تلفت الانتباه الأصوات التي تنتقد الأوضاع الصعبة وغير المحتملة التي تشهدها مناطق سيطرة نظام الأسد. ولافتٌ أن بعض الأصوات بدا متجاوزاً للسقوف المسموح بها، والتي لم تتجاوز في مرحلة سابقة الحكومة أو أحد أعضائها، وتتحدّث عن الفساد بشكل عام، وكانت في الغالب تناشد رأس النظام، باعتباره الجهة التي بإمكانها فصل المنازعات بين السلطة والشعب، وليس باعتباره رأسا للنظام الذي صنع السياسات التي أوصلت البلاد إلى هذا المستوى من الخراب.
لكن، ثمّة مستجد وطارئ في هذه الانتقادات يتمثل في ثلاث نقاط، الأولى: أن النقد بدأ يطاول مستوى القيادات، والذي يعني ضمنا رأس النظام مباشرة وزوجته أسماء التي بدأت بصناعة إمبراطورية اقتصادية تقودها، وتشرف على توجيهها تحت مسمى اللجنة الاقتصادية، في القصر الجمهوري، وكذلك شقيقه ماهر الأسد باعتباره شريكا في الغُنم والخراب الحاصل، والذي يتولى جمع الإتاوات عبر فرقته الرابعة، ولا تميز بين مُنتج (فلاح أو صناعي أو تاجر) موال أم من خارج البيئة الموالية.
والثانية، تحرّض هذه الانتقادات الناس العاديين، وربما بشكل أكثر دقّة، بيئة النظام، على عدم السكوت والاعتراض، انطلاقا من أن هؤلاء قدّموا ما هو أكبر من طاقتهم “أبناؤهم الذين ماتوا في الحرب” لصناعة المشهد السوري الحالي المتمثل في بقاء الأسد في السلطة، والمُراد من ذلك إيصال رسالة إلى الأسد بأن هؤلاء لا بد أن يحصلوا على مزايا، إن لم يكن بوصفهم شركاء فبوصفهم قدّموا خدمات حاسمة في بقاء الأسد في السلطة.
والثالثة: انطواء هذه الانتقادات على إنذار صريح بأن الباب مفتوح لاحتمال تصعيد، عبر وسائل التواصل على الأقل، فيما لو لم تتم الاستجابة الفورية للمطالب التي يرفعها هؤلاء، والمتمثلة غالبا في تحسين الأوضاع المعيشية، عبر رفع الرواتب وتخفيض الأسعار وتأمين الكهرباء والغاز المنزلي والوقود.
بيد أنه، في المقابل، يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات بشأن ما يمكن أن تُطلق عليه مجازا تسمية حراك في بيئة الموالاة، تثير الشكوك بشأن مطلقيها والسياق الذي تجري فيه. الأولى: ينتمي أصحاب الأصوات التي بدأت تظهر في الأغلب لمنطقة جبلة، وهذه مركز ثقل الضباط الأمنيين والعسكريين في النظام، ومركز لما تسمّى القوات الرديفة (الشبّيحة)، حيث تأسّست في مرحلة قمع النظام السوري الثورة تشكيلاتٌ كثيرة ذات طابع مليشياوي. وبعد التدخّل الروسي وانتفاء الحاجة إليها جرى تفكيكها وتحويل عناصرها إلى متقاعدين بالإجبار، كذلك تم تسريح ضباطٍ كثيرين في الجيش والأجهزة الأمنية أو إحالتهم إلى التقاعد، وهؤلاء وإن حصلوا في مراحل معينة على غنائم الحرب، من التعفيش أو السرقة والإتاوات، إلا أن تراجع سعر الليرة والغلاء الحاصل أتى على مدّخراتهم من الحرب.
الثانية: تكرّر هذه الأصوات رفض الخروج إلى الشارع، بل تخوّن كل من يفكّر بالاعتراض بهذه الطريقة، ومعلوم أنه لا يمكن تحقيق أي مطلبٍ بدون استخدام أدوات الضغط عبر المظاهرات والاعتصامات، إذا لم يكن المُراد تحشيد الناس للشارع فما هو الهدف؟ هل يمكن الاكتفاء بإبداء التذمّر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أم هل المطلوب هو الاصطفاف خلف أسماء فيسبوكية محدّدة عبر اللايكات والمشاركات؟ ثم كيف يمكن رفع مستوى التصعيد إن بقي ضمن هذا النطاق، هل عبر رفع نبرة الخطاب النقدي، أم الانتقال إلى عرض وثائق تدين السلطة وتثبت فسادها، بدءا من رأس النظام؟
الثالثة: افتقار هذه الانتقادات لرؤية واضحة تؤطّرها، فهي ليست نقدا لسياسات النظام في إدارة شؤون سورية، وبالتالي ليس لديها تعريف واضح للأزمة، باستثناء نقص ساعات الحصول على الكهرباء وغلاء الأسعار مثلا، فهل رفع عدد ساعات التغذية الكهربائية وتخفيض محدّد للأسعار من شأنه إنهاء أزمة المنتقدين مع السلطة؟ وبخصوص الفساد، هل إذا أزيح بضعة فاسدين تتم الإشارة إليهم، من دون القضاء على نهج الفساد بوصفه أحد أدوات نظام الأسد في الحكم، يحلّ المسألة وينهي القضية من أساسها؟
تدلّ مؤشّرات عديدة على أن خلف المنتقدين مراكز قوى داخل بيئة النظام تدفعهم إلى هذا، وتعمل على حمايتهم من بطش النظام، وهذه المراكز متضرّرة بشكل مباشر من احتكار ماهر وأسماء، وبالتبعية بثينة شعبان ولونا الشبل، الموارد وإخراجهم من اللعبة بدون أدنى مكاسب، وبالتالي، يضغطون على الأسد لإعادة صياغة المعادلة بحيث يكونون لاعبا محسوبا حسابه بداخلها. وهؤلاء، أو من يمكن تسميتهم “التيار الجديد” داخل السلطة، سيطوّرون في المرحلة المقبلة أساليب ضغطهم، التي ربما تشمل اغتيالات لبعض من يعتبرونهم رموزا للفساد أو الأدوات التي يستخدمها ماهر وأسماء واجهات لتسيير أعمالهم، وقد يرتكبون أعمالا أمنية لإثبات أن البلاد ستدخل مرحلة فوضى كبيرة إذا لم يجر تصحيح المعادلة الداخلية لصالحهم.
يُخطئ من يعتقد أن بشار الأسد لن يكون قلقا ومتوتّرا في هذه المرحلة، في ظل عدم قدرته على منح هؤلاء أي شيءٍ يسكتهم، ورفضه التنازل عن أي شيءٍ من احتكاراته السورية، فهؤلاء هم حرّاسه وحاضنته والأكثر قدرة على الوصول إلى رأسه، ما يعني أن اللعبة دخلت مرحلة الخطر بالفعل.
المصدر: العربي الجديد