أتابع في هذا الجزء الثاني الحديث عن الظروف السياسية السورية التي صاحبت اعتقال سلام السباعي أواسط ثمانينات القرن الماضي وخروجها من المعتقل بعد اكثر من خمس سنوات اعتقال وسجن وحال من كان معها وحالة سوريا السياسية وحالتهم التنظيمية الحزبية ومآلاتهم…
في التعقيب على المذكرات اقول:
اود ان اتحدث عن المناخ السياسي لسوريا في وقت اعتقال سلام ورفيقاتها لأني ابن لتلك المرحلة ومطلع عن قرب على واقع الاعتقال السياسي في السبعينات والثمانينات وحتى واقع القوى السياسية ، فإني هنا سأذكر الحالة السياسية السورية للنظام والمعارضة في ذلك الوقت والخلفية التي أدت لسجن سلام ورفيقاتها…
سأبدأ بالحديث عن سورية التي أصبحت منذ ١٩٧٠ دولة محكومة من حافظ الأسد بالمطلق حيث ثبّت حكمه بتمدد طائفي علوي ضمن الجيش والأمن وطاح بالقوى السياسية المعارضة، بعضها دجّنه بضمه الى الجبهة الوطنية التقدمية وأصبحوا تابعين له بالمطلق. وبعضها همشه بالاعتقال ومنع التسييس في الجيش والطلبة وبين موظفي الدولة إلا للبعثيين فقط. ولأن الإسلاميين بفرعيهم العنفي جماعة مروان حديد الطليعة المقاتلة والسلمي الإخوان المسلمين. لم يقبلوا مصادرة الدولة طائفيا وسياسيا للعلويين كما أعلنوا وقتها. فقد أعلنت الطليعة المقاتلة حربا على النظام على العنف المسلح والاغتيالات. واجه النظام هذا بعنف مقابل تطور من أواسط السبعينيات حتى أوائل الثمانينات وصل الى حرب ضد الشعب أدت لمقتل عشرات الآلاف من الشعب السوري وتم نتيجتها القضاء على الطليعة المقاتلة والإخوان المسلمين ومن سلم منهم هرب خارج سوريا. وفي ذات الحملة قام النظام بضرب القوى الوطنية الديمقراطية المعارضة ومنظمات المجتمع المدني مع النقابات المدنية. انصب العنف الاستئصالي على الحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي جماعة رياض الترك لأن النظام اعتبرهم حلفاء الإخوان المسلمين في محاولة اسقاطه. واصبح اغلب كوادره بين ملاحق ومعتقل وهارب متواري. كذلك الحال مع كوادرحزب البعث العراقي الذين لاقوا نفس المعاملة الاستئصالية. ومن سلم من بقية الأحزاب المعارضة فقد التزم تقيّة اضطرارية جعلتهم يؤثرون الحفاظ على الذات التنظيمية والشخصية . وللعلم فإن معارضين آخرين ناصريين وقوميين عرب ووطنيين ديمقراطيين نالوا نصيبهم من الاعتقال والملاحقة. هذا واقع عشناه ولا يحمل حكما قيميا سلبا او ايجابا…
لذلك كانت سوريا في أواسط الثمانينات قد أصبحت تحت سيطرة النظام الذي بطش بالشعب وقواه السياسية…
لكن مجموعات من اليسار الماركسي كانت قد نشطت في ذات التاريخ وقبله قليلا في حلقات فكرية سرعان ما تحولت إلى حالة تنظيمية أطلقت على نفسها رابطة العمل الشيوعي. واعتمدت ما ارتأته الطريقة اللينيّة في مواجهة النظام وهي تكثيف توزيع المناشير السياسية والتوسع التنظيمي ومحاولة خلق بنية تنظيمية في الجيش ليأتي وقت يكونوا جزء من الثورة الشعبية. كان موقفهم من الصراع بين النظام والطليعة المقاتلة والاخوان. انه صراع بين البرجوازية الصغيرة ممثلة بالنظام والرأسمالية المستغلة ممثلة بالإخوان والطليعة المقاتلة وأنه صراع بين نظام مستبد وارهابيين . لذلك إن كان لا بد لهم أن ينحازوا لطرف فهم مع النظام في معركته ضد الاخوان والطليعة المقاتلة. وكان هذا ما جعل النظام يغض الطرف عنهم أول نشأتهم…
كانت ميزة شباب وصبايا رابطة العمل الشيوعي انهم ينتمون الى اغلب مكونات الشعب السوري سنة ودروز وعلويين ومسيحيين واسماعيليين وحتى أكراد… كانوا مستغرقين في رؤاهم الفكرية واستعدادهم النضالي. يعتقل البعض ويلتحق بالرابطة الكثير…
لكن النظام السوري كان له رأيا آخر فبعد أن فرّغ سوريا من أي معارض مواجها له بشكل شبه كامل. الا بالنشر الحزبي الداخلي المحدود. وبعد أن وجد أن الرابطة تخترق البنية المجتمعية بتنوعها. وأنها اقتربت من خط احمر وهو النشاط بالجيش واجتذاب بعض الضباط ومن العلويين حصرا. عندها قرر النظام استئصال رابطة العمل الشيوعي واعتقال كل كوادرها. اعتقل اغلبها وتوارى من تبقى وأصبحت بعد ذلك كمثل كل الأحزاب السورية المعارضة بقايا كيانات تنظيمية سابقة .
في أثناء الحملة الأمنية على الرابطة اعتقلت سلام ورفيقاتها واستمروا هذه الخمس سنوات التي كانت كافية لردعهنّ و لاستئصال التنظيم الذي أسمى نفسه حزب العمل الشيوعي بعد ذلك. والذي بقي افرادا محدودي التأثير مجتمعيا مثل كل الأحزاب المعارضة السورية…
في تعقيبي أيضا أقف عند تأخر نشر هذه المذكرات أكثر من ثلاثة عقود. وهل عدم نشرها له علاقة مع الخوف المفهوم والمبرر من النظام وأمنه القادر على الوصول لسلام ومحاسبتها عن فضحها له ولاعماله ولو بعد عشرات السنين…
وهل له علاقة بطرح شهادة تختلف عن شهادة حسيبة عبد الرحمن التي نشرتها وكانت برأي سلام انها ظلمت التجربة وأساءت للمعتقلات..
ثم لماذا توقفت المذكرات عند بداية الثورة السورية ٢٠١١م. رغم مضي ١٢ عاما على انطلاقتها كان من المطلوب أن تقول رأيها ولو مركزا وبالمختصر…؟!. ام مازلنا أمام تقية اجبارية. وأن الحياة والأمن الشخصي أهم. مازلت أفهم وأتفهم…
ومع ذلك انتظر شهادة سلام السباعي عن الثورة السورية التي قامت ربيع ٢٠١١م وحتى الآن.
في الختام أحيي سلام على توثيقها لتجربة سجنها ورفيقاتها. ولو بعد وقت. لانها بتوثيقها هذه اعادت احياء التجربة المرّة وخلدتها وجعلتها حاضرة لنا وللأجيال القادمة ولكي لا ننسى وننتصر دوما للإنسان وحريته وكرامته وحياته الافضل…
وايضا تابعت التطورات الفكرية والسياسية لسلام ورفيقاتها وان من لا يتطور مع الحياة ويدرك الخطأ و يتجاوزه والصواب و يتبعه فإنه ينقرض سياسيا ومجتمعيا.
إدراك التنوع السياسي والمجتمعي. قبول الآخر إدراك ضرورة الديمقراطية نظاما للدولة وتداول السلطة وأن العدالة والمساواة والحرية وسيادة القانون هم عماد الدولة التي تنتصر للإنسان والمجتمع…
في المذكرات رسالة مفادها أن سوريا الآن لم تعد بلدا تُسكن. بل جحيما يطرد أبنائه للخارج او يدفنهم في ترابه قتلى بغير ثمن او معتقلين بتهمة انهم احرار او مشروع احرار. أو عبيدا اقنان دون اي حقوق . لذلك كان الحل في خاتمة المذكرات الهرب بأي ثمن خارجها…
وهذا ما حصل بعد ذلك. ثمن كبير دفعناه نحن السوريين من دمائنا وحياتنا …
723 4 دقائق