يستشهد مقال رأي في صحيفة «الوطن» الناطقة باسم النظام السوري في الأسبوع الماضي، بقولٍ معروف لعبدالله سعادة رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الأسبق: «كل من هو مع دمشق هو قومي بالضرورة، وكل من هو ضد دمشق هو خائن بالضرورة، وكل من يقف على الحياد، فأغلب الظن أنه ينتظر ليقبض ثمن خيانته». ويستطرد الكاتب الذي يحمل لقباً فضفاضاً كأمين سر لمؤتمر الأحزاب العربية، بالقول: «إن اللاهثين وراء مشاريع تقسيم البلاد، التي أصبحت حديث الشارع وهمه الأول، أدركوا تماماً معنى أن يُكثروا من الذين يؤمنون بالحياد، وبالتالي تأهيلهم للسير في ركب العداء لدمشق وشعبها، بمجرد قبولهم لهذا الحياد المشبوه»، وهذا ما قصده الكاتب في ما استشهد به.
قال أيضاَ: «لقد كشفت الأحداث الأخيرة في السويداء والمنطقة الشرقية وضوح هذه المشاريع الرامية لخلق الفتنة المحايدة الراهنة نفسِها لمشروع استهداف سوريا، فقد ظهرت أصوات نشاز في السويداء لا تشبه أو تشابه انتماء أهلنا الوطنيين هناك، ونحن نشهد تخاذل بعض أبناء شعبنا بعدم الدفاع عن مدينتهم ووقوفهم على الحياد في موقف لا يعبر عن حقيقة أهلنا في السويداء، لقد شكلت بعض الدعوات تحت مسمى «المعارضة» مؤشراً خطيراً، لا نستطيع تجاوزه خاصة أمام فرض التعطيل العام وإغلاق مقرات حزب البعث العربي الاشتراكي، في تناقض كبير لمن يدعون حاجتهم للحرية، وفي الوقت ذاته يمنعون الآخر من التعبير عن رأيه».
ما يدفعني إلى هذا الاستشهاد – الطويل للأسف – هو تلك التهمة بالحياد التي وردت فيه، والتي تذكّر باتّهام المعارضين السوريين سابقاً لأهل السويداء بالحيادية، مع إعطائهم آنئذٍ ذلك الاسم الحركي «الرماديون»، وكذلك انصباب الغضب عليهم أكثر ممّا انصبّ على أهل النظام. هنا أعلاه يستهدف الكاتب بعض رجال الدين غالباً مع أعضاء حزب البعث وجبهته، الذي يقفون جانباً مع إقفال فروع حزبهم، ولا يدافعون عن حكومتهم عرفاناً بجميلها معهم، بل يتضامنون مع من يطالبون بتحسين مستوى حياتهم وإدارة شؤونهم، التي هي مطالبهم أيضاً وحاجاتهم الأوليّة. لا ينسى أهل النظام بدائرته التي ضاقت كثيراً ما يرونه من «حياد» بين من اعتادوا موالاتهم؛ في حين نسي المعارضون السوريون تلك التهمة القديمة مع التطوّرات والتفاعلات المختلفة على الخريطة السورية، في السويداء والساحل والشرق، وعلى جبهة عجز حكومة الأسد الفاضح عن تلبية أدنى مسؤوليات «الدولة»؛ يتفاءل عدد لا بأس به من السوريين في داخل سوريا وخارجها مؤخّراً، بأنّ هناك شيئاً ما يلوح في الأفق، ذلك كان دأبهم دائماً، حتى يستطيعوا الاستمرار بالحياة، ولا علاقة له على الإطلاق – أو دائماً – بالوجهة الحقيقية للأمور. إنهم يشمّون على الفور احتمال طبخة على وشك أن تنضج لمأزقهم ومستنقعهم، حتى إن بعض الكتّاب يتحدثون عن مشروع أصبح جاهزاً، أو أنه مبيّت للقضيّة منذ البداية من قبل الأمريكيين. كان مثل هذا يحدث بشكل دوري مؤخّراً، كلّما ازدادت شدّة العقوبات درجة جديدة، أو عند اشتداد سياق التطبيع العربي مع النظام، وما يرتبط به من شروط، لكنه لم يصل أبدا إلى درجة الحماسة التي وصلها مؤخّراً، مع حراك السويداء التي يبدو أن النظام – تقريباً- قد انسحب منها من دون بروتوكول واضح للعلاقة معها، كذلك الذي ينظّم الأمور شمال شرق سوريا. كأنّ النظام الحاكم في دمشق قد تخلّى عن إحالته كلّ أزماته وعجزه إلى العقوبات الغربية، التي وصلت ذروتها بقانون قيصر، والتأكيدات أو التفصيلات اللاحقة عليه. وتشكّل زيادة الرواتب الأخيرة التي خجل جهاز دعايته الانتحاري من وصفها بالمكرمة الرئاسية على عادته، على الرغم من كونها ضاعفت الرواتب. فقد امتصّ التضخّم وزيادة أسعار الوقود وانخفاض سعر العملة تلك الزيادة فور وصولها، وزادت درجة الغليان الشعبي بين فئات ما اعتادت الغليان سابقاً. في الساحل الذي تسبّب الأسد بخسارته الألوف المؤلّفة من الشبّان على سبيل المثال، والذي حرمته تركيبة النظام من أبسط متطلبّات الحياة والعيش الكريم. صارت شتيمة الأسد هناك؛ التي كانت تُعامل معاملة الكفر والتجديف من قبل؛ عادةً يومية. يلفت الانتباه أيضاً أن النظام عندما أراد اعتقال أحد الغاضبين هناك، أيمن فارس، لم يستطع ذلك إلّا بعيداً بمئات الكيلومترات عن بيته.
أوضح بقع الضوء في التطورات الأخيرة كان – ولا يزال – في السويداء، التي أصرّ ممثّلوها منذ ربيع 2011، على أن هنالك ظرفاً أو وضعاً خاصاً يمنع مشاركتهم العريضة أو الجذرية يومذاك، وبعد ذاك… ومنه أن السويداء ينبغي أن تبقى ملاذاً آمناً للهاربين من الجحيم، على سبيل المثال أيضاً. لم يمنع ذلك بالطبع وجود مساهمات كبيرة من ممثّلين للسويداء في كلّ كيانات الثورة والمعارضة، في كلّ الحراك.
وُلِدت تلك الأيام كلمة «الرماديون»، أو الحياديون! ابتدأت وصفاً لبعض أهل المدن الكبرى، ولرجال الأعمال والتجّار، وللأقليّات عموماً.. من غير الذين أسهموا مباشرة بالحراك والانتفاض. ربّما جمع بين هؤلاء يومها ضعف الثقة بنجاح عملية التغيير، وخوفهم من التطرّف والعنف وآثارهما المدمّرة التي تلوح في الأفق على مصالحهم وحياتهم، وانتظارهم لموقف دولي وإقليمي أكثر حسماً وأقلّ التباساً من النظام. لا بدّ أنه قد كانت هنالك حسابات خاطئة لدى أهل ثورة 2011، حين لم يؤخَذ بالاعتبار حشد شرائح من الشعب أكثر شمولاً، خلف قضيّة التغيير من الاستبداد والنهب إلى الديمقراطية والتنمية الاجتماعية. تتحمّل مسؤولية ذلك تلك المعارضة التي تصدّت للقيادة وقطف القطوف، ولا تتحمّلها قيادات الثورة الشابة، إلّا بمقدار خبرتها. لقد كانت الحركة تنداح بيسرٍ خلف الصوت الأعلى والطرف الأقصى، حتى ساد السلاح والتطرّف وأمراؤهما.
حالياً، يثأر» الرماديون» القدامى لجراحهم، بأن يقودوا حراكاً ثورياً متجذّراً ومقداماً في الشارع، قادراً على تحييد الناس الذين كانوا على جهة النظام، بل دفعهم إلى قلب التيّار العام الجارف أيضاً. لا يمكن أن يحدث ذلك إلّا حين تبرز بقوة تلك الرافعة الثانية للحراك، المتعلّقة بنهب الشعب وثرواته وسياسات إفقاره حتى الحدود القصوى… إذا كانت الرافعة الأولى هي إنهاء الاستبداد وتأسيس دولة حديثة مدنية وديمقراطية، لا فصل بين شكلها ومضمونها. يحاول النظام مداراة عجزه وحيرته أو انتظاريّته بادّعاء الصبر و»برودة الأعصاب» كما يقول، أمام حراك السويداء وانتفاضتها، لكن ذلك لن يطول حتماً مع استمرار الحراك، وتوسّعه وظهور مواقع أخرى له بالعدوى والأثر، خصوصاً في موقف أهل درعا المجاورة، الذي أخذ بالتبلور والتعبير عن نفسه.. ومثل ذلك وقبله أيضاً، خرجت ظواهر من قلب الجغرافيا التي كان النظام يعتبرها» حاضنته»، ومصدر قوته وخزّان مقاتليه والمدافعين عنه، في الساحل السوريّ وجباله. لم يخطئ النظام وحده في تقديره للحاضنة أو لرمادية تلك الشرائح، في العلويين والموحّدين والمسيحيين، والكرد بالطبع أو بعض العشائر، وأيضاً أهل المدن الكبيرة، بل أخطأت المعارضة معه في ذلك، وسهّلت له مهمته، حتى غاية الفشل والخذلان.
لذلك، ينبغي للمعارضين الذين فشلوا- وأنا منهم- أن يتوقّفوا قليلاً عن إسداء النصح والتوجيه للمنتفضين الآن، ويتنحّوا جانباً. فليس لنا أن نعيد دروس التاريخ في غير وقتها، ولا أن تتجلّى ندامتنا على ما أحدثته العسكرة والتطييف من نتائج كارثية، بالتطبيق الميكانيكي على ما يجري في السويداء أو غير مكان.. إن لأهلها وشبابها أن يقدّروا آليات الدفاع عن أنفسهم. وأن يرفعوا أعلامهم التي يرونها مناسبة لتأمين الحشد المحليّ من جهة، والوحدة الوطنية ثانياً. إذ يبدو أن اللون الرمادي المزعوم يستحيل في السويداء إلى ألوانٍ متعدّدة… ويبقى لمن تبقّى على عهده للنظام، أن يندب حظّه ورمادية أهله!
المصدر: القدس العربي