قد يكون مزعجاً لإيران القول إن الحفاظ أو تقوية “شعرة معاوية” مع السعودية خصوصاً والخليج ودولاً عربية أخرى عموماً، لم ينجح في تخفيف ما يتجاوز صراع المكان والزمان والفكر والعقيدة، وتكرار محاولات الإصلاح لعلاقة شديدة التعقيد يأتي بنتائج أكثر عكسية وشدة عن الفترة التي سبقت التقارب.
مضى أكثر من أربعة أشهر، على توقيع اتفاق استئناف الرياض وطهران علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة منذ عام 2016، بغطاء صيني هذه المرة، لأسباب عدة أبرزها فيما يبدو أن الجانبين أيقنا أنهما ذاهبان إلى الحرب ليس للانتصار فيها، وإنما لمجرد القتال الذي لا طائل منه فلن يزول القدر الذي جمعهما في ذات الرقعة الجغرافيا التي تشاركاها لآلاف السنين، دون أن ينتهي أحدهما من الآخر.
ظٌّن من اتفاق آذار الموقع في بكين، أنه خارق لكل التوقعات والجنون الذي ضرب المنطقة منذ احتلال العراق، وتغير تركيبة الدول نتيجة العبث الإيراني المتسلل من ثغرات الربيع العربي فباتت لاعبا حاسما في مصير أربع دول عربية ومربكة للبقية بطوفان المخدرات والإرهاب وتغذية كل نعرة ممكنة أو متوافرة لنقل وتصدير ثورتها التي باتت كهلة بعد أن طوت نحو أربعة عقود ونيف، من عمرها.
لكن ما إن بردت حرارة اللقاءات ومر موسم الحج، ومواسم التطبيع المتتالية بين طهران ودول خليجية ومساعي لاقتراب من مصر والمغرب، تكشف حجم الخلافات والتباعد المتزايد يوما بعد آخر حتى باتت الأصوات في طهران تتصاعد بحثا عن الأخطاء في المقدمات التي لم تفض للنتيجة التي جرى تسويقها إبان توقيع الاتفاق، وهي بطبيعة حال كانت حالة مكررة بنسخة طبق الأصل عن تفاهم سعودي – إيراني جرى في نيسان عام 2001، ذهب أدراج الرياح سريعا، رغم إتباعه بحوار الأديان والتقريب بين الطوائف، وجرى إعادة أحياءه في بكين عام 2023، لا يبدو أنه مصيره مخالف رغم الفارق الزمني بينهما، فهو أشبه “بلبس حذاء جديد لسلوك نفس الطريق القديم”.
شدة البتاعد بين إيران ومحيطها، لا يتيح كثيرا للباحثين القدرة على تحديد بداية الخلافات، وبالتالي طرق حلها، فكل ما يتم العمل عليه عبارة عن حلول رضائية مؤقتة، لتبريد جبهة مؤقتا أو فتح قنوات حوارية بأصوات أقل علو، لكن تخفي هذه الأصوات كما هائلا من الخلافات منها ما فرضه القدر جغرافيا، وأثقال تاريخية الفاصل بينها وبيننا اليوم أكثر من 1400 عاما.
من اعتقال علي أكبر رائفي بور (أحد أكبر المنظرين الأصوليين المتشددين والمنتقدين للسياسة الخليجة بالإضافة إلى قربه من مرشد الثورة الإيرانية)، بعد أداءه الحج، إلى البيان الروسي الخليجي الذي أعاد فتح ملفات خلافات الحدود بين الدول الخليجية وإيران وخصوصا فيما يتعلق بالجز الاماراتية الثلاث (أبو موسى وطنب الصغرى والكبرى)، وسبقها حقل الدرة الكويتي- السعودي، يبدو أنها كانت لحظة شد عنيفة لـ”شعرة معاوية”، صحت بعدها إيران على سلسلة من التغيرات من قبل من كانت تظن أنهم حلفاء أساسييون (الصين – روسيا) وآخرين محتملين (العرب وتركيا)، فالاتفاق لم يزيل التهديد الإيراني فحسب بل أزال إيران ذاتها من أجندات التعاون معها من الحلفاء بشقيهم الأساسي والمحتمل، الذين باتوا أقرب أكثر فأكثر وباتت إيران وملفاتها على طاولة التبادل كورقة سياسية دون أن يعود بأي فائدة على طهران التي تكتوي اليوم بنار داخلية نتيجة صراعات عدة بين أركانها حول النظرة المستقبلية لدولة مغرمة باستعراض عضلاتها العسكرية.
حقل ألغام
ما بين 2001 و 2023، لم تتغر جذور المشاكل في المنطقة، التي أثمرت مزيدا من التباعد، والتي حولت كل التحركات التي تلت أحدث التفاهمات الخليجية – الإيرانية، عبارة عن فقاعة كالرضى عن نظام الأسد وإعادته للحاضنة العربية، ومن ثم تركيز روسيا والصين على الخليجين أكثر فأكثر، ومنحهم ميزات عسكرية وأمنية وسياسية أيضا، أشعر الإيرانيون بالغبن، ليكون التقارب السائر بهدوء بين الرياض وتل أبيب بعد أن سبقتها الإمارات والبحرين، نقطة يبدو أنها الفصل، فالاشتراك بعلاقات ثنائية مع طهران و تل أبيب أشبه بدخول حق ألغام لا إمكانية فيه إلا لاختيار أي لغم سيفتك بك، إيراني كان أم إسرائيلي.
فترة النقاهة والتداوي بين السعودية وإيران، وذات الكلام ينسحب على كل الدول المشاطئة لإيران، أو المتحالفة معها، دائما ما تشهد انتكاسات مريرة يدفع ثمنها الأكثر ضعفا، وتقرب الجميع من حافة الهافة التي تتمتع إيران في التواجد فيها، ولطالما استفادت منها على جميع الصعد، وإن كان من باب أوسع داخليا، فتشيح أبصار الإيرانيين عن الفساد الديني والأخلاقي والمؤسساتي، والتهاوي الاقتصادي لما بعد القاع، وتسد الشق المتسع بين الأجيال الإيرانية التي بدات سلسلة من الاحتجاجات التصاعدية التي لم تؤت بنتيجة على أرض الواقع لكنها كسرت حواجز كانت تعتبر من الكبائر في سابقات السنوات.
على طاولة الاقتصاد ينتظر أن يجد العرب وإيران طريقا للمودة المفقودة، لكن المكان فيها مزدحما لا سيما أمام العرب، الذين باتوا قبلة للاستثمار، بعد انفتاحات وتراكمات البناء والتأسيس بعد نعمة الطاقة التي تسبح فوقها المنطقة، مقابل عطش لا ينتهي لما تمنّ الأرض به في المنطقة.
على أنقاض ماض مضن، يحفر الجميع بحثا عن أرض صلبة لإعاد البناء، لكن كلما حفروا أكثر ازداوا يقينا بأنه لا يمكن ذلك دون تغير الحفار وإعادة تفسير معنى الأرض الصلبة المنشودة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا