منذ اندلاع أزمة الموازنة المالية السنوية بين حكومتي المركز والإقليم في العراق، وكرة الجليد تتدحرج باتجاه مزيد من التوترات القديمة المتجددة. وقد مثّل الصدام الأخير في مدينة كركوك الغنية بالبترول أبرز ملامح الصراع. أزمة مدينة كركوك هذه المرة اشتعلت قبيل الشروع بانتخابات المحافظات، إذ يشغل العربي راكان سعيد الجبوري منصب محافظ كركوك، بعد أن كان الحزب الديمقراطي الكردستاني يتشارك مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، أهم مناصب الحكومة المحلية لمحافظة كركوك ومن بينها، منصب المحافظ منذ 2003 حتى إعادة سيطرة الجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي على كركوك عام 2017.
منذ منتصف هذا العام، وبعد أن أقر البرلمان الاتحادي في بغداد شروط وتفاصيل حصة إقليم كردستان من الموازنة السنوية، أشعل القادة الكرد الجو بتصريحات تصعيدية باتجاه إعادة تفعيل أزمة كركوك، إذ صرح رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور البارزاني يوم 5 تموز/يوليو في جلسة حوارية أجراها مع مواطنين من محافظات الإقليم، قائلا: إن «كركوك قلب كردستان، وأن ملا مصطفى البارزاني ضحى بثورة من أجل كركوك، ولم يكن مستعداً للاعتراف بأنها ليست جزءاً من كردستان». وأشار البارزاني الى تمسك الإقليم بمحافظة كركوك، التي وصفها بأنها «قلب كردستان وجزء لا يتجزأ منها»، وتابع قائلا «كل أهالي كركوك من كرد وتركمان وقوميات أخرى يقضون حياتهم الآن تحت سلطة استبدادية، لاسيما الفلاحين الكرد، وأنا مطلع على أوضاعهم، وقد تواصلت عدة مرات مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في هذا الشأن، وطلبت منه حل هذه المشكلة، حيث يتم استخدام القوة وإسكان أشخاص مكان الأهالي الأصليين»، مضيفا «رئيس الوزراء وعدني بالتحقيق في القضية وتقديم المتهمين للعدالة، ونحن ننتظر الإجراءات، وأود التأكيد على أنّه ما دمنا هنا فلن نتخلى عن كركوك».
من جانبه حاول رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني امتصاص التوتر عبر الاتفاق على تسليم مقر العمليات، الذي تشغله قوات الجيش الاتحادي إلى قوات بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني، باعتباره كان مقراً للحزب قبل 2017، وقد جاءت هذه الخطوة في سياق تنفيذ اتفاقات كتلة الإطار التنسيقي الشيعية مع قيادة الديمقراطي الكردستاني، قبيل تشكيل حكومة السوداني، إذ تم الاتفاق على إعادة سيطرة قوات البيشمركة على مدينة كركوك والمناطق المتنازع عليها في سهل نينوى، التي تم إخراجها منها بالقوة بعد استفتاء انفصال كردستان العراق في أيلول/سبتمبر 2017.
منذ اندلاع أزمة الموازنة المالية السنوية بين حكومتي المركز والإقليم في العراق، وكرة الجليد تتدحرج باتجاه مزيد من التوترات القديمة المتجددة
الأزمة الأخيرة تفجرت في 28 آب/ أغسطس الماضي، حين قطع عشرات الأشخاص من المكونين العربي والتركماني، الطريق الرابط بين كركوك وأربيل بالكامل، رافضين قرار حكومة محمد شياع السوداني، تسليم مبنى يتخذه الجيش العراقي حالياً مقراً له، إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، ويرى المراقبون إن عمليات الاحتجاج الشعبية في كركوك جاءت للتعبير عن رفض القوى السياسية العربية والتركمانية عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني لكركوك، وسرعان ما تمددت الاحتجاجات، لتشترك فيها أطراف من «الحشد الشعبي»، بهدف التصعيد ضد الحزب الحاكم في أربيل. وعلى أثر ذلك، دفعت قوى سياسية كردية أنصارها للشارع للاحتجاج، كإجراء مناوئ لتظاهرات القوى العربية والتركمانية، ما أدّى إلى احتكاك وتراشق حجارة بين الجانبين سرعان ما تطور إلى إطلاق نار، راح ضحيته أربعة متظاهرين من الأكراد، وأصيب نحو خمسة عشر آخرين. واتهم رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، المتظاهرين العرب والتركمان قائلا «قامت مجموعة من قطاع الطرق ومثيري الشغب بقطع الطرق بين أربيل وكركوك، بحجة منع افتتاح مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في كركوك»، وأضاف «لا يسمحون للمواطنين بممارسة حياتهم اليومية، وخلقوا وضعا متوترا وخطرا لسكان كركوك»، وتابع «من المثير للدهشة أن القوات الأمنية والشرطة في كركوك لم تتمكن في الأيام القليلة الماضية من منع الفوضى والسلوك غير القانوني للذين قطعوا الطريق، أما اليوم فقد تم استخدام العنف ضد الشباب الأكراد والمتظاهرين في كركوك». القيادي في كتلة الإطار التنسيقي الشيعية جاسم محمد جعفر، اتهم في تصريح صحافي مسعود البارزاني، بـ»دفع مجاميع تابعة له لإثارة الفتنة داخل كركوك». وقال «بعد تحرير المحافظة من «داعش» ومن هيمنة الديمقراطي الكردستاني، حاول البارزاني بكل الوسائل العودة من جديد للهيمنة على المحافظة، إلا أنه فشل، لذا بدأ يتحرك نحو مشروع جديد لخلق الفوضى داخل المحافظة، وأن المجاميع التابعة له أحرقت العلم العراقي وأحدثت حالة من الشغب أمس الأول»، داعياً «قوى الإطار والحكومة إلى عدم تلبية أي مطالب للبارزاني، وأن يكون التعامل معه وفق الأحكام القضائية التي تتعلق بعلاقة المركز مع الإقليم».
الكتل السنة من جانبهم قدموا مساع لحل الأزمة واحتواء الصراع، إذ بدأ رئيس تحالف «السيادة» أكبر القوى السياسية السنية في العراق خميس الخنجر، يوم 7 سبتمبر وساطة لحل الأزمة في كركوك، أجرى فيها لقاءات مع ممثلي المكونات القومية الثلاثة في المحافظة، العرب والتركمان والأكراد، إثر الاحتجاجات التي شهدتها المدينة، قبل أن ينتقل إلى مدينة أربيل لعقد اجتماع مغلق ضم رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، وكلاً من وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، ووزير داخلية الإقليم، ريبوار أحمد، لكن يبدو أن مساعي الخنجر لم تتكلل بالنجاح حتى الان. المحكمة الاتحادية العليا في بغداد، دخلت على خط الأزمة باصدار «أمراً ولائياً»، بإيقاف تسليم الحكومة للمقر الرئيسي الذي يسيطر عليه الجيش العراقي، للحزب الديمقراطي الكردستاني، وذلك بعد ساعات من قرار حكومي مماثل بـ»التريث» في تسليم المقر، ضمن مساعي احتواء الأزمة المتصاعدة. وعقب صدور الأمر القضائي، علّق رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور البارزاني، في تغريدة له على حسابه بمنصة تويتر، إن القرار بإيقاف إجراءات تسليم مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في كركوك «مهزلة».
في ما يخص الأزمة المالية بين المركز والإقليم، طالبت حكومة إقليم كردستان، الحكومة الاتحادية في بغداد يوم 6 سبتمر الجاري مراجعة قرار دفع رواتب موظفي الإقليم على شكل قروض، وقالت إنّ الإقليم «أوفى بالتزاماته» لبغداد، وبالمقابل ينتظر صرف حصته المقررة من الموازنة بقيمة 1.3 مليار دينار شهريا، إذ اعتبر الساسة الكرد خطوات بغداد محاولة لتجويع مواطني الإقليم.
جاء رد بغداد عبر تصريح المتحدث باسم الحكومة المركزية باسم العوادي في بيان صحافي، يوم 8 سبتمبر الجاري قائلا: «إن الحكومة الاتحادية نفذت التزاماتها المالية كاملة تجاه إقليم كردستان»، وأضاف إن «الحكومة بذلت جهودا كبيرة لتقديم الحلول»، مبينا أنه «لغاية نهاية شهر حزيران/يونيو بلغت الأموال في ذمة الإقليم أكثر من ثلاثة أضعاف حصة الإقليم من الموازنة، حسب الإنفاق الفعلي للدولة، في حين لم تسلم حكومة الإقليم الإيرادات النفطية وغير النفطية كما أوجب تسليمها قانون الموازنة الاتحادية». وقال العوادي إنه «على الرغم من عدم التزام حكومة الإقليم، أخذت الحكومة الاتحادية قرارا بعدم تحميل المواطنين العراقيين في الإقليم جريرة عدم الالتزام، وعملنا بما يسمح به القانون باتخاذ قرار في مجلس الوزراء بإقراض الإقليم لحين حسم مشاكله المالية أصوليا». نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية في الولايات المتحدة فيدانت باتيل، أكد في مؤتمر صحافي، يوم 5 سبتمبر الجاري، رداً على سؤال حول أحداث كركوك بالقول: «نتابع التوترات في كركوك عن كثب، ونقدم التعازي والمواساة لأسر القتلى»، ودعا جميع الأطراف إلى «حل خلافاتها عبر الحوار، وتفعيل المادة 140 من الدستور»، وأشار باتيل إلى أنّ «الولايات المتحدة على اتصال دائم مع شركائنا في بغداد وأربيل بشأن آخر المشاكل بين أربيل وبغداد حول الموازنة والرواتب، وعدم استئناف تصدير نفط إقليم كردستان»، وطالب «جميع الأطراف بضبط النفس، واتخاذ كل الإجراءات اللازمة لتهدئة التوترات». من جانبه قال مستشار رئيس الوزراء العراقي فادي الشمري، إن الحكومة بادرت بتفاهمات عميقة مع إقليم كردستان من منطلق «القوة والحكمة»، وأضاف الشمري في تغريدة على منصة تويتر، قائلا إنه «تحت سقف الدستور، تدار الاتفاقات والتفاهمات ولا شيء يعلو على ذلك»، مضيفا «من منطلق الحكمة والقوة بادرنا نحو تفاهمات عميقة وشفافة مع مختلف الفعاليات السياسية، لاسيما الملفات العالقة بين بغداد والإقليم». وبيّن أن «الحكومة ورثت ملفا معقدا ومتشابكا مع إقليم كردستان، والتزمت بأدبيات تنفيذ التفاهمات بكل محبة وحكمة، وما زالت النوايا الطيبة حاضرة شريطة الالتزام بالدستور وبقواعد الاحترام واللغة المرنة والشفافية من قبل حكومة الإقليم».
المصدر: القدس العربي