مرّةً في عام 1989، عندما كان الاتحاد السوفييتي ينهار، قال ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي لميخائيل غورباتشوف، مخاطبًا الغرب: “نحن نقدّم إليكم شيئًا فظيعًا بأن نحرمكم العدو”. وقد كان أرباتوف ذكيًّا بحقّ، حين اهتدى إلى شيءٍ يشبه الكارثة المرعبة التي قد تنزل بدولةٍ مثل الولايات المتحدة، إذا أصبحت من دون عدو أيديولوجي. مرعبةٌ وصولًا إلى إمكانية تهديد وجود أميركا بوصفها قوةً عظمى؛ فكيف تحافظ الولايات المتحدة على بنيتها المتماسكة، والمتحفّزة دائمًا، وقد اندثر عدوها الأيديولوجي؟! هذا التساؤل هو خلاصة لفتة أرباتوف المُدهشة، وقد نقول اليوم إن أرباتوف كان مُحقًّا، فقد بدت الولايات المتحدة، بعد ذلك، وكأنها تجتهد في صناعة عدو أيديولوجي جديد، وكأن هذه الصناعة صارت مهمّةَ أمنٍ قومي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؛ فصارت لدينا سردياتٌ عملت أميركا على حضورها وتسويق خطورتها مثل سردية “الإرهاب”، و”الإرهاب الإسلامي” وما إلى ذلك. إذًا، ليس الحرمان من العدو سهلًا دائمًا، ولا تكون تبعاته على المنتصر جيدةً دائمًا. وبالضرورة، يحفّز هذا الحرمانُ المحرومَ على الابتكار، ولكن ليس على ابتكارٍ من النوع العادي، بل ابتكار عدوٍّ يساعده في تسويغ القيام بما اعتاد المحروم القيام به دائمًا، وتسويغ مكتسباته، بل تسويغ وجوده كله أحيانًا. نخرج من هذا التقديم المُطوّل بالقول إن الحرمان من العدو يُربك المحروم، وإنْ كان يبدو مُنتصرًا. ويبدو أن نظرية خطورة الحرمان من العدو قد تعمل دوليًا بطريقة أميركا بعد أن “خسرت” الاتحاد السوفييتي، ولكن على المستوى الداخلي، ثمّة درسٌ معاكس؛ فلا يمكن أن يُبنى المجتمع السياسي داخليًا إلا إذا تدرّبت المجتمعات الفرعية على التلاؤم الإيجابي مع فكرة الحرمان من العدو، فالدولة من هذا الباب تأقلمٌ على تعريف الذات بدلالة ذاتها، لا بدلالة عدوّها؛ فالعلماني لا يحتاج إلى عداء الإسلام ليجد ذاته، وكذلك لا يحتاج الإسلامي إلى عداء الليبرالي أو العلماني ليكتمل إيمانُه، ولا يحتاج الكردي إلى مظلوميّته ليُعرِّف ذاتَه، ولا ينبغي أن يلجأ الدرزي أو المسيحي أو العلوي إلى كلمة “الأقلية” لكي يُموضِع نفسه وطنيًّا (أي بدلالة الأكثرية). هذا النوع من التلاؤم الإيجابي هو نوعٌ من المرونة اللازمة للحياة من دون عدوّ، ويبدو أن هذه المرونة مدخلُ المجتمع المدني السوري الأكثر إمكانيةً في ضوء الراهن.
نستخدم نتيجة هذا التقديم في بناء مقاربةٍ لأهمية ما يحدُث في السويداء هذه الأيام؛ فالمُختلف في تظاهراتهم هذه المرّة هو توافر التلاؤم الإيجابي: أي إن السويداء موجودةٌ بذاتها، ولا تحتاج إلى عدوٍ لتثبت وجودها، لا عدوٍ قبلي، ولا طائفي، ولا غير ذلك، بل كل ما تحتاج إليه اندماجٌ وطني من البوابة المدينية التي فتحتها التظاهرات أخيرًا. وقد نقول، وإنْ بحذرٍ، إن السويداء تتقدّم إلى الوطنيّة السورية بدلالة ذاتها للمرّة الأولى منذ عام 1925، ذلك لأن السويداء، منذ الاستقلال إلى ما قبل هذه التظاهرات بيومٍ واحد، كانت تبني أهم مداخلها إلى الوطنية السورية استنادًا إلى عدائها الاستعمار الفرنسي، وبدلالة بطولة أبنائها في الثورة السورية الكبرى وتضحياتهم. ويمكن القول، وإن بشيءٍ من التعميم، إن السويداء قد احتمت دائمًا بهذه الهوية الثورية، التي يمتزج فيها الفخر بالخبر، واستخدمتها مدخلًا إلى الوطنيّة؛ ولكن السويداء اليوم مختلفة، فهي تُقدم ذاتَها بدلالة الحاضر والمستقبل، وهذا مهمٌ جدًا، وجديدٌ، وإنجازٌ رائعٌ يُبنى الكثيرُ استنادًا إليه.
وأيضًا، ثمّة شقّ آخر للتفكير بهذه الطريقة، هو الذي يتضمّن أهمية هذه التظاهرات ذات السقف المرتفع والحاسم بطريقة الـ 2011 نفسها، في حرمان النظام السوري سرديّته الرسمية التي بناها لفكرة العدو منذ بداية الثورة؛ فقد يبدو، عند التحليل، أن هذا الحرمان من أكثر فوائد تظاهرات السويداء الراهنة أهميةً. بطبيعة الحال، بنى النظام السوري أكثر من عدو وهميٍّ لتسويغ العنف والقتل والهمجية كلها، وقد يكون أكثرها وضوحًا وأهمية بالنسبة إليه هو “الإرهاب”، وتحديدًا ذلك الناتج من “التطرّف الإسلامي السُّني”، ولا داعي للتذكير بالخطاب الذي قدمه النظام وآلته الدعائية في هذا السياق منذ البداية إلى اليوم. وواحدٌ من أكثر المعاني التي قدمتها السويداء (الدرزية) في الأيام الماضية، أنها حرمت النظام السوري سرديته هذه في تصوير العدو وبناء الدعاية بموجب هذا البناء، وسيكون هذا الحرمان فظيعًا من منظور النظام. تعني هذه المقاربة أن النظام سيلجأ في الأيام المقبلة إلى بناء سردية جديدة تسوِّغ القيام بما اعتاد القيام به دائمًا، ولكن في السويداء هذه المرّة، أي إنه سيهيئ الجو للمجزرة التي لا يجيد غيرها في الردّ على الحراك الشعبي من طريق ابتكار سرديةٍ تؤدّي إلى ابتكار عدو جديد يسوِّغ المجزرة. إلى هنا، صار السؤال عن ماهية هذه السردية مهمًا لقطع الطريق على النظام، ومن ثم لتفادي المجزرة، أو الانزلاق إلى اقتتالٍ جانبي.
ثمّة أفكارٌ كثيرة تصلح لكي يُحمِّل النظام عليها سرديّته في السويداء، منها مثلًا أسطوانة الخيانة والعمالة لإسرائيل، ومنها افتعال حربٍ أهلية محلية في السويداء تمهيدًا لتدخّله فيها بالقوة، وذلك بالاعتماد على الشقاق الحاصل في مشيخة العقل، حيث انقسمت في تصوّرها لمستقبل النظام بين رفض وجوده رفضًا قاطعًا والانحياز إلى خيار الناس، وبين الدفاع المستميت عن بقائه كما هو. وكلا الطرفين مسلّح بطبيعة الحال. وإلى ما هنالك من أفكارٍ أخرى قد يلجأ إليها النظام ليبني لذاته عدوًا أيديولوجيًا لن يستطيع البقاء من دونه، وبه يسوّغ وجوده وإجرامه. المهم في هذا الكلام كله هو السؤال عن الذي بأيدينا، نحن السوريين، أمام هذا الوضع، لأننا بطبيعة الحال غير معنيّين بالمسألة الطائفية، مثل ما تعني النظام، ولكننا لا نزال نخرُج بوصفنا سوريين أفراداً. وبهذا الخروج، يطرح كلُّ فردٍ ذاته بوصفه مشروع مواطنٍ في المستقبل. ما بين أيدينا كبيرٌ، وأفضل طريقٍ لتحريره هو إنجاز فعل التنسيق من جديد، والعودة إلى التنسيقيّة، مقولةُ الثورة الأولى العابرة للمناطق، والطوائف، والعصبيّات، والأيديولوجيات كلها. من ثم الاستناد إلى هذا المفهوم المُبدع في بناء السياسة. وبطبيعة الحال، ما إن تتقدّم التنسيقية على المستوى العملي حتى تحرم النظام السرديات التي بناها للعداوة كلها؛ فالتنسيقية في العمق تمرينٌ متقدّمٌ على فن التأقلم مع الآخر المغاير أيديولوجيًا، يمرّ بالضرورة من ممارسة مستمرّة للتعدّدية في الفضاء العمومي.
وثمّة نقطة أخيرة، قد يطرحها هذا النوع من التفكير، أن المعارضة التي نعرفها، ومجموعاتها التي تأتلف باسم السوريين والثورة، قد أخفقت في اجتياز تمرين التنسيقية، وظلّت تعرّف ذاتها بدلالة عدو ما: ظلت ائتلاف كائناتٍ أيديولوجية تسمّي نفسها معارضة، وحتى هذه التسمية مُعرَّفة بدلالة العدو، فكلمة “معارضة” تفترض بالضرورة وجود المُعَارَض (النظام في هذه الحالة بطبيعة الحال). في حين يُقدِّم السوريون أنفسهم منذ 2011، واليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، بوصفهم أصحاب مشروعٍ وطني يريدون امتلاك سورية، وتأميم السياسة فيها، لتعود عموميّة يمتلكها السوريون العاديون، وهذه هي دلالة الشعار المدهش “سورية لينا، وما هي لبيت الأسد”. الـ نا في كلمة “لينا” (بلهجة درعا) تتضمّن تملك الجماعة العمومية السورية لبلدهم، أي الجماعة التي يحضر الآخر في بنيتها بالضرورة؛ فالآخر في المعنى الوطني يحضُر دائمًا في معنى الفعل الذي نصنع منه ذواتنا، أي في فعل التنسيق، فالتنسيقيّة، بخلاف المعارضة، لا تُعرِّف ذاتها بدلالة عدوها. فعلٌ مثل وجود أهالي درعا في ساحة الكرامة في تظاهرات الجمعة الفائتة، والسلوك الوطني المدهش في السويداء الذي جذبهم ودعاهم واحتضنهم، يقدٍّم لنا مثالًا أنموذجًا لنوعية الفعل التي تصنع منه ذواتنا الوطنية، وخصوصًا لو يتوّج بفكرة التنسيقية. هذه أفعالٌ لا تحرم النظام عدوّه فحسب، بل تحرمه حياته لكي نعيش.
المصدر: العربي الجديد