ليس الخلاف الصيني الهندي حدثاً عابراً أو تفصيلاً صغيراً في المشهدين الإقليمي والدولي وخلفياته، الحدود والتيبت والمياه، قضايا وازنة وقابلة للتوظيف والمساومة لتحقيق مكاسب جيوسياسية وجيواستراتيجية. وقد كانت قضية احتلال الصين التيبت وضمّها ودعم الهند زعيمها الداي لاما واستضافتها حكومتها في المنفى سببا لحرب كبيرة عام 1962، خسرت فيها الهند مساحاتٍ شاسعةً من أراضيها، كما وقعت مناوشات متفرّقة بسبب قضية الحدود أعوام 2013 و2014 و2015 و2017 آخرها كان عام 2020 في منطقة لاداغ الحدودية التي أسفرت عن مقتل 20 جنديا هنديا وأربعة جنود صينيين، واستفزازات وضغوط عالية للاستحواذ على مياه المنطقة الحدودية في جبال الهيمالايا؛ فالتيبت خزّان ماء ضخم، حيث تنبع سبعة أنهر من أغزر الأنهر وأطولها في العالم، وحيث بحيرة بانغونغ تسو، التي تمتد على مساحة 160 كيلومترا مربعا بين الهند والتيبت، وقد بنت الصين سدّا على نهر شيوك وحوّلت مجراه نحو أراضيها، فالمياه شديدة الأهمية لدولتين عدد سكان كل منهما يفوق المليار نسمة. لقد كرّس “الخلاف” انعدام الثقة بين الدولتين وانخراطهما في ما سماه المعلقون “تنافسا تعايشيا”.
لعب “الخلاف” دورا محدّدا للخيارات السياسية والتحالفات الإقليمية والدولية لكلا الدولتين، وقاد إلى صراعاتٍ سياسيةٍ ومواجهاتٍ عسكرية، خصوصا بعد قيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949 والتي ناصبت الهند العداء، على خلفية خيارها الديمقراطي، وصفتها بذيل الإمبريالية، ما دفع الهند لاعتبار الصين تهديداً مباشراً لها. وقد ترتّب على “الخلاف” الانخراط في محاور وتحالفات لتوفير سند إقليمي أو دولي وإقامة توازنات سياسية وعسكرية لاحتواء المخاطر وتحقيق الأمن والاستقرار. وعليه، فقد تغيرت التحالفات مرّات، حيث دعمت الصين باكستان ضد الهند، فلجأت الأخيرة إلى الاتحاد السوفييتي، في ضوء انخراطه في خصومةٍ حادّة مع الصين ودخول الأخيرة في شهر عسل مع الولايات المتحدة. وقد ارتبطت سياسات المثلث الهندي الباكستاني الصيني في جنوب آسيا وخيارات أطرافه بكل من المثلث الصيني الهندي السوفييتي، الذي ضمّ القوى الآسيوية الكبيرة، والمثلث الأميركي السوفييتي الصيني، الذي ضم القوى الدولية الكبرى؛ قبل أن تطرأ تغيّرات على المشهدين الإقليمي والدولي، على خلفية انهيار الاتحاد السوفييتي واستقلال دول وسط آسيا وصعود الصين الاقتصادي والعسكري وإطلاق مبادرة “الحزام والطريق” وعودة استراتيجية “التنافس بين القوى العظمى”، وما رتّبته من تغيّر في الخيارات وتبدّل في التحالفات.
قاد انهيار الاتحاد السوفييتي وتعامل الغرب مع الهند باستخفافٍ وتصاعد قوة الصين إلى تبنّي الهند سياسة نفعية قائمة على التهدئة والتعويل على العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري الكبير لتخفيف التوتر مع الصين، والبحث عن حلول دبلوماسية للخلافات حول قضايا “الخلاف” والتقرّب من الصين عبر الانخراط في علاقاتٍ اقتصاديةٍ معها وتنفيذ الشركات الرائدة في الدولتين مشروعات مشتركة، خصوصا في مجال تقنية المعلومات، التي تبرع فيها الهند، أصبحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري للهند، ولا سيما مع انضمامها إلى منظمة شنغهاي للتعاون، إلى جانب الصين وروسيا وباكستان، وإلى مجموعة البريكس، إلى جانب الصين وروسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل، ودخولها في مفاوضات معها حول ترتيبات أمنية على الحدود.
غير أن المناوشة التي وقعت في لاداغ عام 2020 وما تلاها من حشد عسكري صيني وإقامة بنية تحتية عسكرية ومدنية، إنشاء قرى ونقل مواطنين صينيين للسكن فيها، عكست ما اعتبرته الهند “عدائية” صينية صدمت القيادة الهندية، ودفعتها إلى إعادة نظر في مقاربتها قضايا “الخلاف”، وإلى وضع مسألة الاتفاق على ترسيم الحدود شرطا لعودة العلاقات معها إلى طبيعتها، وإلى تبنّي سياسات محلية ودولية بدلالة مواجهة الخطر الصيني. انتقلت على الصعيد المحلي من مساعيها الأولى لزيادة العلاقات وتمتين الروابط الاقتصادية مع الصين، إلى فرض قيود أو تدابير التدقيق الإضافي على مجموعة من الأنشطة الصينية، وإلى فرض قيود على الاستثمارات الصينية وعلى وصول الصينيين إلى عقود الشراء الهندية العامة، وعلى أنشطة الشركات أو المؤسّسات الصينية في القطاعات الاقتصادية الحساسة، وإلى تقليص الاعتماد الاقتصادي على الصين حيث علقت بعض الاتفاقات مع الشركات الصينية أو انسحبت منها كلياً وحظرت عدداً من التطبيقات الصينية الشهيرة، منها منصة التواصل الاجتماعي “تيك توك”، وأبعدت شركات الاتصالات الصينية عن شبكة الجيل الخامس الهندية، واستهدفت سلطات إنفاذ القانون الهندية الشركات الصينية بذريعة انتهاكات تمارسها الأخيرة بالتهرّب الضريبي ونقل المعلومات، وسعت إلى الاستفادة من رغبة دول أخرى في التعاون الاقتصادي معها بتوسيع علاقاتها الاقتصادية والتجارية، وعملت على تطوير قدراتها العسكرية وتحديث الجيش عبر رفع موازنة الدفاع، زاد الإنفاق العسكري من 49.6 مليار دولار في عام 2011 إلى 76.6 مليار دولار في عام 2022.
وعلى الصعيد الخارجي، اتّجهت نحو عقد شراكات سياسية وعسكرية مع دول يمكنها المساعدة في تقوية موقفها في مواجهة الصين في نواحي الدفاع والأمن الاقتصادي والتقنية الدقيقة والحسّاسة، مثل أستراليا وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وسعت نحو توسيع دورها الإقليمي والدولي وتعزيزه، وعملت على ترسيخ صورتها قطبا دوليا فاعلا عبر الدخول في تجمّعات واتفاقيات تعاون اقتصادي مثل صيغة I2U2 مع الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات، وصيغة للتعاون الثلاثي مع فرنسا والإمارات، من دون أن ننسى عضويتها في مجموعة العشرين، فضلا عن صيغ تعاون ثنائي مع قوى إقليمية مثل السعودية ومصر، ومالت نحو التخلّي عن تمسّكها باستقلالها الاستراتيجي بالتقرّب من دول بعينها لمواجهة الخطر الذي تمثله الصين، وأبدت استعدادا أكبر لتعاون وثيق مع الولايات المتحدة، منافس الصين الأول وقائد عملية تطويقها واحتوائها، والانخراط في شراكاتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ معها، وغدت أكثر تقبّلاً للحضور الأميركي في جنوب آسيا ومنطقة المحيط الهندي، وانضمّت إلى المجموعة الأمنية الرباعية “كواد” إلى جانب الولايات المتحدة واليابان وأستراليا، واشتركت في تدريبات عسكرية بحرية مع شركاء لها في الرباعية، مع تراجع حماستها لتكتلي “شنغهاي” و”بريكس”، اللذين انضمت إليهما تحت ضغط شعورها بتجاهل غربي لها.
لقد حدّدت الهند خياراتها في ضوء اعتبار الصين عقبة أمام مصالحها الإقليمية والدولية أكثر من أي دولة غربية؛ لذا اختارت توجيه الدفّة نحو الدول المهتمة بمواجهة وموازنة القوة والنفوذ الصينيين في المنطقة والعالم وكثفت ونوّعت اتفاقياتها مع دول أخرى، فرنسا وإسرائيل، ووقعت اتفاقية دفاع جديدة مع الولايات المتحدة.
رأت الولايات المتحدة في الخلاف الصيني الهندي فرصة سانحة لتوظيف الهند في خدمة استراتيجيتها في المحيطين الهندي والهادئ، والهادفة إلى عزل الصين وتطويقها وتقييد حركتها عبر دعم توجه الهند الجديد بالابتعاد عن الصين تجارياً واستثمارياً، فقدّمت لها حوافز اقتصادية وعسكرية، وعملت على دفعها إلى تحدّي تمدّد الصين والتصدي لنفوذها المتزايد في دول جنوب آسيا، كما عملت على إقناعها بالانخراط في تكتّلات وتحالفات أمنية واقتصادية مع حلفائها في المنطقة والمشاركة في برامج تدريب برّية وجوية وبحرية، واستخدمت الحوافز المالية، عبر توجيه الاستثمارات الغربية نحوها، ووكلتها بإمداد (وصيانة) البحرية الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ولوحت لها بتمكينها من أخذ مكان الصين صناعيا وتجاريا، وتوّجت إغراءاتها بعقد اتفاقية دفاع معها، وقعها الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا دامودارداس مودي، خلال زيارته الولايات المتحدة في شهر يونيو/ حزيران الماضي، التي شهدت ترحيبا مبالغا فيه بمودي عبر إقامة حفل عشاء على شرفه ودعوته إلى إلقاء خطاب في جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ، والتفاهم على مساعدتها على تطوير صناعتها العسكرية، وفتح طرق للتنسيق بينها وبين اليابان، وربما تايوان، لاحتواء الصين.
قاد اعتماد القيادة الصينية الحالية رؤية استراتيجية قائمة على فرض هيمنتها وسيطرتها في جوارها القريب، باعتبارهما ضرورة لتحقيق أمنها الوطني ومدخلا لحماية مصالحها الاقتصادية، والاندفاع الأميركي نحو الهند، إلى تراجع حماسة الأخيرة للتعددية القطبية والتكامل الإقليمي؛ فقد باتت ترى في الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أهمية كبيرة، لأنها لا تساهم فقط في الاستقرار الإقليمي بل وتلعب دورا حاسما في ضمان الأمن العالمي. وهذا، إلى جانب القرب الجغرافي والتداخل التاريخي والروحي، والتوازن العددي في الكتلة البشرية، سيؤجّج الخلاف بينها وبين الصين ويدفعه نحو عتبة صراعية، فالصين الطامحة للعب دور قوة عظمى، وما يستدعيه الدور من ضرورة تعديل النظام الدولي القائم بكسر الانفراد الأميركي ودفع الولايات المتحدة إلى القبول بها شريكا وندّا. وكون منظور الصين للتهديد لا يركز على الهند، وإنما على الولايات المتحدة التي تراها تسعى إلى احتوائها من خلال تحالفها العسكري مع اليابان وأستراليا، ومدّ ساحة عمل حلف شمال الأطلسي (الناتو) نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومن خلال الإمداد العسكري الكبير والنوعي الذي تقدّمه إلى تايوان ووجودها الكثيف في آسيا وتشجيعها النزعة الانفصالية في تايوان والتيبت وترويج فكرة تطوّر سياسي سلمي في الصين من شأنه أن ينهي احتكار الحزب الشيوعي الصيني القوة السياسية، إلا أنها لن تقبل بلعب الهند دورا في تطويقها وعزْلها والحدّ من تمددها في الجوار الإقليمي، خصوصا وهي تمتلك أوراق قوة وميزات عسكرية وتقنيّة واقتصادية تفوق ما لدى الهند كثيرا، فانخراط الهند في الاستراتيجية الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ مغامرة عواقبها ليست في صالح الهند وشعبها، فالهند ضعيفة مقارنة بالصين، خصوصا وهي تحاصرها بتحالفها مع باكستان ونفوذها الكبير في نيبال وبنغلادش وميانمار وسيلان. ولا تخفي معارضتها أي رفع للوضع الدولي للهند ضمنيا أو عن طريق اتفاقيات فعلية مع الهند على أساس كونها دولة نووية، والولايات المتحدة لن تقاتل إلى جانبها في حال انفجار مواجهة مسلّحة بينها وبين الصين، وحديثها عن أرضية مشتركة من القيم الديمقراطية والمؤسّسات مع الهند ليس أكثر من طعم لاستدراجها ووضعها في بوز المدفع.
المصدر: العربي الجديد