة التي كان فيها الجيش السوري يشقّ طريقه نحو اجتياح هضبة الجولان. وبعد ساعات قليلة، كان الجيش المصري قد نجح في وضع قدمه راسخةً على أرض سيناء المحتلة، كما كان الجيش السوري قد تمكن من السيطرة بالفعل على معظم هضبة الجولان المحتلة، وبات واضحا، بما لا يدع مجالا لأي شك، أن الجيش الإسرائيلي يواجه مأزقا عصيبا، وفي طريقه لتجرّع مرارة هزيمة كبرى، ربما لأول مرة في تاريخه. ولا جدال في أن ما تحقق على صعيد العمليات الميدانية خلال الأيام الأولى من تلك الحرب كان كافيا لغسل عار الهزيمة التي سبق للعرب أن تجرّعوها عام 1967، واستبداله بشعور طاغ بنشوة نصرٍ لم تكن قد اكتملت أركانه بعد. بالتوازي مع هذا المشهد العسكري البديع، كانت كواليس السياسة تزيح الستار عن مشهد عربي تضامني لا يقلّ روعة، سواء من الشعوب أو من النظم الحاكمة، خصوصا بعد قرار حكومات الدول العربية المصدّرة للنفط قطع إمدادات النفط أو تخفيضها عن الدول المنحازة لإسرائيل، غير أن هذا الإحساس الطاغي بالفرح والانتشاء لم يدُم طويلا، خصوصا بعد اضطرار الأطراف المتحاربة لوقف القتال والقبول بقرار مجلس الأمن رقم 338، مفسحة بذلك المجال أمام الجهود الرامية إلى تسويةٍ سياسيةٍ للأزمة، والتي قادها وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت هنري كيسنجر، والذي جاء إلى المنطقة على عجل، وبدأ على الفور جولاته المكوكية التي تمكّن خلالها من تغيير المعطيات الجيوسياسية للصراع العربي الإسرائيلي.

رغم مرور نصف قرن على تلك الأيام المجيدة من تاريخ العرب، لا توجد رواية مصرية أو سورية عما جرى فيها أو بعدها، بعكس إسرائيل التي أفرجت عن وثائق كثيرة، ومن ثم أصبحت لديها رواية رسمية تفسّر بها أسباب الانتكاسة التي منيت بها في الأيام الأولى لتلك الحرب، وتشرح كيف استعاد الجيش الإسرائيلي زمام المبادأة، وكاد يلحق بمصر وسورية هزيمة ساحقة جديدة، لولا براعة كيسنجر ونجاحه في التوصل إلى اتفاقياتٍ لفضّ الاشتباك، مهّدت الطريق أمام العملية السياسية التي أفضت إلى خروج مصر من حلبة الصراع العسكري، والتوقيع على معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل. على الصعيد العربي، كل ما نعرفه مما كان يجري وراء الكواليس في تلك الفترة مستمدّ من تقارير صحافية أو تحليلات أكاديمية، معظمها أجنبية، فنحن نعرف من هذه التقارير والتحليلات، على سبيل المثال، أن الرئيس أنور السادات فتح قناة اتصال سرّية مع الولايات المتحدة قبيل الحرب، وأنه كشف في أثنائها عن محدودية الأهداف التي كان يسعى إلى تحقيقها في ذلك الوقت، وأنه ما أن التقى بكيسنجر عقب توقف القتال، حتى كشف له تفصيلا عن رؤيته المتكاملة للسياسات الداخلية والخارجية التي ينوي انتهاجها في مصر في مرحلة ما بعد الحرب. وفي وسع كل متتبع لما جرى في مصر خلال تلك الحقبة أن يدرك أن رؤية السادات تلك كانت تدور حول فكرة محورية، مفادها أن الولايات المتحدة تملك 99% من أوراق الحلّ ومفاتيحه، وأنه يتطلع إلى التحالف معها، اعتقادا منه أن هذا سيؤدّي ليس إلى تسويةٍ سياسيةٍ شاملةٍ للصراع مع إسرائيل فحسب، وإنما أيضا إلى الحصول على مساعداتٍ أميركية ضخمة، تكفل لمصر تحقيق نهضة اقتصادية كبرى. ولأن السادات اعتقد أن حرب أكتوبر حقّقت له من الإنجازات ما لم يتمكّن عبد الناصر نفسه من تحقيقه، فقد تصوّر أن لديه من الرصيد الجماهيري ما يكفي لتمكينه من إعادة صياغة السياسة المصرية وفقا لرؤيته الخاصة. ولتأكيد جدّية رغبته في التحالف مع الولايات المتحدة، شرع السادات في تفكيك المشروع الناصري خطوة خطوة، فتبنّى سياسة “الانفتاح الاقتصادي” بدلا من سياسة التخطيط المركزي، و”التعدّدية السياسية المقيدة” بدلا من نظام الحزب الواحد… إلخ. وعندما لم تؤت هذه السياسات أكلها سريعا، وهو ما كشفت عنه “مظاهرات الخبز” في يناير/ كانون الثاني 1977، لم يكن أمامه من طريق آخر سوى الهرب إلى الأمام، وهو ما يفسّر قراره بزيارة القدس عام 1977، والذي يعد من أخطر القرارات التي أدّت، في النهاية، إلى استسلامه الكامل للمطالب الإسرائيلية.

لم يتمكّن السادات خلال المفاوضات في كامب ديفيد أو بعدها من انتزاع أي تنازلاتٍ من إسرائيل لصالح القضية الفلسطينية، وأقصى ما حصل عليه منح الفلسطينيين حكما ذاتيا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ما أدّى إلى توقف مصر عن التحدّث باسم الفلسطينيين في أي شيءٍ يخص القضية الفلسطينية والاكتفاء، في النهاية، بمعاهدة “سلام” تمكّنها من استعادة سيناء منقوصة السيادة، وهي خطوة كانت لها انعكاسات سلبية هائلة، فقد قرّرت الدول العربية مقاطعة الحكومة المصرية ونقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس، ما أدّى إلى عزلة مصر عن عالمها العربي فترة طالت نحو عشر سنوات. وعندما عادت في نهاية الثمانينيات، كان النظام العربي في حالة ضعف وإنهاك شديديْن، ومن ثم لم يتمكّن من احتواء أو معالجة الأزمة التي تسبب فيها الاحتلال العراقي للكويت عام 1990، والتي كانت لها انعكاسات سلبية هائلة على النظام العربي، وعلى تطوّر الصراع مع إسرائيل، فلأول مرة تشعر بعض الدول العربية بأن مصادر تهديد أمنها الوطني قد تنبع من داخل النظام العربي نفسه، وليس فقط من إسرائيل، وهو ما يفسّر مشاركة جميع الدول العربية وإسرائيل في مؤتمر مدريد في بداية التسعينيات، ثم اتجاه كل الدول العربية إلى البحث عن تسوياتٍ منفردة للصراع مع إسرائيل، بدليل توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاقية أوسلو عام 1993، ثم توقيع الأردن على اتفاقية وادي عربة عام 1994. ولأن النظام العربي لم يكن في حالةٍ تسمح له بإعادة بناء أو ترميم نفسه، فقد عجز عن بلورة رؤية جديدة لإدارة الصراع العربي الإسرائيلي تختلف عن النهج الذي سلكه السادات.

صحيحٌ أن النظام العربي استطاع في قمّة بيروت التي انعقدت عام 2002 بلورة رؤية جماعية للتسوية، تؤكد استعداد كل الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل والتوصل إلى تسوية شاملة إذا وافقت إسرائيل على الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية في الضفة الغربية وغزّة، غير أن إسرائيل تجاهلتها على الفور ولم تعرها أي اهتمام. ولأنه لم تكن للنظام العربي أسنان حقيقية تمكّنه من فرض رؤيته، كان من الطبيعي أن يستسلم للضغوط الأميركية والإسرائيلية التي استهدفت تصفية القضية الفلسطينية من خلال فرض نهج التسويات المنفردة، وهو ما بدا واضحا حين أقدمت كل من الإمارات والبحرين، ولاحقا المغرب والسودان، على التوقيع على اتفاقيات أبراهام، وهو نهج ما زال مستمرّا، بدليل المفاوضات التي تجري حاليا بين السعودية والولايات المتحدة وإسرائيل، للتوصل إلى صفقة تسمح بتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وهو حدثٌ قد يشكل نقطة تحوّل جديدة في مسار الصراع العربي الإسرائيلي وفي مصير القضية الفلسطينية.

أخلص مما تقدّم إلى أن النظام العربي، والذي استطاع أن يخطّط ويدير معركة عسكرية وسياسية كبرى مبهرة عام 1973، فشل في البناء على المنجزات التي تحقّقت، ما أدّى إلى تحوّل النصر العسكري بالتدريج إلى هزيمة سياسية شاملة، يمكن أن نرى مظاهرها، وأن نلمس آثارها في مختلف أنحاء العالم العربي. ويعود هذا الإخفاق، في تقديري، إلى خلل جسيم أصاب مركز القيادة في العالم العربي، ممثلا في مصر، حين تصوّر السادات أن في مقدوره توظيف ما تحقّق من إنجاز عسكري لخدمة مصالحه الشخصية، وليس مصالح مصر الوطنية التي اعتقد أنها تتناقض مع مصالح مصر القومية. ولأن النظام السياسي المطبق في مصر منذ ثورة يوليو 52 شديد المركزية والفردية، بمقدور أي صانع قرار مصري، إن أراد، أن يتبنّى توجّهات مناقضة لما يطمح إليه الشعب المصري.

صحيح أن النهج الذي اختاره السادات أوصله إلى مأزق كبير، جسّده اغتياله في واحد من أكثر مشاهد العنف حدّة في التاريخ المصري، إلا أنه نهج قابل لإعادة الإنتاج في دولة عربية. ولأن النظام العربي مصابٌ بالأمراض نفسها، والعقد التي يعاني منها النظام المصري، خصوصا ما يتعلق منها بظاهرتي الاستبداد والفساد، فقد كان من الطبيعي أن يواصل تدهوره إلى أن وصل العالم العربي إلى الوضع المأساوي الذي يعيشه حاليا. لذا لن يكون بمقدور هذا النظام التعامل بكفاءة مع أيٍّ من التحدّيات الكثيرة التي تواجهه، إلا إذا تمكّن من إصلاح الخلل البنيوي الذي تجسّده العلاقة القائمة حاليا بين الحاكم والمحكوم، القائمة على الخضوع والهيمنة الكاملة، ونجح في إقامة نظم حكم وطنية تقوم على القانون والفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة والمتوازنة بينها. وهذا هو الدرس الرئيسي الذي ينبغي أن نستوعبه من تأمّل ما جرى للعالم العربي وفيه منذ 1973.

المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى