“بي بي سي” تشكك في الوثائق التي طرحها على الوفد حول سبل الخروج من الأزمة الأوكرانية. في وقت كشفت مصادر وزارة الخارجية الروسية عن تلقيها ما يقارب 30 مبادرة سلام حول أزمة أوكرانيا عبر قنوات تواصل رسمية وغير رسمية، عاد الرئيس فلاديمير بوتين في ختام قمة “روسيا – أفريقيا للأزمة كي يشرح أسبابها ومبرراتها نزولاً عند طلب وإلحاح رؤساء وموفدي الدول الأفريقية.
وعقد بوتين ما يمكن وصفه بـ “اجتماع عمل” بمشاركة مجموعة من القادة الأفارقة الذين سبق أن طرحوا مبادرة السلام الروسية – الأوكرانية استمر حتى الساعة الثانية من صباح اليوم التالي، والأخير للقمة الروسية – الأفريقية، على نحو أعاد للأذهان خطابه الذي ألقاه خلال مؤتمر الأمن الأوروبي في فبراير (شباط) 2007، واستهل به مسيرته صوب محاولات تغيير نظام عالم القطب الواحد إلى النظام العالمي الجديد، والحيلولة دون انفراد قوة بعينها بالقانون الدولي، خصماً من رصيد الشرعية العالمية.
عودة للتاريخ
حرص الرئيس بوتين هذه المرة أيضاً على تأكيد أهمية الالتزام بالشرعية الدولية ودور منظمة الأمم المتحدة، والحيلولة دون انفراد قوة بعينها بالقرار الدولي وعدم تجزئة الأمن القائم على المعاملة بالمثل، وقد أبقى بوتين الصحافيين لأكبر قدر من الوقت خلال شرحه الأسباب المحورية للأزمة الأوكرانية في محاولة من جانبه لتفسير ما انتهجته روسيا من سياسات وما نجم عن ذلك من أوضاع ومواقف.
ومن هنا استعرض بوتين مقدمات الأزمة، مشيراً إلى أنها لم تكن وليدة الأمس القريب، وعاد الرئيس الروسي بالتاريخ لأعوام انهيار الاتحاد السوفياتي وما شهدته من إعلان أوكرانيا استقلالها والذي نص على أنها دولة محايدة، وهو ما كان يعني لروسيا أهمية أساسية على حد قول بوتين الذي أوضح أهمية ذلك الأمر ومدى خطورة تلك المحاولات التي بذلتها الدوائر الغربية من أجل جذب أوكرانيا للـ “ناتو”.
وعلى نحو واسع سرد الرئيس الروسي كثيراً من حقائق ما وصفه بالانقلاب الذي قامت به فصائل المعارضة في فبراير 2014 على الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، واستشهد بكثير مما اعترفت به الدوائر الغربية التي حنثت بما وعدت من التزامات، وكان وزراء خارجية بولندا وألمانيا وفرنسا قدموا ضماناتهم إلى الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش التي ركن إليها، وأشار إلى رفض مناطق جنوب شرقي أوكرانيا لذلك الانقلاب وإعلانها الانفصال، وما اتخذته السلطات الأوكرانية من أعمال عدائية ضدها بالطائرات والمعدات الثقيلة والدبابات.
وشرح بوتين ما قامت به روسيا من جهود وفي مقدمها “اتفاقات مينسك” التي جرى إبرامها عامي 2014 و2015 تحت رعاية رؤساء “مجموعة نورماندي”، روسيا وفرنسا وألمانيا، وهي الاتفاقات التي اعترفت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في وقت لاحق وكذلك الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند بأنهما عمدا إلى أن تسهم في توفير المساحة الزمنية اللازمة لتسليح وإعداد الجيش الأوكراني من أجل استعادة المناطق التي أعلنت انفصالها، وليس من أجل التوصل إلى الحلول التي رأتها كييف مناسبة للمشكلة وخرجت بها عن مسارها، بما لم يجر معه تنفيذ أي شيء بدعم من الغرب.
واستطرد بوتين أن السلطات الأوكرانية أصدرت مرسوماً يحظر إجراء أية مفاوضات سلمية مع الجانب الروسي، واستعاد بعضاً من الماضي من خلال أشارته إلى ذلك الحوار والمفاوضات التي جرت في أعقاب اندلاع العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا.
وقال إن الجانبين توصلا إلى مسودة اتفاق حول السلام، في إشارة إلى تلك التي جرى التوصل إليها في مارس (آذار) وأبريل (نيسان) 2022 في إسطنبول تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كما مضى ليشير إلى انسحاب قواته التي كانت تحاصر العاصمة الأوكرانية كييف بناء على طلب الجانب الأوكراني “من أجل تهيئة الظروف المناسبة لإبرام اتفاق نهائي”، وهو ما كان مقدماً “لتخلي كييف عن كل ما جرى الاتفاق حوله”.
وعاد بوتين ليشرح الظروف التي اعترفت معها روسيا باستقلال بعض المناطق الأوكرانية، وقال إن بلاده اضطرت إلى ذلك بعد ثمانية أعوام من إعلان هذه الأراضي استقلالها، وحاولت روسيا التوصل خلالها إلى تحقيق تسوية سلمية للأزمة القائمة، وأضاف أن روسيا فعلت ذلك استناداً إلى ميثاق الأمم المتحدة وأنها وقعت بناء على ذلك “معاهدات صداقة وتعاون ومساعدة متبادلة تكفل تقديم المساعدة بموجب المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة”.
وتوقف الرئيس الروسي عند هذه النقطة ليؤكد عدم “وجود أي انتهاك لميثاق الأمم المتحدة”، مضيفاً ما نصه “نسي شركاؤنا الغربيون كيف تصرفوا في العراق ودمروا هذا البلد وقضوا في النهاية على صدام حسين، ونسوا كيف تصرفوا في ليبيا من دون أي قرار من مجلس الأمن الدولي، ونسوا أنهم خربوا الوضع في السودان، ونسوا أنهم غزوا سوريا، ولقد أرادوا أن يبصقوا على ميثاق الأمم المتحدة، إنهم لا يفكرون في القانون الدولي إلا عندما يعتقدون أنه يمكن استخدام هذه الأدوات ضد شخص ما، وفي هذه الحال ضد روسيا، إنهم لن ينجحوا في ذلك وهي مسألة بدائية للغاية، وإذا كانوا يريدون حقاً أن يلتزم شخص ما بميثاق الأمم المتحدة ومعايير القانون الدولي الأخرى فدعهم يتحملون عناء الوفاء بهذه القواعد القانونية بأنفسهم”.
وكانت “بي بي سي” بادرت في يونيو (حزيران) الماضي بالتشكيك في الوثائق التي لوح بها الرئيس فلاديمير بوتين خلال لقائه الوفد الأفريقي للسلام الذي قام بزيارة سان بطرسبورغ في أعقاب زيارته كييف في إطار مهمته للسلام بوصفها “من صور مسودة اتفاق السلام الذي توصل إليه الجانبان الروسي والأوكراني في إسطنبول”.
وأشارت الصحيفة إلى أن مفاوضات السلام التي تطرق إليها فلاديمير بوتين هي سلسلة من الاجتماعات بين الوفدين الأوكراني والروسي التي عقدت خلال فبراير ومارس 2022، وترأس الوفد الأوكراني رئيس الكتلة الرئاسية في البرلمان الأوكراني ديفيد أراخاميا، بينما ترأس الوفد الروسي مساعد الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الثقافة السابق فلاديمير ميدينسكي.
وخلصت “بي بي سي” إجمالاً إلى أنه تم عقد أربعة اجتماعات وجهاً لوجه لهذه الوفود، ثلاثة في بيلاروس والرابع في إسطنبول، وفي نهاية الاجتماع الأخير أعلن الطرفان أنهما تمكنا من الاتفاق على بيان نهائي.
ما هو بيان إسطنبول؟
بعد محادثات إسطنبول في الـ 29 من مارس وصف الجانب الأوكراني مسودة الاتفاق التي تم اقتراحها على موسكو على النحو التالي:
ستستمر المفاوضات حول وضع شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول مدة 15 عاماً، ويرفض الطرفان استخدام الأساليب المسلحة لحل هذه المشكلة.
تم وضع قضية وضع ومصير المناطق التي يسيطر عليها ما يسمى “الجمهوريات الشعبية” في دونباس في فقرة منفصلة، ويمكن أن يناقشها رئيسا البلدين خلال اجتماع شخصي.
أوكرانيا مستعدة للموافقة على قبول وضع “الدولة خارج الأحلاف غير النووية” في ظل وجود ضمانات واضحة وصارمة من عدد من الدول، ويجب توثيق هذا.
وفي الوقت نفسه تنص الفقرة الأخيرة على أنه في ظل وجود ضمانات أمنية فلن يتم نشر القواعد العسكرية الأجنبية والوحدات العسكرية على أراضي أوكرانيا، ولن تدخل الأخيرة نفسها في أية تحالفات عسكرية سياسية.
من اللافت في هذا الصدد، أن الجدل عاد ليتواصل بين الجانبين الروسي والأوكراني منذ بداية العمليات القتالية، ففي حين يتمسك كل منهما بثوابت موقفيهما تجاه الانسحاب من شبه جزيرة القرم ومناطق جنوب شرقي أوكرانيا وحتى حد بقية “النقاط الـ 10” التي نصت عليها خطة الرئيس الأوكراني زيلينسكي والتي قدمها إلى “مجموعة العشرين” أثناء اجتماعها بإندونيسيا في نوفمبر (تشرين ثاني) 2022، ينطلق الجانب الروسي ومن واقعية براغماتية مؤداها أن هذه الخطة تحتاج إلى “الإرادة والواقعية السياسية واستقلالية القرار”، في إشارة غير مباشرة إلى عدم استقلالية أوكرانيا وتبعيتها للولايات المتحدة الأميركية.
من المعروف أن الرئيس الأوكراني عاد عما سبق وطرحه من أفكار وقدم خطة أوجزها في 10 نقاط، وهي الإشعاع والسلامة النووية والأمن الغذائي وأمن الطاقة والإفراج عن جميع الأسرى والمبعدين، وتنفيذ ميثاق الأمم المتحدة واستعادة وحدة أراضي أوكرانيا والنظام العالمي، وانسحاب القوات الروسية ووقف الأعمال العدائية واستعادة العدالة و مواجهة الإبادة البيئية (تدمير النباتات والحيوانات) وتجنب التصعيد وتأكيد انتهاء الصراع العسكري.
وحول كل ما يصدر عن كييف من خطط أو شروط، قال الكرملين غير مرة إنه سبق وأعلن عن “أنه لا يرى شروطاً مسبقة لمحادثات السلام”، كما استبق دميتري بيسكوف مفاوضات القمة الروسية- الأفريقية بتصريحات تقول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منفتح على مفاوضات التسوية الأوكرانية، تاركاً الساحة للرئيس الروسي أمام مزيد من تعليقات الأخير بهذا الصدد.
وفي الوقت الذي تكاد تصل كل المبادرات السلمية من جانب مختلف البلدان والتكتلات الإقليمية والعالمية إلى طريق مسدود، بما فيها المبادرات الصينية والعربية والأفريقية، تعلن “وول ستريت جورنال” عن قرب مناقشة الأزمة الأوكرانية من منظورها الغربي في السعودية خلال أغسطس (آب) الجاري، وقالت الصحيفة إن المسؤولين الأوكرانيين والغربيين يأملون في التوصل مع نهاية هذا العام إلى مبادئ عامة لتسوية الأزمة من دون مشاركة روسيا.
المصدر: اندبندنت عربية